مع حلول الذكرى السنوية الثالثة لحصول مصر على الدُفعة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي، تعد نتائج هذا القرض مختلطةً تماماً. فبينما تمكنت الدولة من إصلاح برنامج الدعم الحكومي بدرجةٍ كبيرة، وخفض عجز ميزانيتها، وتعزيز احتياطياتها، وتخفيض قيمة الجنيه، دفع المواطنون العاديون تكلفة كبيرة. إذ أسفرت تدابير التقشف التي طُبِّقت لتحسين الكفاءة في السوق، إلى جانب تخفيض قيمة الجنيه، عن تدمير قوتهم الشرائية، ودفعت الكثيرين منهم إلى الفقر.
القرض الذي تحوَّل لعنة على المصريين
تقول وكالة Bloomberg الأمريكية، ليست هناك مكاسب تُذكَر مقابل تحمُّل كل هذا الألم. إذ أصبحت الصادرات في انخفاض مستمر، وصارت قيمة مؤشر مديري المشتريات سالبةً في كل شهر تقريباً منذ بدء الحصول على القرض -مشيرةً إلى انكماشٍ اقتصادي خارج قطاع النفط والغاز- فيما يتضاءل الاستثمار الأجنبي المباشر في القطاعات غير النفطية.
ومع أنَّ العديد من المتغيرات المؤثِّرة قد تساعد في تفسير هذه الإحصاءات المخيبة للآمال، فإنَّ النشاط الاقتصادي الذي يمارسه الجيش المصري من خلال شبكة موسعة من الشركات التابعة له يُمثِّل عنصراً أساسياً في ضعف الأداء الهيكلي طويل الأجل لمصر وفشلها في الاستفادة بشكلٍ صحيح من الإصلاحات الصعبة المهمة التي أجرتها في السنوات القليلة الماضية.
وصحيحٌ أنَّ الجيش يؤدي دوراً هائلاً في الاقتصاد المصري منذ عهد الرئيس جمال عبدالناصر. إذ يتنافس الجيش مع القطاع الخاص في إنتاج مجموعة من السلع الاستهلاكية، بدءاً من المياه المعبأة في زجاجات إلى الأجهزة المنزلية. ولكن منذ انقلاب عام 2013، أصبح الجيش أشرس في توسيع إمبراطوريته الاقتصادية.
إمبراطورية الجيش المصري
ولعل أحد الأمثلة على ذلك هو قرار القوات المسلحة في العام الماضي 2018 بناء مصنع أسمنت بقيمة مليار دولار بالرغم من زيادة فائض الطاقة الإنتاجية لمصانع الأسمنت بدرجةٍ كبيرة عن احتياجات السوق. ونتيجة لذلك، تعرَّضت شركات تصنيع الأسمنت الخاصة، التي تعاني بالفعل بسبب زيادة المعروض وارتفاع تكاليف المدخلات، لضغوط أكبر. لدرجة أنَّ مصنع طرة للأسمنت المملوك لشركةٍ ألمانية أوقف إنتاجه بالكامل في صيف العام الجاري 2019 بسبب زيادة المعروض في السوق.
ومع تزايد شركات الجيش، يضطر المستثمرون، سواءٌ الأجانب أو المحليون، إلى التعامل مع الوضع المُثبط المتمثل في التنافس مع مؤسسةٍ تحظى بمجموعة من المزايا النسبية، مثل الإعفاءات الضريبية ولوائح تنظيمية أكثر مرونة، وعمالة تتقاضى أجوراً أقل، والوصول المتميز إلى الائتمان. حتى إنَّ نجيب ساويرس، الذي يعد أحد أبرز رجال الأعمال في مصر، اشتكى في مقابلةٍ أجريت معه مؤخراً من أنَّ هذه المزايا تعرقل الاستثمار في القطاع الخاص.
وإلى جانب ضرب المنافسة في السوق، فالإعفاءات الضريبية لشركات الجيش تضر بوضع الدولة المالي. فنظراً إلى أنها تستحوذ على حصتها في السوق من الكيانات الخاصة الخاضعة للضرائب، تُخفِّض بذلك حجم القاعدة الضريبية في مصر.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ نسبة الضريبة إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد منخفضة بالفعل، وتبلغ حوالي 14%. وللحد من العجز وإنهاء الاعتماد على التحفيز القائم على الديون، تحتاج الحكومة إلى رفع هذه النسبة، لكنَّ توسيع نشاط الجيش الاقتصادي غير الخاضع للضرائب يعوق هذا الجهد.
السيسي يوزع كعكة البنية التحتية على الجيش
وعلى صعيدٍ آخر، منح الرئيس عبدالفتاح السيسي بعض شركات الجيش سلسلةً من العقود بالأمر المباشر لتحديث البنية التحتية المهملة في مصر منذ فترةٍ طويلة. وصحيحٌ أنَّ هذه السياسة قد تعزز الدعم الذي يحظى به السيسي بين ضباطه، لكنَّها تزيد قيمة فاتورة البنية التحتية الكبيرة بالفعل في مصر. ونظراً إلى التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد واحتياجات البنية التحتية الكبيرة المقبلة، فهذا النهج مُدمِّر، وربما لن يمكن تحمُّله مستقبلاً.
وكذلك فسيطرة الجيش على الحكومة وأولوياتها الإنفاقية تشجع سلوك السعي وراء الريع، في ظل التركيز على المشروعات التي ستفيد شركات الجيش. إذ أشرفت إحدى شركات الجيش على توسيع قناة السويس، فيما تدير شركةٌ أخرى من شركاته مشروع إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة في الوقت الحالي.
وما يزيد الطين بلة أنَّ الطبيعة الاستبدادية للدولة تمنع المستثمرين من الوصول إلى المعلومات الضرورية لاتخاذ القرارات الاستثمارية. فمعظم وسائل الإعلام مملوكةٌ للدولة أو مؤسساتها. فضلاً عن أنَّ البيانات الحكومية مشكوك فيها. إذ واجهت مزاعم البنك المركزي بتعويم الجنيه تكذيباً حين كشف تقريرٌ أنَّ البنك المركزي كان يستعين بالبنوك الحكومية الكبيرة لتحقيق الاستقرار في قيمة الجنيه، وفرض تثبيت سعر الدولار سراً.
وفي السياق نفسه، طرح السيسي فكرة إدراج شركات الجيش في البورصة المصرية، واصفاً تلك الخطوة بأنها فرصة للقطاعين العام والخاص للاستثمار في شركات الجيش والاستفادة منها. إذ ستحتاج شركات الجيش إلى تحسين شفافيتها بدرجةٍ كبيرة من أجل الامتثال للوائح التجارة العامة.
لكنَّ بعض المنافسين في القطاع الخاص يشعرون بالقلق من أن الدولة قد تمنح هذه الشركات إعفاءً قانونياً آخر يتيح لها إمكانية الاكتتاب العام بمستوى أدنى من الإفصاح. وهذا لن يمنحها أفضليةً أخرى على شركات القطاع الخاص فحسب، بل سيضر كذلك بنزاهة البورصة المصرية.
السيطرة على النمو والتقدم
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ أولوية حُكَّام مصر لطالما كانت السيطرة على النمو، وفرض وصايتهم على التقدم. وقد أدى ذلك إلى ظهور فئة من الأطراف ذات المصالح -أبرزها الجيش- التي لا ترى فائدة من الإصلاحات اللازمة لإخراج البلاد من الفقر، مثل الحد من الإجراءات الروتينية الصارمة وجعل اللوائح أكثر اتساقاً وتماسكاً وتطبيقها بفعالية، وتبسيط الإجراءات الجمركية، وتعزيز استقلال القضاء، وإخضاع شركات الجيش لنفس الأعباء الضريبية والتنظيمية المطبقة على شركات القطاع الخاص.
فمثل هذه الإصلاحات ستتطلَّب التخلي عن السلطة للمدنيين. لذا فمنع تسليم السلطة للمدنيين يساعد في الحفاظ على أفضلية الجيش التنافسية على القطاع الخاص.
وبدون هذه الإصلاحات، فأي مظهر من مظاهر التحسن سيكون مجرد مظهر خارجي. وربما يكون برنامج صندوق النقد الدولي قد حقق استقرار الوضع المالي في مصر، لكنَّه لم يضع البلاد على طريق النمو المستدام أو الانتعاش القابل للاستمرار. ولذلك، يُحجِم المستثمرون عن المشاركة في مصر في الوقت الراهن، كما هو مبين في أرقام مؤشر مديري المشتريات السالبة والمستويات المنخفضة للاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي يُضَخ معظمها في قطاع النفط والغاز. لذا فبين تكلفة الوصاية، والاستثمارات المفقودة، وعدم استقرار السوق، يعد تدخل الجيش في الاقتصاد المصري ترفاً لم يعد بإمكان الدولة تحمُّله.