لا يزال راشد الغنوشي، مؤسس ورئيس حركة النهضة الإسلامية في تونس، التي تواصل حضورها في الحكم منذ نهاية 2011 وحتى اللحظة، الرجل القوي في هذا الحزب، واللاعب الأساسي في المشهد السياسي التونسي، بعد أن تم انتخابه رئيساً للبرلمان الأربعاء 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
وباتت حركة النهضة اليوم أول قوة في البرلمان التونسي (52 مقعداً) من دون أن تحصل على الغالبية، إذ تم انتخاب الغنوشي بـ 123 صوتاً من أصل 217، بعد دعم حركة قلب تونس له. وهذه أول مرة يتولى فيها الغنوشي منصباً رسمياً منذ عودته إلى تونس من منفاه الذي استمر لأكثر من عقدين. فكيف وصل إلى هنا؟
البداية من قرية بسيطة
وُلد الشيخ راشد الغنوشي في 22 يونيو/حزيران عام 1941، في قرية الحامة بولاية قابس التونسية. ونشأ في أسرة بسيطة تعمل في الزراعة، وشارك الأسرة العمل في الحقل وبيع المحصول بجانب دراسته. وتسبَّب ضنك العيش الذي كانت تعيشه الأسرة في انقطاع الغنوشي عن الدراسة لمدة عام، جراء تعثر الأب في توفير المصروفات الدراسية.
وتلقَّى تعليمه الأساسي والجامعي في تونس، إذ حصل على شهادة في أصول الدين من جامعة الزيتونة في تونس العاصمة. وعُيّن في بداية حياته معلماً في قصر قفصة عام 1963، حيث عمل على جمع المال اللازم لاستكمال دراسته الجامعية.
محطات في القاهرة ودمشق وباريس
في أكتوبر/تشرين الأول عام 1964، اتجه لدراسة الزراعة في جامعة القاهرة بمصر. لكن سرعان ما حال الظرف السياسي دون استكمال الغنوشي لدراسته، إذ شُطب اسم الطلاب التونسيين من القوائم بعد ثلاثة أشهر، وطلبت السفارة التونسية في مصر منهم مغادرة البلاد بسبب تصاعد التوتر السياسي بين النظام الناصري والرئيس التونسي آنذاك الحبيب بورقيبة، بشأن اغتيال المعارض السياسي صالح بن يوسف، الذي دعمه الرئيس المصري جمال عبدالناصر.
وكانت دمشق هي المحطة التالية للغنوشي، حيث حصل على شهادة في الفلسفة عام 1968، ثم انتقل في العام نفسه إلى جامعة السوربون في باريس لاستكمال دراساته العليا.
بحسب ما نقلت "بي بي سي" عربي، فخلال إقامة الغنوشي في مصر، أُعجب بالتوجه الناصري وتشبَّع به. وكان قومياً ناصرياً، يرى ضرورة توحيد الفكر الناصري مع التيارات القومية الأخرى مثل حزب البعث. وحمل معه هذا الإعجاب إلى سوريا. لكن، بحسب موقع الغنوشي الرسمي، لم يدُم هذا الإعجاب سوى عام واحد.
وفي أعقاب ذلك، نأى الغنوشي بنفسه عن الانتماء لأي توجه سياسي حتى عودته إلى تونس في أواخر ستينيات القرن العشرين. وكان بورقيبة يعمل آنذاك على دعم التوجه الإسلامي لمواجهة المد اليساري والماركسي.
العودة لتونس.. بعد رحلة الانتقالات الفكرية
في عام 1970، انضم الغنوشي إلى جمعية المحافظة على القرآن، بجانب عبدالفتاح مورو وعدد من الشخصيات التي أصبحت رموزاً سياسية في حركة النهضة لاحقاً. وعملت هذه المجموعة على تقديم دروس في المدارس والجامعات والمساجد.
وفي أبريل/نيسان 1972، عُقد المؤتمر التأسيسي للجماعة الإسلامية في تونس، والتي تغيَّر اسمها إلى "حركة الاتجاه الإسلامي" في ثمانينيات القرن العشرين، ثم أصبحت "حركة النهضة" عام 1989.
وحوكم الغنوشي مرتين في ظل نظام بورقيبة، الأولى عام 1981 بتهمة "التورط في أعمال إرهابية"، وحُكم عليه بالسجن 11 عاماً، قضى منها ثلاثة ثم خرج عام 1984 في عفو رئاسي.
أما المرة الثانية فكانت في سبتمبر/أيلول 1987، إذ حُكم عليه بالسجن المؤبد، ثم طلب بورقيبة تغليظ العقوبة إلى الإعدام. لكن وصول زين العابدين بن علي إلى الحكم في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام حال دون تنفيذ الحكم.
وفي مايو/أيار 1988، أمر بن علي بإطلاق سراح الغنوشي، الذي حاول الاندماج في المشهد السياسي الجديد، وتقدم بطلب لتقنين أوضاع حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقاً) في مطلع عام 1989.
لكن نظام بن علي رفض طلب الغنوشي، ورفض ترشح أعضاء حركته في الانتخابات. وعمد إلى التضييق على الحركة وأعضائها سياسياً حتى غادر الغنوشي البلاد في أبريل/نيسان 1989، ولم يعُد إليها حتى عام 2011.
الغنوشي في المنفى
انتقل الغنوشي إلى الجزائر، ثم إلى السودان، حيث أقام حتى حصل على اللجوء السياسي في بريطانيا في أغسطس/آب 1993.
وما بين مغادرة تونس والوصول إلى بريطانيا، صدر بحق الغنوشي حكمان بالسجن مدى الحياة بتهمة التآمر ضد رئيس الدولة. وطوال سنوات المنفى، حاول الغنوشي الاستمرار في نشاطه السياسي، فظل رئيساً لحركة النهضة، ودأب على حضور المؤتمرات والندوات الدولية عن الإسلام السياسي والإسلام والحداثة.
وبعد سقوط نظام بن علي، عاد الغنوشي إلى تونس في 30 يناير/كانون الثاني 2011، وكان في استقباله الكثير من مؤيديه ومؤيدي حزب النهضة. وقال ناطق باسمه آنذاك إن الغنوشي "يدرك جيداً أنه لن يترشح لأي انتخابات ولن يترشح لأي منصب سياسي". كما أعلن سعيه لتسليم قيادة الحركة لجيل جديد من الشباب.
لاعب أساسي في المشهد التونسي
لكنه منذ ذلك الحين، أصبح واحداً من أهم اللاعبين في المشهد السياسي التونسي. وتحالفت حركة النهضة بقيادته مع حركة نداء تونس لصياغة الدستور الجديد ما بعد الثورة.
مؤخراً، ترشح الغنوشي للانتخابات النيابية التي جرت في السادس من أكتوبر/تشرين الأول لأول مرة في تاريخه ونجح عن دائرة تونس العاصمة.
وكان حزب حركة النهضة قد أعلن التوجه نحو خيار المدنية في مؤتمره العام في 2016 وتمت إعادة انتخاب الغنوشي رئيساً له بالرغم من معارضة عدد من القيادات بسبب التباينات المختلفة داخل الحركة التي نشأت خلال السنوات الأخيرة، كما تقول وكالة الأنباء الفرنسية.
في السياق، كان مصدر مقرب من الغنوشي للجزيرة قال إن الأخير كانت له في السابق طموحات فعلية لترؤس الحكومة، لكن هذا الطموح سرعان ما تبدد وتغيرت بوصلته نحو رئاسة البرلمان بعد تعاظم حجم الرفض لشخصه.
واعتبر المصدر ذاته أن سيناريو ترؤس الغنوشي للحكومة كان لا يعدو كونه ورقة ضغط لتحسين شروط التفاوض ليس فقط لخصومه المعنيين بتشكيل الحكومة، بل لشورى النهضة ممن يرفضون قطعياً التمديد له لعهدة جديدة خلال المؤتمر المقبل.
وسبق أن وصف القيادي في النهضة العجمي الوريمي حالة الانقسام بين قيادات النهضة لتولِّي الغنوشي منصب رئاسة الحكومة بأنه اختلاف في التقدير بين النهضويين للمكانة الاعتبارية للرجل.
وكانت أحزاب عدة فائزة في الانتخابات التشريعية قد أكدت بشكل علني رفضها الدخول أو منح الثقة لحكومة تشكلها أو تترأسها النهضة، وأعلنت بالمقابل تمسكها بحكومة كفاءات تترأسها شخصية مستقلة، ومن بين هذه الأحزاب التيار الديمقراطي (22 مقعداً)، وحركة الشعب (15 مقعداً)، وقلب تونس (38 مقعداً).