هل سمعت ما يقال عن قيام السلطات المصرية بتفتيش الهواتف المحمولة للمواطنين بحثاً عن مظاهر لانتقاد النظام أو السخرية منه، الأمر ليس مجرد شائعات، ولكنها تجربة حقيقية تعرض لها العديد من المصريين، ويبدو أنها جزء من خطة لوأد المظاهرات قبل أن تبدأ.
ولكن المشكلة أن نهاية هذه التجربة كانت مأساوية بالنسبة لبعض من خاضوها.
وخلال الأسبوع الذي سبق الجمعة 27 سبتمبر/أيلول 2019 التي دعا فيها المقاول محمد علي للتظاهر ضد الحكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، أشيع أن الشرطة تقوم بعمليات تفتيش عشوائي لهواتف المارة بحثاً عن فيديوهات محمد علي أو ما يشير إلى أن صاحب الهاتف يتبنى مواقف معارضة.
وتركت هذه الأنباء أثراً كبيراً في الشارع المصري، وفي هذا التقرير نورد تجربتين واقعيتين لرجلين من الطبقة الوسطى المصرية تعرضا لعملية تفتيش الهاتف حيث رويا لـ"عربي بوست" التفاصيل وتداعيات هذا الموقف الذي أصبح علاقة فارقة في حياتهما.
واثق الخطى يمشي منتقداً
هاني ش.. شاب في منتصف الثلاثينيات من عمره، واحد ممن يصطلح على تسميتهم في مصر صغار رجال الأعمال، كره الوظيفة في بداية حياته العملية واتجه لبيع وشراء السيارات المستعملة.
هاني الذي يملك أسرة صغيرة من زوجة وطفلين كان دائم الانتقاد لنظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، حيث لا تخلو جلسة معه على المقهى الذي يتجمع فيه "شلة الأصدقاء" في الهرم دون أن يفتتح هاني جلسة الانتقادات الحادة للنظام، خصوصاً أن الشاب يشعر بأنه بات يملك ثأراً مع السيسي الذي حاصر مجال عمله منذ أن تولى مهام الرئاسة.
فخلال 5 سنوات من البقاء في قصر الاتحادية مقر الرئيس المصري، تم سن وتغيير العديد من القوانين والإجراءات التي تضيّق في مجملها عمل هاني وأمثاله، بداية من الارتفاع المطرد في أسعار الوقود ثم أسعار السيارات نفسها بعد تحرير سعر الدولار في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016، الأمر الذي دفع من لديهم سيارات صغيرة للحفاظ عليها وعدم التفكير في شراء سيارات أكبر، وبالتالي "توقف" جزء كبير من سوق العمل في تجارة السيارات المستعملة.
ثم جاءت الطامة الكبرى بقرار اتخذ قبل شهور بعدم صلاحية توكيل السيارة لأكثر من 3 شهور وألا يعاد بيعها بموجب توكيل وإنما يجب أن تكون مرخصة في المرور، وهو قرار يصفه هاني بالكارثة لأنه فرض عليه ترخيص أي سيارة يشتريها باعتباره وسيطاً ومن ثم رفع تكلفة الشراء عليه، وبالتالي رفع سعر السيارة نفسها في وقت يتسم فيه سوق العمل بالكساد.
اصعد معنا.. نريد هاتفك الأصلي
يوم السبت الماضي بينما كان هاني يسير في شارع الهرم مترجلاً لقرب المسافة بين منزله والمقهى الذي يجلس عليه، فوجئ بسيارة ميكروباص تقف بجواره ويطلب منه أحد ركابها الأربعة أن يصعد معهم.
في البداية ظن أنهم لصوص ممن اعتادوا توقيف المارة لسرقتهم، بحسب ما سمع كثيراً عن الأمر، لم يعرف في تلك اللحظة ما إذا كان يجب عليه طاعتهم والركوب معهم أو الجري، لكنه استبعد الحل الأخير لأن هيبته ستتأثر في الشارع، كما أن لياقته البدنية لن تسعفه في الهرب من ملاحقيه "الرياضيين".
بحركة آلية صعد إلى الميكروباص الذي بدأ سائقه في التحرك دون أن يبلغه أحد من الركاب لماذا طلبوا منه الصعود أو إلى أين يتجهون، لكن ما هي إلا لحظات حتى طلب إليه أحدهم أن يعطيه هاتفه وبطاقته الشخصية.
سلمه هاني البطاقة ثم سلمه هاتفاً صغيراً يحمله معه دائماً "لزوم الشغل" لكن الراكب الحذق قال له بلغة آمرة أن يعطيه هاتفه الأصلي قبل أن يزيح الهاتف الصغير بيده ليقع على الأرض.
يحكي هاني تلك اللحظات التي يصفها بأنها مرت عليه كأنها ساعات من الرعب كونها أول مرة في حياته يتعامل مع رجال من المباحث، رغم أن بعض أصدقائه على المقهى من ضباط الشرطة لكنهم يظهرون بوجه آخر تماماً عن وجوه ركاب الميكروباص "المشؤوم".
انتزع الراكب الهاتف بعد أن طلب منه أن يدخل رمز تجاوز القفل، وبدأ يقلب فيه، يفتح التطبيقات المختلفة مثل واتساب وفيسبوك وتويتر وغيرها، ثم عرّج على معرض الصور، قبل أن يعيد إليه الهاتف ويطلب من السائق الوقوف "على جنب" ثم يقول لهاني بكل هدوء "شكراً لحضرتك، اتفضل انزل".
هكذا بكل بساطة وبعد عملية لم تستغرق سوى دقائق لكن هاني شعر بأنها استغرقت نصف عمره أو أكثر، يصف شعوره بعد مغادرته الميكروباص فيقول "بمجرد أن نزلت شعرت أنني غير قادر على السير، كأن اكياساً من الرمل وضعت فوق قدمي أو كأنني أصبت بشلل مؤقت".
يكمل "قاومت إحساسي بالضعف راغباً في أن أبتعد قدر الإمكان عن المكان، وكل عدة ثوان كنت ألتفت خلفي خشية أن يكونوا يتبعونني، وظللت أسير ببطء وبصعوبة والتفت خلفي حتى وصلت إلى منزلي".
"وقفت تحت المنزل للحظات أفكر وأنا أمسح الشارع بعيني خوفاً من أنهم جاؤوا ورائي وأنهم يريدون معرفة عنوان منزلي، وربما يحاولون إيذاء زوجتي أو أولادي، كانت تلك الأفكار في حد ذاتها تزيد من توتري وإحساسي بالانكسار، وبالتالي خوفي من أن تصاب زوجتي وأولادي بالهلع حينما يرونني في تلك الحالة".
"بعد حوالي 10 دقائق تمالكت أعصابي وصعدت إلى شقتي، حيث دخلت إلى غرفة النوم فوراً مدعياً أنني متعب وأرغب في النوم، لكنني بقيت في السرير أستعيد المشهد كله وأتخيل السيناريوهات المختلفة التي كان يمكن أن تحدث معي ووجدت نفسي أنخرط في البكاء دون أن أعرف على وجه التحديد سبب بكائي".
والآن أصبح هاني شخصاً مختلفاً
خلال الأيام التالية تغير سلوك هاني تماماً بشكل لاحظه أصدقاؤه على المقهى، حيث لم يعد يتحدث في السياسة تقريباً، ولا يستجيب إذا حاول أحد أصدقائه "جره" للحديث باستعراض أحدث فيديوهات الممثل والمقاول محمد علي مثلاً، أو قراءة أخبار التظاهرات بصوت عال.
أيضاً بدأ هاني في التفكير طويلاً قبل أن يشاهد أي فيديو يعارض السيسي، أو يتحدث عن فساد في مصر، وذلك بعد أن قام بتنظيف ذاكرة الهاتف من كل الفيديوهات القديمة التي حمد الله كثيراً أن راكب الميكروباص الأمني لم ينتبه لها.
ملكي أكثر من الملك.. فهو شخصية مرموقة ونجل مسؤول سابق بالداخلية
أما محمد علي (اسم مستعار) فقصته مختلفة فقد نشأ في عائلة حكمها نظام "السمع والطاعة"، فهو تجاوز الأربعين بثلاثة أعوام وتربى في مناخ من العقاب والخوف المستمر من كل شيء، فوالده كان يتولى منصباً بوزارة الداخلية لسنوات طويلة قبل خروجه للمعاش وطالما قص عليه وإخوته الأربعة -خوفاً عليهم- ما يتعرض له المواطنون في حالة تم القبض عليهم سياسياً وكان يحذرهم باستمرار بأنه لن يتدخل إن قبض عليهم ولن يزج باسمه أو يخاطر بمهنته.
ولأن من "شب على شيء شاب عليه" فقد تملك الخوف من الأربعيني لدرجة خوفه من كتابة بوست أو ضغطة لايك على فيسبوك، ودائماً ما كان يتهرب من أية مجالس تتطرق للسياسة أو نقد النظام من قريب أو بعيد، وبالرغم من عمله بمركز مرموق بأحد البنوك الأجنبية ثم توليه رئيس مجلس إدارة أحد الشركات الاستثمارية إلا أنه ظل "ملكياً أكثر من الملك".
يقول لـ"عربي بوست" أنه كان يتابع أحوال البلد من خلال الغوص في أغوار مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة "تويتر" ويقرأ تقارير وتغريدات "ثوار" وتدوينات "مناضلين" و"غضبات" مواطنين عاديين فيتحسر على ما آلت إليه الأوضاع متخيلاً مستقبلاً "أسود" ينتظر طفلتيه.
ولكن فيديوهات محمد علي جعلته يتخيل نفسه متظاهراً محتملاً
وعندما سمع من أصدقائه عن فيديوهات المقاول المصري محمد علي، تسلل منفرداً ليراها بعيداً عن أعين الجميع، فنما بداخله ولأول مرة في حياته "متظاهر محتمل" إزاء ما وصفه بـ"النوستالجيا الثورية" جاءت مع نسائم الخريف، فنسج من خياله ثورة عبر خيوط الشبكة العنكبوتية متسائلاً في سره: "هل هناك هبّة ديمقراطية يشارك فيها ملايين المواطنين المطحونين وهل يقويهم الأدرينالين الثوري وأحلام التغيير؟ وهل سيهتز النظام؟ ثم يلتفت حوله ليطمئن أنه لا يوجد من يراقبه ويجيب بيأس عن سؤاله "إن جبال القمع لن تهزها ريح تهب من إسبانيا".
وفي الوقت الذي نزل بعض المواطنين تلبية لدعوة محمد علي للتظاهر كان هو في الطريق لمشواره الأسبوعي لزيارة والديه مصطحباً طفلتيه وزوجته، لم يستمع لنصيحة والده بأن لديه معلومات بوجود استنفار بالداخلية ولم يلتفت لكلامه الذي سمعه آلاف المرات على مدار حياته بأن "منع الضباط من الإجازات معناها أن "الدنيا ملبشة"".
واعتبر نصيحة والده "أفورة" مثل المعتاد بسبب قلقه عليهم، فليس معقولاً أن تمنع الشرطة المرور من وسط المدينة أو يوقفه المخبرين وهو يحتل مركزاً مرموقاً، وكان لا مفر لَهُ من الدخول لشارع الجلاء لاعتلاء كوبري أكتوبر ليصل إلى أبيه بمنطقة الدقي بعد إغلاق الكثير من الحارات والطرق.
إلى أن تم إيقافه وهو في طريقه لوالده
فجأة وجد أفراداً يرتدون الزي المدني وعربة شرطة تتوارى في أحد الشوارع، فوقف وكعادته أبرز بطاقة هويته ورخصة القيادة لكن العسكري وضع البطاقتين جانباً، وطلب منه النزول من السيارة لمقابلة ضابط المرور، فاعتقد أن الأخير يريد منه خدمة خاصة بالبنوك كالمعتاد.
لا يعرف لماذا ارتعدت فرائصه وهو يترجل من سيارته لكنه تماسك حتى لا يفزع طفلتيه، وعندما ذهب للملازم فوجئ به يطلب موبايله فاعتقد للحظة أنهم عصابة يريدون سرقة هاتفه الجديد لكنه نفض الفكرة فالكمين يقف على مقربة من مستشفى الجلاء للولادة وبعده بأمتار ميدان التحرير ولا مجال للسرقة هنا.
أخرج الموبايل للضابط في صمت ورآه يحجب بيده انعكاس ضوء النهار من على الشاشة كي يستطيع قراءة ما على الهاتف، وعندما تسلل الخوف إليه سمع صوت "المتظاهر المحتمل" بداخله يطمئنه بأنهم لن يجدوا في حسابه على مواقع التواصل سوى بضعة صور لنانسي عجرم ودردشات عادية مع الأصدقاء والعملاء ولن يحبس بسبب تطبيق "التيك توك" أو لأنه يلعب اللعبة القتالية "بابجي".
لكنه عاد وتذكر فيديوهات محمد علي التي رآها مؤخراً وتصبب عرقاً متسائلاً "هل أغلقتها هل حذفتها من الـ"history"، ماذا لو وجدوها وقرروا احتجازي بتهمة ملفقة؟ وماذا لو أصبحت بين ليلة وضحاها مجرماً مُداناً، ونظر
خلفه ليرى الهلع يتملك طفلتيه وزوجته، وقتها لعن الخوف فكيف سيشعرن بالأمان وسندهن في الحياة يسيطر عليه الخوف ويتملك مشاعره ويقف أمام الضابط كـ"الفار المبلول".
لم يستطع الاعتراض عندما فتح الضابط رسائله
يقول الرجل "آثرت الصمت أثناء رحلة بحث رجل الشرطة في "بروفايلي" على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر ولمحته يفتح رسائلي على "الماسينجر" وكدت أعترض لَكِن مُشاهدتي لاحتجاز مواطنين بـ"بوكس" الشرطة هزتني بشدة وشعرت بأن ضغطي تجاوز الـ ١٨٠ وأنقذني التفات الضابط لي والسماح بمغادرتي، فهرولت لسيارتي متمتماً "مفيش فايدة"، وحمدت الله على أنه لم يكتشف الفيديوهات التي كنت أشاهدها.
بشكل لا إرادي قرر المسؤول البنكي الرجوع إلى منزله بمنطقة غمرة ليبدأ رحلة أخرى من الخوف فعلى مرمى البصر كانت سيارات الشرطة تركن عَلى مدخل كل شارع ومن ورائها فرق الأمن المركزي ثم سيارات الترحيلات الممتلئة بالعساكر والمخبرين وسيارات ملاكي للضباط وقفت معهم وعندما صعد إلى كوبري أكتوبر وجد مجموعة من المخبرين عليه، وحُجبت رؤية الميدان تماماً بوضع سور من الصفيح بمحاذاة السور الحديدي.
وبدلاً من الذهاب لوالده أصبح يرتاد عيادة نفسية.. وأصبح يحاول الاختباء تحت الكنبة
لم يذهب الابن لرؤية والديه منذ ذلك اليوم المشؤوم، واستبدل المشوار الأسبوعي بجلسات نفسية مع جاره دكتور هاشم بسبب ما يعانيه من أزمة نفسية فهو ينتفض كلما سمع عواء "سرينة" سيارات الشرطة، وتملكه شعور أنها "بلا مبالغة" باتت تتحكم فيه وتحدد خريطة سيره وأماكن جلوسه ومقابلته للأصدقاء و"بر" والديه.
وأنهى حديثه قائلاً "لم أكن يوماً "كنبوي" (من حزب الكنبة في إشارة للمواطنين غير المسيسيين) أو أتباعه، فقد جعلني الخوف الذي تربيت بين جدرانه "الكنبة" ذاتها، وعندما نمت بداخلي نواة "متظاهر محتمل" انشطرت وتلاشت وما أريده الآن الاختباء تحت الكنبة".
هل من حق الشرطة تفتيش الهواتف؟ خطة مقصودة لقتل المتظاهر المحتمل
يؤكد نبيل سالم (محامي) أن ما يحدث من تفتيش الهواتف والإطلاع على محتوياتها من صور ووثائق وتطبيقات ليس له أي سند قانوني أو دستوري فالهاتف المحمول وسيلة اتصال والمحادثات الخاصة محمية بنصوص الدستور وهي جزء من حرمة الحياة الخاصة، طبقاً للمادة 57 من باب الحريات في الدستور المصري والتي تنص على أن "للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس.
والمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة".
ويوضح المحامي لـ"عربي بوست" أنه لا يوجد في القانون أي نص يجيز لضباط الشرطة عمل الكمائن في الطرق من تلقاء أنفسهم ولا صفة لهم لاتخاذ هذا الإجراء وبالتالي لا يجوز لهم تفتيش المواطنين أو إنزالهم من السيارات، تَحت ادعاء "نية المشاركة بالمظاهرات".
يبقى سؤال مهم عن الهدف من التفتيش العشوائي للمواطنين في مصر، والإجابة الأسرع إنه تخويف المواطنين خصوصاً غير المسيسين منهم، وقتل "المتظاهر المحتمل" داخل كل مواطن.
لكن حساب الموقف المصري على فيسبوك لديه وجهة نظر أخرى حيث يرفض فكرة أن الهدف هو إظهار أن النظام مسيطر على الشوارع ومستعد لمواجهة أي تظاهرات، في حين أن الرسالة الضمنية التي يرسلها من هكذا تصرفات إن النظام مرتبك ويمارس القمع لأنه غير مسيطر على الشارع.