قدَّم أحد المطاعم في العاصمة الأردنية عمّان وجبات مجانية لزبائنه في اليوم الذي استعادت فيه الأردن أراضيها التي ظلت مؤجرة لإسرائيل طوال السنوات الـ25 الماضية. لكن بخلاف ذلك، لم تكن هناك أية مواكب احتفال في الأردن، ولا عروض ألعاب نارية، ولا حتى أية تصريحات احتفالية، مما يدفع إلى التساؤل حول لماذا لم يفرح الأردنيون بهذا الأمر؟
وقال صحفي أردني يعمل لدى جريدة الدستور الأردنية، في تصريح لصحيفة Haaretz الإسرائيلية: "تلك الأراضي التي استأجرتها إسرائيل من الأردن هي ملك لنا، واستعدناها وفقاً للاتفاقية. ليس هناك ما يدعو للاحتفال أو التهليل بأننا حققنا انتصاراً. هذه ليست أرضاً محتلة حررناها"، بحسب تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
لماذا لم يوافق الأردن على التأجير؟
وبحلول شهر يناير/كانون الثاني الماضي، بات واضحاً للعاهل الأردني الملك عبدالله، وكذلك لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أنَّ تجديد اتفاقية التأجير لفترة أخرى لن يسير بسلاسة، هذا إن أمكن تجديده على الإطلاق. ففي أثناء ذلك الشهر، اندلعت مظاهرات عاصفة في الأردن طالب فيها المحتجون بإلغاء فرض ضريبة جديدة على الدخل، وفي الوقت نفسه طالبوا بإنهاء اتفاقية تأجير الأراضي لإسرائيل. وخلال الأشهر العشرة التالية، حاولت إسرائيل الخروج ببدائل مختلفة للإبقاء على حيازتها للأرض، لكن الغلبة كانت للضغط الشعبي وغضب الأردنيين تجاه إسرائيل بسبب سياساتها إزاء القدس المحتلة.
وعقب إعادة تشكيل الحكومة الأردنية في مايو/أيار، بدأ أعضاء البرلمان الأردني يضغطون من أجل تحديد مستقبل الأراضي المؤجرة لإسرائيل. وتجنّب رئيس الوزراء منح إجابة واضحة بالقول: "حين تأتي اللحظة المناسبة سنبلغ البرلمان قرارنا، وعلى أية حال سنتخذ قرارنا بما يتفق مع مصالح المملكة الوطنية".
وجُنِّدت واشنطن أيضاً للضغط على العاهل الأردني لتمديد الاتفاقية، لكن كانت هذه هي واشنطن نفسها التي تجاهلت الملك عبدالله الثاني عندما وضعت "صفقة القرن"، بل وتمادت في إثارة غضب الملك حين دعمت ضغوط المملكة العربية السعودية من أجل الحصول على حق السيطرة على الأماكن المقدسة في القدس المحتلة. وعندما عرض جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فكرة تشكيل اتحاد كونفدرالي مع الأردن من دون أن يسأل الأردن أولاً، وصل التوتر إلى ذروته، وهو ما انعكس في التعليقات الحادة من المتحدثة الرسمية باسم الحكومة الأردنية جمانة غنيمات التي قالت: "الاقتراح لا يستحق النقاش".
من حق الأردن أن يغضب
وبحسب الصحيفة الإسرائيلية، تفاقم قلق الأردن المستمر حول تحوله إلى "دولة بديلة" للفلسطينيين عندما عقد ترامب مؤتمر البحرين، الذي استنبط الأردن منه أنه يُنتظَر منه تحمل عبء استيعاب ملايين اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه. يضاف إلى هذا لا مبالاة إسرائيل بمشروع ربط البحر الأحمر بالبحر الميت الذي يمثل أهمية كبيرة للأردنيين، وكذلك وقف المساعدات الأمريكية لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وأخيرا احتجاز مدنيين أردنيين في إسرائيل لفترة طويلة، اللذين لم يُطلَق سراحهما إلا مؤخراً.
ولم يعد الأردن يحمل في جعبته ما يمكن أن يشكل ورقة ضغط؛ لكن كانت هناك اتفاقية تأجير الأراضي التي وقعت أسيرة للسياسات الأمريكية والإسرائيلية. ومن ثم، فحين بدأ البرلمان والشعب في الأردن يتساءلان عن السبب الذي يجعل حكومة بلادهما تسمح للمزارعين من إسرائيل باستخدام أراض أردنية من دون تعويض، لم يكن لدى الملك أي خيار سوى إسكات الانتقادات بإعلان إنهاء الاتفاقية وإعادة الأراضي للمملكة.
الأزمة الاقتصادية الداخلية
ولا يقف الضغط الشعبي ضد العلاقات بين المملكة وإسرائيل بمعزل عن الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الأردن، التي تُضعِف ثقة الشعب وولاءه -ويمكن أن نقول حتى إنها تدمره- اللذين ظل الملك ينعم بهما طوال 20 عاماً مضت على اعتلائه العرش. فخلال الأشهر الأخيرة، شهدت شوارع العاصمة عمان، ومدن إربِد والكرك والزرقاء وغيرها، احتجاجات عاصفة لشباب يطالبون بتوفير فرص عمل، التي خسروها لصالح مئات الآلاف من السوريين اللاجئين في الأردن.
لكن الاحتجاجات والانتقادات لم تقتصر على الشوارع. فخلال فصل الربيع الماضي، أصدر الملك قراراً بتعديل وزاري، شمل 7 وزارات من حكومة الرزاز، وأقال مدير المخابرات عدنان الجندي على خلفية صلاته بأعضاء من البرلمان وبعض كبار المسؤولين الأردنيين قيل إنها "استهدفت تقويض الصالح العام للدولة". ومن غير الواضح ما إذا كانت هناك بالفعل مؤامرة لشن انقلاب على الملك، أو أنَّ هذه القرارات اتُخِذَت لاستعراض السيطرة وتحييد المنافسين المحتملين، لكن من الواضح أنَّ المظاهرات في الشوارع احتجاجاً على الوضع الاقتصادي شكَّلت أرضاً خصبة لأي شخص يرغب في استغلالها لأغراض سياسية أو دبلوماسية.
الخوف من انتقال حمى التغيير
وخلال اندلاع مظاهرات عنيفة في لبنان والعراق الشهر الماضي، سَرَت مخاوف إلى البلاط الملكي من أن تمتد هذه الاحتجاجات إلى الأردن، يرافقها صحوة للربيع العربي. لذا، سعياً للتصدي لهذا الاحتمال، تبنى الرزاز سلسلة من الإجراءات الاقتصادية بهدف تهدئة الشارع. وشملت هذه زيادة رواتب موظفي الحكومة، وتمرير قانون لتشجيع الاستثمار، وتحسين الخدمات العامة، والإصلاح الإداري.
وقال العاهل الأردني، في اجتماع لمجلس الوزراء الشهر الماضي: "آن الأوان لاتخاذ قرارات وإجراءات واضحة تحفز الاقتصاد الوطني وتلامس حاجات المواطنين المعيشية وتخفف البطالة". لكن لم تقدم هذه التصريحات أي جديد؛ فالأردنيون سمعوها لمراتٍ لا تُحصى من قبل. وفي الوقت نفسه، ارتفع معدل البطالة إلى 20%، مع استقرار معدلات النمو عند 2%، وتجاوز الدين الحكومي 42 مليار دولار. وقد تكون الخطوط العريضة للإصلاح صحيحة، لكن لن تُرَى نتائجه إلا على المدى المتوسط والمدى الطويل، ولم يعد الشعب يطيق الانتظار.
ومن ثم، قرَّر الملك تقديم شيئ ملموس للشعب من خلال مراجعة القانون الذي يسمح بسجن الغارمين الذين يعجزون عن سداد ديونهم. يُذكَّر أنَّ هناك ما يقرب من 300 ألف دعوى قضائية تصطف في المحاكم الأردنية ضد غارمين من جهات خاصة، بعضها ضد أشخاص من أفقر طبقة في المجتمع، الذين يشكلون 15% من السكان. ومن بين الخطوات الأخرى التي لا تزال بانتظار التنفيذ: تخفيض رسوم تسجيل الأراضي وزيادة حجم الشقق التي ستُعفى من ضريبة الشراء أو الضرائب العقارية. وبالرغم من أنَّ هذه الخطوات أبسط من أن تنتزع المملكة من أزمتها الاقتصادية، لكن يمكنها على الأقل تهيئة مناخ أهدأ.
التغير الوزاري وانعكاساته
وتزامنت هذه الخطوات مع قرار ملكي بإعادة هيكلة أخرى لحكومة الرزاز، وهي التغيير الوزاري الرابع منذ تولى رئيس الوزراء منصبه في يونيو/حزيران من العام الماضي. وهذه المرة اختار الملك وزراء من شخصيات تكنوقراط لتعزيز الكفاءة الاقتصادية للحكومة. وفي الوقت نفسه، أنهى إضراباً للمعلمين دام شهراً، وهو الأطول في تاريخ البلاد، بعد أن قرَّر زيادة رواتب المعلمين بنسبة 35%. والآن تخشى الحكومة من خرق عقود الأجور في القطاعات الأخرى، وهو تطور من شأنه أن يفاقم عجز الموازنة ويسفر عن اقتطاع آخر من الأموال المخصصة للخدمات العامة.
وحتى الآن لا تمثل الهشاشة المالية للمملكة والانتقاد العلني للبلاط الملكي تهديداً لنفوذ الملك عبدالله الثاني، لكنهما يجبرانه على التحرك بحذر شديد حتى لا تصبح الأزمة وسيلة في يد أولئك الذين يعارضون معاهدة السلام مع إسرائيل أو علاقات الأردن مع الولايات المتحدة. ومن ثم، ففي الوقت الذي يستخف فيه ترامب بالمملكة ولا يبدو أنه يفهم العلاقة بين الاقتصاد الأردني وسياسته، فينبغي لإسرائيل الامتناع على الأقل عن تقويض المصالح الدبلوماسية للأردن.