لماذا نجحت التجربة الديمقراطية التونسية بينما أخفقت بباقي بلدان الربيع العربي؟ ما الذي فعله التونسيون ولم يقم به نظراؤهم في باقي البلدان العربية التي شهدت ثورات مماثلة؟ وما أسرار تونس السبعة التي يجب على العرب تعلّمها؟
التجربة التونسية ليست مثالية بل محمّلة بالمشكلات، لكنها تظل الأفضل عربياً وتثبت عدم صحة خرافة أن الإسلام والمجتمعات العربية لا تتوافق مع الديمقراطية، حسب ما ورد في تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
مهد الربيع العربي يتفرد بقصته الخاصة
لا تخفى على أحد قصة اندلاع شرارة الثورة التونسية. ففي ديسمبر/كانون الأول من عام 2010، أضرم بائع خضار في منتصف العشرينيات اسمه محمد البوعزيزي من بلدة سيدي بوزيد النار في نفسه خارج مبنى حكومي محلي.
كان هذا التصرف من البوعزيزي بمثابة احتجاج على سوء المعاملة المستمر من ضباط الشرطة والمسؤولين المحليين، وسرعان ما انتقلت تداعيات هذا التصرف إلى سائر أنحاء البلاد.
وفي ظرف أسابيع قليلة، كان الرئيس زين العابدين بن علي قد تنحى عن الحكم وهرب من البلاد بعد 23 عاماً في السلطة، ليمنح تونس فرصة غير مسبوقة للدخول إلى الديمقراطية.
وبعد ذلك اجتاحت موجة عارمة من الثورات دول الجوار، لتصل إلى دول الخليج وبلاد الشام.
لماذا نجحت التجربة الديمقراطية التونسية بينما فشل الأشقاء الآخرون؟
غير أن ما حدث داخل تونس نفسها بعد ذلك أقل شيوعاً. ورغم أن البلاد أصبحت منطلق الربيع العربي، فإن التحول الديمقراطي فيها سرعان ما غطت عليه الأحداث في دول عربية أخرى أكثر اكتظاظاً وأعمق ارتباطاً بالولايات المتحدة الأمريكية وتخضع لسطوة حكام أشد قسوة بطبيعتهم من زين العابدين بن علي. ولكن بعد مرور ما يقرب من عِقد من الزمن، لا تزال تونس قصة النجاح الوحيدة وسط كل الثورات العديدة.
ففي أنحاء العالم العربي، تحولت الثورات في الكثير من الدول التي بدت في البداية وكأنها ستسير على خطى تونس إلى حربٍ أهلية، كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن. وعادت دول أخرى، مثل البحرين ومصر، إلى أنظمة الحكم القمعية والشمولية.
أما تونس، على الجانب الآخر، فقد صاغت دستوراً تقدمياً وعقدت انتخابات حرة ونزيهة على المستوى الرئاسي والبرلماني وعلى مستوى البلديات.
وفي يوليو/تموز، حين مات الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي عن عمر بلغ 92 عاماً، كان انتقال السلطة إلى حكومة تصريف أعمال سلساً وخالياً من أي شيء يؤبه له.
ولا تزال هناك العديد من المشكلات التي تعرقل مسيرة البلاد، لا سيما في ظل المسار الطويل من سوء الإدارة الاقتصادية وغياب الثقة في المؤسسات الحكومية على نحو يحدث ارتباكاً.
ولكن، ورغم كل الأمور التي لا يزال على تونس أن تتمها، لا يزال النموذج الذي تقدمه مصدراً للأمل في كافة أنحاء المنطقة.
أول أسرار النجاح: قادة شجعان
وبتحقيق هذا الإنجاز المبهر، ساعدت تونس في تبديد أسطورة أن الإسلام أو المجتمعات العربية غير مؤهلة للديمقراطية.
غير أن قصة تونس تقدم دروساً أخرى تتجاوز العالم العربي: مفادها أن الخلاص من الشمولية يستلزم قادة شجعاناً مستعدين لتقديم مصلحة البلاد على المصالح السياسية، وأن هذا التحول بطبيعته يتسم بالفوضى والتعثر. وما يعنيه هذا بالنسبة للمجتمع الدولي هو أن الدول التي تمر بحالة تحول تحتاج إلى دعم دبلوماسي وفوق كل ذلك دعم مال لتحمّل آلام المخاض الديمقراطي وتجاوزه بأقل ندوب ممكنة.
كوارث خلّفها بن علي.. أكبر العوائق
ورثت تونس في مرحلة ما بعد الثورة دولة في حالة ماسّة إلى الإصلاح. وقد عرف عن نظام بن فساده، وتبديده لخزائن الدولة وتحويل أموالها إلى حسابات بنكية تعود إلى ليلى الطرابلسي زوجة بن علي وعائلتها.
وكانت الحكومة تفضل بعض المناطق الساحلية، متجاهلة جنوبها والأجزاء الداخلية منها، وهي المناطق التي اندلعت منها الثورة لاحقاً.
غاب التنافس السياسي، وكان الخصوم المحتملين لحزب بن علي الحاكم، التجمع الدستوري الديمقراطي، إما محظورين بشكل صريح أو مجبرين على العمل تحت قيود صارمة تجبرهم على البقاء في الهوامش. وكل من دخل في صدام مع النظام تعرض للحبس والتعذيب.
لم يكن الخروج من هذه التركة الثقيلة أمراً سهلاً.
ثم ظهر جدل الدين والعلمانية
وفي السنوات الأولى التي تلت خلع بن علي تحمّلت البلاد انتكاسات خطيرة. وكان الجدل الدائر حول دور الدين في الحياة العامة مثيراً للانقسام بشكل خاص. ذلك أن نظام بن علي كان يفخر بالتزامه بالنهج العلماني في التعامل مع حقوق النساء في بلد يدين 99% من سكانه بالإسلام على المذهب السني.
وحين ظهرت حركة النهضة الإسلامية في تسعينيات القرن العشرين، على الفور حظرها بن علي ونكل بعشرات الآلاف من أعضائها إما بالحبس أو الاعتقال.
ولكن حين انتخب التونسيون اللجنة التأسيسية لصياغة دستور ما بعد الثورة في خريف 2011، في أول انتخابات ديمقراطية تشهدها البلاد، حازت النهضة أغلبية الأصوات، لتشتعل بذلك معركة حول التوجه الذي سيذهب فيه التحول الديمقراطي في البلاد.
ومن بين الإشكالات التي أثارت جدلاً واسعاً كانت مكانة المرأة في الحياة المدنية والسياسية.
يقول خصوم الإسلاميين أنه بالنسبة للنهضة، تعد المرأة "مكملاً" للرجل.
غير أن هذا التوجه أغضب غير الإسلاميين، الذي خشوا من أن كتابته في الدستور يمكن أن تفتح باباً خلفياً للتمييز على أساس النوع.
وانتصر الرأي المعارض في النهاية. غير أن عملية صياغة الدستور فضحت وجود انقسام كبير داخل المجتمع التونسي.
السر الثاني: "النهضة" الفائزة تتنازل بعد أزمة قومية
بفضل فوزها في انتخابات عام 2011 تمكنت حركة النهضة من تشكيل ائتلاف حاكم ثلاثي مع حزبين آخرين علمانيين أصغر منها حجماً، لتفرض قدراً من النظام وسط حالة الفوضى التي أعقبت الثورة. لكن هذه الصورة كانت على السطح فقط، ومن تحتها ظل الوضع غير مستقر لعدة أسباب بينها خوف العلمانيين من الأجندة الإسلاموية لحركة النهضة ومن كونها تمثل عودة إلى الحكم الشمولي.
وفي عام 2013، تراكمت حالة الإحباط من الحكومة التي تقودها حركة النهضة لتتحول إلى أزمة قومية.
وفي فبراير/شباط من العام نفسه، اغتال متشددون إسلاميون زعيم المعارضة اليساري المشهور شكري بلعيد. أشعلت عملية الاغتيال تظاهرات حاشدة، واتُهمت الحكومة بالتراخي في مواجهة التطرف العنيف.
ودعا الاتحاد العام للشغل إلى أول إضراب عام منذ عام 1978، ليشل أوصال البلاد لأيام. وبعد شهور قليلة اغتيل قائد يساري آخر هو محمد براهمي، اندلعت مظاهرات أوسع نطاقاً. وأصبح المتظاهرون يطالبون بحل الجمعية التأسيسية.
السر الثالث: المنظمات الأربع التي قادت الوساطة
كان من الممكن بسهولة أن تؤدي حالة الفوضى البالغة إلى حرف مسار العملية الانتقالية برمتها. غير أن إخفاقها في ذلك كان في المقام الأول بسبب عمل أربع منظمات قوية من منظمات المجتمع المدني وهي: الاتحاد التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين، ودخلت المنظمات الأربع في محادثات في صيف عام 2013. مثل "رباعي الحوار في تونس"، كما بات يعرف فيما بعد، مكونات مختلفة لها مصالح متباينة، غير أن أعضاءها سرعان ما اتفقوا على مسار للمضي قدماً، بالدعوة إلى قانون جديد للانتخابات وتعيين رئيس وزراء ومجلس وزراء جديدين، وتبني الدستور الذي طال تأخره. وبعد ذلك توسطت في حوار وطني بين الأحزاب السياسية الرئيسية. اقتنعت النهضة بعد هذا الحوار بالتنحي لتصعد حكومة تكنوقراط إلى السلطة.
كما ساعد رباعي الحوار اللجنة التأسيسية للدستور في حل الإشكالات العالقة في الدستور الجديد.
وفي يناير/كانون الثاني 2014، مرر النواب النص الجديد بتصويت كانت نتيجته شبه إجماع.
لم تكن هذه المرة الأخيرة التي ساعد فيها بناء ائتلاف تونس ما بعد الثورة في تجاوز لحظة اضطراب وعدم يقين.
والانتخابات بدا أنها ستفضي لمواجهة
ففي نهاية عام 2014، عقدت البلاد أول انتخابات برلمانية ورئاسية حرة في تاريخها. كان التنافس شريفاً، غير أن الإقبال كان ضعيفاً قياساً على زخم اللحظة ورمزيتها (بلغ 48% ممن يحق لهم التصويت)، ما أشار إلى أن تونس ليست الديمقراطية المفعمة بالحياة التي كان يصبو إليها العديد من الناس.
كما أن نتائجها بدت وكأنها تضع تونس على بداية طريق المزيد من النزاع. ذلك لأن السبسي، المرشح الرئاسي الذي حاز أغلب الأصوات، كان علمانياً عنيداً وأحد أركان نظام تونس ما قبل الثورة وكان واضحاً في عدائه لحركة النهضة.
وكان حزبه -نداء تونس- عبارة عن ائتلاف هشّ للأحزاب غير الإسلامية ونشطاء غير إسلاميين جمع بينهم عداؤهم للنهضة دون وجود الكثير من نقاط الاتفاق الأخرى بينها.
وبالتالي كانت مفاجأة للإسلاميين وغيرهم على حد سواء حين شكّل السبسي بعد فترة وجيزة من الانتخابات ائتلافاً مع حركة النهضة.
السر الرابع: ولكن تبين أن الشيخين التقيا سراً
وتبين بعد ذلك أن السبسي كان يلتقي سراً بزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، في تطور بارز نظراً لأن السبسي سبق أن عمل وزير خارجية للنظام السابق الذي سجن الغنوشي وعذَّبه.
وقد بعث تقاربهما علناً رسالة قوية لعامة الناس مفادها أن أيام الخصومة السياسية المريرة أصبحت جزءاً من الماضي. وأن تونس الديمقراطية ستضم قادة من جميع المشارب؛ الإسلاميين والعلمانيين، المحافظين والليبراليين.
ومما زاد الأمور سوءاً وجود حدود مشتركة بين تونس وليبيا، التي غرقت في حرب أهلية سمحت بازدهار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وكان بوسع المتطرفين التونسيين عبور الحدود دون ضجيج إلى ليبيا وتلقي التدريب في معسكرات داعش ثم العودة إلى البلاد لتنفيذ هجمات داخلها؛ كما فعل منفذو هجومي باردو وسوسة.
ولا يزال المتطرفون يختبأون حتى اللحظة في الجانب الآخر من البلاد، في الحدود الجبلية بين تونس والجزائر، ومن هذا المعقل ينفذون بشكل دوري هجمات على نطاق صغير ضد قوات الأمن التونسية.
ويعود الفضل بشكل عام للمساعدة الغربية في تحقيق الحكومة تحسناً كبيراً في قدراتها على مكافحة الإرهاب. ولكن لأن تونس الديمقراطية الوحيدة في المنطقة فقد أصبحت هدفاً بشكل خاص للجماعات الإرهابية.
فخلال الصيف الماضي، دعت القاعدة وتنظيم داعش المقاتلين لإعادة تركيزهم عليها.
وقد ساعدت المساعدة الأجنبية البلاد في عدد من المجالات، بينها مكافحة الإرهاب، غير أنها تركز دائماً على أن الدافع الأساسي للتغيير يأتي من الداخل.
السر الخامس: الغرب بقيادة أوباما سارع بتقديم الدعم الذي يهدد ترامب بوقفه
وقبل عام 2011، كانت الروابط الأمريكية مع تونس شبه معدومة. حين وصل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى السلطة سعى إلى فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي، وأعلن بوضوح -على خلاف سلفه جورج بوش- أنه ليست لديه أي نية لفرض الديمقراطية على العالم العربي.
ولكن حين اجتاحت الحركات الشعبية المطالبة بالديمقراطية المنطقة، كانت إدارة أوباما مصرّة على حمايتها، ولو في البدء على الأقل.
وألقت بثقلها خلف التظاهرات من الناحيتين المالية والخطابية. وزارت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تونس بعد أقل من شهرين من فرار بن علي لتؤكد دعم تونس للتحول الديمقراطي.
وقفزت المساعدات الثنائية لتونس من 15 مليون دولار عام 2009 إلى 26 مليون دولار عام 2011. وقدمت البرامج متعددة الأطراف مئات الملايين من الدولارات الإضافية، ليصل إجمالي المساعدات الأمريكية إلى أكثر من 1.4 مليار دولار منذ عام 2011. (حاولت إدارة ترامب قطع تلك المساعدات بدرجة كبيرة في كل ميزانية من الميزانيات المقترحة، بما يتسق مع جهودها لقطع المساعدات الأجنبية على مستوى العالم، غير أن اتساق دعم الكونغرس أبقى المساعدات على حالتها). كما رفع الاتحاد الأوروبي والدول التابعة له دعمها في السنوات التي تلت الثورة، لتقدم بذلك 2.65 مليار دولار بين عامي 2011 و2017.
والنتيجة قصة نجاح سياسي وتعثر اقتصادي
ورغم المساعدات لا تزال تونس تواجه العديد من المعوقات. إذ اقترب معدل البطالة في تونس من حوالي 30%، ويشهد التضخم ارتفاعاً.
ومنذ عام الثورة، زاد معدل الانتحار لما يقرب من الضعف، وغادر ما يقرب من 100 ألف من حاملي الشهادات العليا والعمالة الماهرة البلاد.
وأصبحت تونس مؤخراً البلد الذي يصل منه أكبر عدد من المهاجرين إلى إيطاليا عن طريق البحر بعد أن كانت إريتريا. ولإبطاء وتيرة هذا المعدل وتحسين آفاق الاقتصاد التونسي، ستحتاج الحكومة إلى اتخاذ تدابير ستثير غضب الشارع، مثل تخفيض الرواتب في القطاع الحكومي. وسيتطلب هذا مواجهة الاتحادات العمالية القوية في تونس، لا سيما الاتحاد التونسي للشغل الذي نجح في كثير من الأحيان في شل الحياة في البلاد بفعل الإضرابات الجماعية.
غير أن الإحجام عن العمل لن يؤدي إلا إلى إبعاد المانحين الدوليين وتسريع هجرة العقول التونسية والهجرة الجماعية وانضمام التونسيين للجماعات المتطرفة.
وما زالت الدولة العميقة تقاوم الإصلاح
كما يعد إصلاح مؤسسة الحكومة المتصلبة أولوية أخرى. لا تزال منظومة القضاء تحتاج إلى إصلاح بشكل عام. ذلك لأن العديد من القضاة يعودون إلى عهد بن علي.
الأكثر جسامة هو أن البلاد ليس لديها حالياً محكمة دستورية؛ ذلك لأن المشرعين عاجزون بشكل عام عن الاتفاق على هوية مَن سيقوم بتعيين قضاتها.
وقد وجد أول برلمان منتخب ديمقراطياً والذي استمر في العمل من 2014 إلى أكتوبر/تشرين الأول 2019، صعوبة بالغة في تمرير التشريعات وشهد حالات تغيب كبيرة في أوساط النواب عن حضور الجلسات، ذلك لأن ما يقرب من نصف أعضائه كانوا يتغيبون عن الجلسات كل يوم تقريباً.
أهم عنصر على الأجندة هو استعادة ثقة العامة في تونس. ذلك لأنه بحلول بداية عام 2019، كان 34% من التونسيين يثقون في الرئيس، و32% فقط يثقون في البرلمان، وفقاً لاستطلاع رأي أجراه المعهد الجمهوري الدولي.
وفيما يتعلق بالطريقة التي اختار بها الناس التعبير عن مشاغلهم فإن العديد منهم، لا سيما الشباب، يفضلون اللجوء إلى الشارع عن اللجوء إلى صندوق الاقتراع. إذ تشهد البلاد 9000 مظاهرة كل سنة، أغلبها تخرج في المناطق التي جرت العادة على تهميشها وهي المناطق التي اندلعت منها الثورة.
السر السادس: إشراك النساء والشباب في المحليات
وليس لهذه المشكلة حلٌّ سهل، غير أن القوى الأكبر الآخذة في التحول على المستوى المحلي يمكن أن تساعد في حلها.
وكانت أول انتخابات محلية عقدت في مايو/أيار 2018، خطوة في الاتجاه الصحيح. ذلك لأنها أدخلت إلى تونس واحداً من أهم متطلبات المساواة بين الجنسين في أي قانون انتخابي على مستوى العالم، بشغل النساء لـ 47% من مقاعد المجلس المحلي؛ كما فتحت الأبواب أمام المرشحين الشباب، إذ شغل الشباب تحت سن 35 عاماً نسبة 37% من المقاعد.
السر السابع: السير وراء الشعب من عوامل النجاح
يسارع التونسيون إلى الرد بأن بلادهم ليست نموذجاً يمكن قصّه ولصقه في أي سياقات وطنية أخرى.
غير أن تجربتهم لا تزال تحمل دروساً مهمة حول كيفية دعم الديمقراطية. بالنسبة لمن هم خارج المشهد التونسي، فإن الدرس المستفاد بالنسبة لهم هو أن يحافظوا على مسافة من التجربة.
فقد نجحت تونس ليس بفضل وجود أجندة موالية للديمقراطية تقودها دول أخرى، وإنما بفضل غياب وجود جهود كهذه.
ذلك أن التحول الديمقراطي قد بدأ بدعوة شعبية للتغيير، ثم دخل المانحون الأجانب والشركاء الدوليون لدعمها.
وقد جعل هذا من الصعب على الحكومة تشويه التظاهرات باعتبارها مدفوعة من الخارج أو مشروعاً استعمارياً جديداً.
ينبغي على الولايات المتحدة وأوروبا أن تسمحا -حيثما أمكن- بحدوث تغيير دون تدخل سابق لأوانه.
وبمجرد أن يحدث التحول الديمقراطي بالفعل، ينبغي أن تسارع الحكومات الخارجية إلى تقديم الدعم المالي والتدريب. وفي الأماكن التي يبدو التغيير فيه غير محتمل الظهور من تلقاء نفسه، ينبغي أن يستفيد المانحون الأجانب من المساعدات المشروطة ويقدموا قدراً أكبر من الأموال للدول التي تفي بمؤشرات محددة من الناحيتين السياسية والاقتصادية. وتعد مؤسسة تحدي الألفية (Millennium Challenge Corporation) ومبدأ "المزيد مقابل المزيد" الذي يتبعه الاتحاد الأوروبي، وكلاهما لمكافأة الدول التي تقوم بالإصلاح السياسي والاقتصادي، مثالاً على هذا المنهج.
يمكن للديمقراطيات الشابة من جانبها أن تتعلم من النموذج التونسي فيما يخص الإجماع السياسي.
ولا يجب نسيان دور الرجلين اللذين أنقذا تونس
كان من الممكن للتحول الديمقراطي أن يفشل بامتياز عام 2013 إذا أخفق قائدان، أي الغنوشي والسبسي، في تقديم الديمقراطية والتعددية على طموحاتهما السياسية.
إذ غالباً ما يقع قادة الديمقراطيات الناشئة تحت إغراء الأنماط الشمولية في التصرف والترويج لأجنداتهم الخاصة من خلال الاستئثار بالسلطة.
غير أنه في المراحل الأولى للتحول الديمقراطي يحتاج القادة إلى تقاسم المساحة السياسية وتقديم التعددية على الإقصاء، بحيث يستقر الوضع السياسي بما يسمح بمنافسة سياسية صحية.
وعلى نحو مشابه، ينبغي على الديمقراطيات الناشئة أن تأخذ في الاعتبار قصة أزمة الجمعية التأسيسية التونسية. وطوال السنوات الثلاثة الأولى، عملت الحكومة الجديدة في تونس دون توجيه لتصرفاتها.
واليوم، وبعد ما يقرب من 6 سنوات من إقرار الدستور، لم يتم تنفيذ قدر كبير منه. ولا تزال العديد من الجهات التي ينص عليها الدستور، مثل المحكمة الدستورية، قيد التشكيل. لذا فإن الدول التي تشهد تحولاً ستصنع لنفسها معروفاً من خلال وضع قواعد واضحة للعبة من البداية ووضع خط زمني واقعي ويتسم بالكفاءة لتشكيل المؤسسات الحيوية التي ستعمل على إنجاح الديمقراطية.
ومع ذلك، ثمة قيود لما يمكن تعلمه من تونس. ويصدق هذا بشكل خاص على كون تجربتها لا تقدم جواباً شافياً حول كيفية وضع تسلسل للإصلاحات السياسية والاقتصادية.
تظل نقطة الضعف في الاقتصاد المحتضر
اختار قادة تونس التركيز على التجديد السياسي، بصياغة دستور جديد وعقد انتخابات وإنشاء مؤسسات سياسية.
وهم بذلك تركوا الاقتصاد يحتضر ودون عقد اجتماعي سليم.
وبالنسبة للعديد من التونسيين، لم يقدم النظام الجديد للمواطن الكرامة التي طالب بها في 2010، ونتيجة لذلك، فقد العامة ثقتهم في المؤسسات الديمقراطية الجديدة.
غير أن محاولة إصلاح الاقتصاد قبل خوض غمار تحدي الإصلاح السياسي كان من الممكن أن يأتي بنتيجة عكسية كذلك. إذ لم يكن هناك ضمان على أنه بمجرد تحسن الاقتصاد، سيظل قادة المرحلة الانتقالية ملتزمين بالإصلاح الديمقراطي. وفي نهاية المطاف، لا مفر من التحديات الاقتصادية أثناء التحول الديمقراطي، وربما يكون الحل الناجع الوحيد هو أن يقدم من هم خارج تونس شبكة أمان أقوى من خلال ضمانات القروض ودعم الموازنة العامة للدولة والاستثمار الأجنبي المباشر أملاً في استبقاء الدعم الشعبي للديمقراطية.
درس لا يفهمه المستبدون.. لماذا كان مصير بن علي أفضل من القذافي؟
تونس هي منارة الأمل للحركات الموالية للديمقراطية في أرجاء الشرق الأوسط، ولكن حتى بالنسبة للعديد من السلطات الشمولية في المنطقة، فإن التحول الديمقراطي الناجح في المنطقة أكثر من مجرد إشارة تحذير، وذلك لوجود مصائر أسوأ يمكن تواجهها تلك السلطات.
ربما لا يبدو مصير زين العابدين بن علي طريداً في السعودية أمراً مستحباً بالنسبة لهم؛ ولكنه على الأقل أفضل من مصير غيره ممن رفضوا الانصياع لإرادة الناس، سواءً كان الموت على يد المتمردين (كما حدث مع معمر القذافي في ليبيا)؛ أو أن تشهد البلاد على يدهم الانزلاق إلى سنوات من الحرب الأهلية والدمار والكوارث الاقتصادية (بشار الأسد في سوريا)؛ أو كلا الأمرين (علي عبدالله صالح في اليمن).
هذه المصائر المتباينة ستبدو كبيرة في أذهان الحكام إذا ما وجدوا أنفسهم في مواجهة تظاهرات شعبية اليوم.
وفيما يخص العديد من النشطاء في المنطقة، تقدم تونس ملاذاً آمناً أقرب بكثير من أوروبا أو الولايات المتحدة، كما أنها تمثل مثالاً للديمقراطية العربية يستحق المحاكاة والتنافس.