في أعقاب هجمات 14 سبتمبر/أيلول على منشأتين تابعتين لشركة "أرامكو" السعودية"، اتبعت الصين خطة اللعب الماهرة الخاصة بها؛ فشجعت جميع الأطراف على التزام ضبط النفس ودعت إلى فتح "تحقيق شامل وعادل" في الواقعة. ولم يُثِر رد فعل بكين دهشة المراقبين الذي اعتادوا على التزام الصين بالحذر والوقوف على نفس المسافة من جميع الأطراف حين يتعلق الأمر بالتوترات في منطقة الخليج. غير أنَّ تردد الصين في تبني موقف صارم إزاء المسائل الأمنية في المنطقة يظل يمثل إشكالية هائلة لا يمكن التغاضي عنها، خاصة أنَّ جمهورية الصين الشعبية تتمتع بمكانة مميزة في المواجهات بين إيران والسعودية.
وعلى الرغم من حرصها الواضح على تجنب اندلاع حرب واسعة، لن تؤدي الصين دور حمامة السلام في الأزمة الحالية في الخليج، بحسب تقرير لموقع Lobe Log الأمريكي.
فالحقيقة أنَّ الصين أبعد ما يكون عن وضع الاضطراب/ اللاضطراب الحالي الذي يشهده الخليج. فالنظام الأمني بأكمله والبيئة السياسية الدولية للمنطقة يدوران حول خطوط الصراع بين السعودية وإيران. ومن ثم، تعرَّض الانقسام الداخلي في الخليج للاستغلال، وتبلور نتيجة الحضور القوي لقوة خارجية أجنبية؛ هي الولايات المتحدة، التي تخلت عن سياسة "القطبين التوأمين" عقب ثورة 1979 في إيران وصدمة احتجاز الرهائن التي أعقبتها، وفي المقابل انحازت بقوة للسعودية ومملكات الخليج العربية. من جانبها، سلكت بكين نهجاً تجاه منطقة الخليج قائماً على التجول داخل هذه المنطقة عبر تدشين روابط تجارية وشراكات استراتيجية مع جميع الفاعلين الإقليميين، الذين استفادوا في المقابل من شهية بكين الكبيرة للطاقة ومواقفها غير المُسيَّسة.
الصين "راكب مجاني"
ومثل "راكب مجاني" حقيقي، استغلت بكين البنيان السياسي والأمني الذي نشأ في الخليج نتيجة التفاعلات المضطربة بين الفاعلين الإقليميين وواشنطن. والأهم أنه بالرغم من أنَّ هذا البنيان لم يكن ناجحاً تماماً -وهو ما تعكسه التوترات الحالية- أثبت أنه مرنٌ ومستقرٌ بما يكفي ليمنح بكين مساحة كافية لتأمين مصالحها من دون تكبد تكاليف الاضطلاع بدور ضامن للأمن، وهي تكلفة قد تكون باهظة للغاية في منطقة تتصف بالتشرذم والاضطرابات السياسية والحضور القوي والاستقطابي المتواصل للولايات المتحدة.
وتحرص الصين كثيراً على تجنب اندلاع صراع واسع النطاق في الخليج؛ فهي بإمكانها إدارة التوترات الإقليمية متوسطة النطاق إدارة تعود عليها بالنفع. وبرهنت الصين أنها بلا شك قادرة على شق طريقها بين المناوشات، مُستغِلة في ذلك درجة المرونة التي وفرها لها نهجها غير المُسيَّس. وعلى الجانب الآخر من ذلك، من المرجح أن يثير اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران، التي ستشمل بالتأكيد المملكات الخليجية، اضطراباً في أمن الطاقة للصين، ومشروعاتها الاستثمارية وشراكاتها الإقليمية. وبالتالي، ستدفع هذه العواقب الصين لحماية مصالحها في منطقة الخليج عبر اتباع نهج أكثر سياسية، إن لم يكن ذا نزعة عسكرية. وهذا التغير الجذري في نهج بكين الاستراتيجي لا يتفق ورغباتها.
لماذا لا تستطيع هذه المرة؟
ومن ثم، تكمُن العقبة الأكبر أمام اضطلاع الصين بدور وسيط السلام في الأزمة الخليجية الحالية في التصميم السياسي والأمني للمنطقة نفسها. إذ إنَّ أي فاعل خارجي ينخرط مع جميع القوى الخليجية بغض النظر عن الصراعات الإقليمية، يضع نفسه على النقيض تماماً من أسس نظام قائم استغلال هذه الخصومات. وإذا تصرفت بكين صراحةً كأنها وسيط سلام، فستنزلق مباشرةً إلى المواجهات بين إيران والسعودية والولايات المتحدة، وستضُر بوضعها المميز وكذلك بمحاولاتها الذكية -حتى وإن لم تثر ما يكفي من الإعجاب- للسيطرة على التوترات في الخليج. ويمكن القول إنَّ أحد الأسباب التي تدفع الصين لمواصلة شراء النفط الإيراني، على الرغم من أنها ضاعفت مبيعاتها من النفط الخام السعودي لدرجة كبيرة، هي مد طوق نجاة لطهران يقلل من فرص حدوث تصعيد واسع النطاق في مضيق هرمز، بحسب الموقع الأمريكي.
أما السؤال حول ما إذا كانت ستصبح الصين أبداً فاعلاً دبلوماسياً وضامن أمن رئيسي في الخليج سيظل من دون إجابة. ومع ذلك، يمكن أن يوحي دعم بكين للاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، وجولة الرئيس الصيني شي جين بينغ في 2016، بإجابة على هذا السؤال. وأيدت الصين حلاً دبلوماسياً شاملاً لملف إيران النووي، واعتبرته الحافز للوصول إلى "بيئة أكثر هدوئاً" في المنطقة. واللافت للنظر أنَّ شي جين بينغ انطلق في أولى جولاته في الشرق الأوسط، التي شملت السعودية وإيران ومصر، في يناير/كانون الثاني 2016، أي عقب أسبوع من بدء سريان خطة العمل الشاملة المشتركة حول البرنامج النووي الإيراني. وخلال هذه الجولة، وقَّع الرئيس الصيني اتفاقيات شراكة استراتيجية شاملة، وهي الأعلى في تسلسل الشراكات الصينية، مع الرياض وطهران. وإذا كان يوحي ذلك بأي شيء، فهو أنَّ الصين تتبنى رؤية تقوم على خفض حدة النزاعات الإقليمية بدلاً من استغلالها. وفي حال أصبحت هذه الرؤية عماد الهيكل الأمني القادم في الخليج، فستنخرط الصين بفعالية في تسوية أية أزمات مستقبلية.