في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، غمر المتظاهرون شوارع بغداد احتجاجاً على ارتفاع معدلات البطالة وتفشي الفساد، كانت هذه بداية الاحتجاجات العراقية المستمرة حتى اليوم والتي تواجه حالياً أكبر تحد لها جراء خطة النخب العراقية لقمع الاحتجاجات التي تُعد في الخفاء.
أخذت تلك الاحتجاجات تتضخم خلال الأسابيع التالية لانطلاقها. إذ شارك مئات آلاف من العراقيين في الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة ومدن أخرى في جنوب البلاد. ومع تصاعد التوتر، جاء رد قوات الأمن الحكومية والميليشيات شبه العسكرية التابعة لها بقتل أكثر من 300 شخص، وإصابة نحو 15 ألفاً آخرين، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
القوات الحكومية تستعيد بعض الجسور
أصبحت بغداد في حالةٍ من الهِياج شبه المستمر منذ الشهر الماضي. وفي حين تمكنت القوات الحكومية مؤخراً من استعادة عدد من الساحات والجسور التي كان المتظاهرون احتلوها، فإن ساحة التحرير المركزية لا تزال محور الانتفاضة الشعبية وتحت سيطرة المتظاهرين.
إذ تمتلئ بأنظمة الصوت والخيام الطبية، حتى إن صحيفةً ثورية مجانية تُنشر وتوزع فيها.
وعلى امتداد العقد الماضي، كان بإمكان القادة العراقيين نزع فتيل نوبات احتجاج شعبي متعددة من خلال وعودٍ بإصلاحات، وإجراء تعديلات على حقائب وزارية. غير أن هذا النهج لم يؤت أُكله هذه المرة.
إذ على الرغم من تعهدات حكومة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي بإصلاح قوانين الانتخاب والنظر في إجراء في انتخابات مبكرة، فإن المحتجين لا يزالون في الشوارع، مطالبين الحكومة بالاستقالة وفتح الطريق أمام تغييرات هيكلية أوسع، تشمل مطالبات بوضع دستور جديد للبلاد، ووضع حدٍّ لتجارة شراء وبيع المناصب السياسية، والمحسوبية الطائفية، والفساد الذي عمّ أركان البلاد.
أخطر من داعش
وخلال أكثر من ستة أسابيع بقليل، أخذت الانتفاضة الشعبية تنتفخ لتصبح أكبر تحدٍّ منفرد للنظام السياسي العراقي منذ الغزو الأمريكي في عام 2003.
وباتت، في عديد من النواحي، تشكل خطراً على القيادة العراقية أكبر حتى من التمردات العنيفة التي قادها "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) خلال السنوات الماضية.
إذ زعزعت حركة الاحتجاج الشبابية الثورية المفتقرة إلى قيادة أركانَ الطبقة الحاكمة، وأجبرت سماسرة السلطة من شيعة وسنة وأكراد على تشكيل جبهةٍ موحدة والاصطفاف خلف رئيس الوزراء المحاصر.
وينطوي تكتل النخبة السياسية المنقسمة عادةً، ودعمها الموحد لقمع الاحتجاجات، على عودةٍ إلى الاستبداد والسلطوية، وصعودٍ لـ"جمهورية خوف" في العراق، تُماثل تلك التي كانت الولايات المتحدة وزعماء العراق الجدد قد أقسموا من قبل أن لا تعود مرةً ثانية أبداً بعد سقوط صدام حسين.
الاحتجاجات على وتيرة مختلفة هذه المرة
تخطّت حكوماتٌ عراقية سابقة موجاتِ احتجاجٍ في أعوام 2009 و2011 و2015، و2016. حتى إنَّ آخر موجات الاحتجاج هذه شهدت اقتحام أنصار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر المنطقةَ الخضراء المحصنة في بغداد، لكنهم عادوا إلى ديارهم بعد أن أجرت الحكومة تعديلات على وزرائها. غير أنّ ما حدث هذه المرة هو أنّ التعهدات المعتادة بإصلاحاتٍ تجميلية لم تُفض إلى إخماد التظاهرات، ومن ثم بدأ كبار السياسيين الداعمين لحكومة عبدالمهدي في وصف المحتجين بأوصاف تشنيعية: مثل أنهم مجموعة من المخربين.
والحقيقة هي أنَّ الانتفاضة الحالية تختلف عن حلقات الاضطراب السابقة في مناحٍ جدّ مهمة. إذ في حين كانت الحركات الاحتجاجية السابقة يقودها أعضاءٌ من النخبة الفكرية والسياسية، وتنزع إلى السعي لتغييرٍ تدريجي، وتجتذب مشاركين من مختلف الفئات العمرية (ما يقرب من ثلث متظاهري بغداد في عام 2015 كانوا من الذين تجاوزت أعمارهم 50 عاماً)، فإن المظاهرات الحالية ليست بقيادة حزب معين أو حركة فكرية محددة.
والأهم من ذلك هو أنَّها ترتكز على دعمِ شريحةٍ أصغر سناً بكثير في المجتمع، والتي لم يسبق أن كان لها مشاركةٌ كبيرة في السياسة حتى الآن.
إضافةً إلى أنّ حركة الاحتجاج اليوم لا تسعى وراء مجرد توفير خدمات أحسن أو وظائف أفضل، بل تعكس إرادة قوية في طور التشكل ترمي إلى إحداث تغيير جذري في البلاد. إنها تسعى إلى استعادة "الشرف والكرامة" لأشخاص يشعرون أن النظام السياسي الحالي لا يُبادلهم سوى اللامبالاة والقسوة.
أخذت حالة السخط بين الشباب العراقي تتصاعد حتى بلغت نقطة الغليان. إذ يرى الشباب ثروات النفط الهائلة للدولة تختفي في جيوب النخب السياسية والتجارية، في حين لا يتبقى سوى أقل القليل للاستثمار في التعليم والبنية التحتية وخلق فرص العمل.
وارتفعت نسبة البطالة بين الشباب لتصل إلى نحو 30%. كل هذا إلى جانب أن الجيل الأصغر سنّاً ليس لديه ذكريات أو مخاوف تتعلق بالحياة في ظل نظام مثل دكتاتورية صدام حسين.
وكل ما يعرفه هو النظام السياسي الذي تشكّل تحت رعاية الولايات المتحدة في عام 2005، عندما أُجري اتفاق لتقاسم السلطة بين أحزاب شيعية وسنية وكردية، وأوكلها إلى نخبة الفصائل الثلاث من خلال ضمان مواقعها في نظام الدولة عبر شبكة واسعة من المحسوبية ومحاباة الأتباع.
نجم عن ذلك كله، أن بات عديد من الشباب العراقي يشعر في ظل النظام الحالي بأن آفاقه الاقتصادية لا تنفك تضيق شيئاً فشيئاً، في الوقت الذي تستمر نخبة حاكمة متصلّبة في إثراء نفسها.
أين ذهب الصدر؟
كانت مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول بدأت بدعوات مألوفة إلى توفير وظائف وخدمات حكومية أفضل، لكنها سرعان ما تحولت إلى حركة رفضٍ شامل للنظام. ولم تكن النخب السياسية والفكرية المعتاد قيادتها ومشاركتها في مثل تلك الاحتجاجات قريبة بأي شكل من موقع الصدارة والتعبئة هذه المرة.
فقد أخذ مقتدى الصدر، على سبيل المثال، يقضي معظم الأسابيع الستة الماضية في إيران، وهو ما أفضى إلى استبعاده كلياً من سيرورة الاحتجاجات. لم تكن لتلك المظاهرات قيادة مركزية واضحة، ونتيجة لذلك أخذ الزعماء العراقيون يبذلون قصارى جهدهم لعزل الأفراد الذين يمكنهم التحدث نيابة عن المتظاهرين.
تمثل الانتفاضة في غموضها، وفي افتقارها إلى انتماء سياسي واضح، وفي مطالبها التي لا هوادة فيها؛ تنديداً واسع النطاق لنظام "ما بعد صدام حسين" السياسي.
ولم تُزد حملات القمع الوحشية التي شنّتها الحكومة المتظاهرين إلا عزماً، وها هي مطالبهم تتصاعد الآن إلى مساءلة النخب الحاكمة ومحاسبتها على أعمال العنف التي وقعت خلال الأسابيع الأخيرة، وكذلك عن سنوات الفساد التي سبقتها.
الأحزاب العراقية المتنافسة تتوحد في مواجهة هذا الخطر
إزاء الخطر الوجودي الذي يهددها، عمدت الأحزاب السياسية الرئيسة في العراق الآن إلى الاصطفاف جنباً إلى جنب وإغلاق ثغراتها.
وكان كثير من المراقبين للسياسة العراقية، على مدى السنوات الماضية، قد أخذوا يحتفلون بابتعاد البلاد عن الطائفية الصريحة في سياساتها.
وكانت انتخابات عام 2005، وهي أول انتخابات تشهدها البلاد بعد إطاحة صدام، قد برز عنها كتلة شيعية موحدة وكتلة كردية موحدة، إلى جانب كتلة علمانية أصغر مع بعض الزعماء السنة. على النقيض من ذلك، أتت انتخابات العام الماضي لتسفر عن عدد كبير من الأحزاب المتنافسة المختلفة داخل كل مجموعةٍ دينية أو عرقية.
لكن الانقسامات بين الطوائف المختلفة ليست الوحيدة التي بات هناك حاجة إلى جسرها. إذ باتت المنافسة الأهم على مدى السنوات القليلة الماضية مشتعلة داخل الطائفة الشيعية ذاتها، وتحديداً بين الصدر ومجموعة من القادة المتحالفين مع إيران، والذين من بينهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى جانب وزير النقل والمواصلات السابق وقائد قوات الحشد الشعبي الحالي فالح الفياض، وهي جماعات مسلحة موالية للحكومة كان لها دور مهم في هزيمة داعش بشمال العراق. وشهدت انتخابات عام 2018، صعود الكتلة البرلمانية للإصلاح الممثلة للتيار الصدري إلى جانب كتلة "البناء" بزعامة هادي العامري، وكلاهما بزعامة قادة إسلاميين شيعة، يتنافسون منافسة حامية مع الحلفاء السنة والأكراد.
لكن المتنافسين عادة فيما يتعلق بالسياسات العراقية اليومية، الصدر والفياض، عمدوا الآن إلى إيقاف النزاعات بينهما وإزاحتها جانباً، في سبيل الاصطفاف في مواجهة الانتفاضة الشعبية.
وأخذ العامري منذ اندلاع الاحتجاجات يدعم حكومة عبدالمهدي، ويعقد اجتماعات مع المجموعات الشيعية والسنية والكردية، لتوسيع كتلة البناء التابعة له لتصبح أغلبيةً صريحة في البرلمان.
حتى الأكراد مصممون على حماية النظام الذي منع عنهم الاستقلال
وشملت هذه اللقاءات مناقشات مع مسؤول كبير في "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، والذي أخبر كاتب التقرير أنه قد بُعث إلى بغداد في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني في "مهمة مستحيلة" لضمان بقاء النظام السياسي الحالي.
وللقيام بذلك، انضم إلى خصومه السابقين الذين حرموا حزبه قبل بضع سنوات من فرصة إجراء استفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق.
وفي الوقت نفسه أخذت أصوات الاحتجاجات تُسكت الصدر إلى حدٍّ كبير، وهو الذي اعتاد دائماً القيام بدور المُشعِل والمحرّض، ما أدى به إلى الاقتراب شيئاً فشيئاً إلى أقرب منافسيه السياسيين.
كان الصدر، على مدى السنوات القليلة الماضية، انتقد في كثير من الأحيان النفوذ الإيراني الضخم في العراق، وهي انتقادات تظهر وثائق المخابرات الإيرانية التي جرى تسريبها أنها حتى أكبر بكثير مما كان يُعتقد في السابق.
علاوة على أنه في نهاية هذا الصيف، كان قد شرع في توجيه انتقادات علنية ضد حكومة عبد المهدي. ومع ذلك، فإنه عندما عمّت الاحتجاجات البلاد في أكتوبر/تشرين الأول، لم يظهر الصدر في المظاهرات سوى مرةٍ واحدة في مظاهرة في النجف.
وقال لأتباعه إنهم أحرار في انضمامهم إلى الاحتجاجات، لكن ليس في استدعاء اسمه.
وعندما هتف أنصاره "إيران بره بره بغداد تبقى حره"، الهتاف الذي اعتادوا النداء به لسنوات، خرج الصدر يُحثّهم على عدم التعرض لـ "جهات فاعلة خارجية"، أي بعدم التحدث ضد إيران.
وفي الوقت الذي أخذت الحركة الشعبية تستوعب مزيداً من شيعة العراق، ظل الصدر المتراجع سياسياً يمدّ إقامته في إيران. ومع ذلك، فقد لا يكون هو والفياض قد أصبحا حلفاء مقرّبين، غير أن الاحتجاجات –إلى جانب الإجبار المحتمل من طهران- قد أفضت إلى تخفيف حدّة التنافس بينهما.
وهكذا لم تعد المنافسة الرئيسة في السياسة العراقية بين فصيليهما، بل الصراع المشتعل بين شباب منتفض ودولة مذعورة.
جمهورية العنف تعود من جديد.. خطة النخب العراقية لقمع الاحتجاجات
كلما ازداد عجز الحكومة عن نزع فتيل الثورة المتنامية من خلال وسائل أخرى، أخذت هي وحلفاؤها في التحول إلى مزيدٍ من استخدام العنف.
وانتهجت القوات الحكومية والجماعات المسلحة شبه الحكومية إطلاق الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع مباشرة على المتظاهرين. وعمدت وزارة الاتصالات إلى قطع شبكة الإنترنت، للحيلولة دون انتشار الفيديوهات التي توثق وحشية الدولة انتشاراً فيروسياً. ورفعت المحاكم قوانين مكافحة الإرهاب مستنداً يسوّغ لقوات الأمن قتل المتظاهرين.
وأخذت الحكومة تحاول، وهي تعرف أن أعين العالم عليها، تجنب مذبحة كمذبحةِ ميدان "السلام السماوي" في الصين، ولذا بقيت ساحة التحرير إلى حدٍ كبير تحت سيطرة المتظاهرين. لكن، عوضاً عن ذلك، نفّذت الحكومة خطةً أكثر تدريجية، أخذت تنتقل فيها من مدينة إلى أخرى، يوماً بعد يوم، تنشر مجموعات حكومية وشبه حكومية وميليشيات تابعة لها، مخفيةً سلسلة القيادة لتلك المجموعات.
وتسمح تلك الاستراتيجية للسلطات بالتهرب من أي مسؤولية مباشرة، وإظهار كما لو أن العنف يأتي من عدة جهات.
لكن هذا العنف لم ينجم عنه سوى مزيد من السخط وتنامي الشعور بالظلم بين المتظاهرين. لقد صدمهم للوهلة الأولى استعداد الدولة لقتلهم وتشويههم، لتتصاعد مطالبهم من مجرد توفير وظائف وإجراء إصلاحات إلى المطالبة بنظامٍ سياسي جديد تماماً.
وهم، وإن حصلوا على دفعة من آية الله العظمى علي السيستاني، رجل الدين الشيعي البارز، بعد أن حث المتظاهرين على البقاء في الشوارع ومواصلة الهتاف بمطالبهم، فربما يظل الطريق الذي سلكوه طريقاً عسيراً. إذ بدلاً من الاستجابة للمتظاهرين واستيعاب مطالبهم، اختار قادة عراق ما بعد صدام إعادةَ إحياء أدوات القمع الغليظة، للحفاظ على سيطرتهم وإطالة أمد بقائهم في السلطة.