البعوض أكثر فتكاً من القرش.. رقم صادم لعدد ضحاياه وأشياء يعشقها البشر تزيده توحشاً

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/10/01 الساعة 23:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/10/01 الساعة 23:11 بتوقيت غرينتش
البعوض هو أكبر قاتل للبشر/رويترز

إننا في حرب مع البعوض، نواجه جيشاً كثيفاً قوامه 12 تريليون بعوضة تنتشر في كل بقعة من هذا العالم؛ باستثناء القارة القطبية الجنوبية، وأيسلندا، وبعض جزر بولينيزيا الفرنسية الصغيرة. أنثى البعوض المقاتلة بهذا الجيش الطائر مُسلّحة بما لا يقل عن 15 سلاحاً بيولوجيا مميتاً ومهلكاً، ضد 7.7 مليار بشري يعتمدون على قدرات دفاعية غالباً ما تحقق دماراً ذاتياً. 

في الحقيقة، تبلغ ميزانية دفاعاتنا من الدروع البشرية، ومنتجات الرش، وغيرها من الوسائل لردع غارات البعوض 11 مليار دولار سنوياً، ويزداد هذا الرقم باطراد. ومع ذلك، تستمر حملاتها الهجومية القاتلة وجرائمها ضد الإنسانية بعزم لا يلين. وبينما يكمن هجومنا المضاد في الحدِّ من عدد الإصابات التي تسببها انخفض معدل الوفيّات الناجمة عن الملاريا بشكل خاص، يظل البعوض أكثر الكائنات فتكاً بالبشر على سطح الكوكب.

كم عدد البشر الذين يقتلهم البعوض؟ رقم صادم

مع الأخذ في الاعتبار مجموعة واسعة من التقديرات، منذ عام 2000، بلغ متوسط عدد حالات الوفيات بين البشر بسبب البعوض حوالي مليوني شخص.

ويأتي البشر أنفسهم بالمركز الثاني، في الكائنات الأكثر فتكاً بالبشر، بفارق كبير عن البعوض، بمتوسط 475,000 حالة وفاة.

ثم الثعابين (50,000 وفاة) في المركز الثالث، تليها الكلاب والذباب الرملي (25,000 وفاة لكل منهما)، ثم ذبابة تسي تسي، والبق القاتل (أو البق المُقبّل) (10,000 وفاة لكل منهما). ويأتي التمساح في المركز العاشر، بمتوسط 1,000 وفاة سنوياً. 

بعد ذلك هناك أفراس النهر بمتوسط 500 وفاة، والأفيال والأسود بمتوسط 100 وفاة لكل منهما. والمركز الخامس عشر مناصفة بين أسماك القرش والذئاب، بمتوسط 10 وفيّات لكل منهما سنوياً.

 هذه الحشرة الضئيلة غيّرت التاريخ

ومع ذلك، لا يؤذي البعوض أي شخص مباشرة، ولكنه سامّ، وينقل أمراضاً متطورة للغاية تتسبب في سلسلة لا متناهية من الخراب والموت.

وبدون البعوض لن تُنقل الجراثيم المسببة لتلك الأمراض الخطيرة أو تصيب البشر، ولن تتمكن هذه النواقل من مواصلة دورة حياتها.

في الواقع، بدون البعوض لن تتواجد تلك الأمراض على الإطلاق. 

الدرونز تستخدم في مكافحة البعوض/رويترز

نظامنا المناعي يتكيف بشكل دقيق مع البيئة المحيطة، ولكن البعوض لا يحترم الحدود الدولية. فكّر في الجيوش الضخمة، والمستكشفين الفضوليين، والمستعمرين المتعطشين للمزيد من الأراضي وكيف جلبوا معهم أمراضاً جديدة إلى تلك الأراضي البعيدة، ولكنهم خضعوا أمام تلك الكائنات الدقيقة في الأراضي الغريبة التي كانوا ينوون الهيمنة عليها. عندما غيّر البعوض وجه الحضارة، كان البشر مطالبين بالرد على مطالبها بالسلطة والهيمنة على هذا الكوكب. 

والحقيقة أن البعوض، بطبيعته الفتاكة والمفترسة، قاد أحداث التاريخ البشري وصولاً إلى واقعنا الحالي أكثر من أي عوامل خارجية أخرى.

كان طنين البعوض واحداً من أكثر الأصوات المعروفة والمزعجة على كوكب الأرض لأكثر من 190 مليون عام. بعد يوم طويل من المشي أثناء التخييم مع عائلتك أو أصدقائك، تستحم سريعاً، وتجلس في كرسي الحديقة المريح، وتفتح زجاجة مشروب بارد وتتنهد بعمق. 

وقبل أن تستمتع بأول رشفة من المشروب تستمع إلى هذا الصوت المألوف، الذي يشير إلى اقتراب المعذبين قاتلي المتعة.

ما الذي تفعله بجسم الإنسان؟  

اقترب الغسق، وقتها المفضل للتغذية، وبالرغم من سماعك طنين وصولها، فإنها تهبط على كاحلك دون أن تشعر بها، فعادة ما تكون عضّاتها بالقرب من الأرض. وبالمناسبة، دائماً ما تكون أنثى. 

وتُجري عملية استكشاف واستطلاع سريعة، مدتها 10 ثوانٍ، بحثاً عن وعاء دموي رئيسي. 

تستقر البعوضة على الجلد مرتكزة على أقدامها الستة المتطورة ومؤخرتها في الهواء. 

ثم تُدخل شفرتين قاطعتين مسننتين (تشبه سكين النحت الكهربي، بشفرتين تنتقلان جيئة وذهاباً)، إلى داخل جلدك، واثنتين من الكماشات الأخرى تفتح طريقاً للخرطوم الذي يبرز من غمده الواقي.

 ثم تبدأ في استخدام هذا الخرطوم من أجل شفط 3-5 ملليغرام من دمائك، وتفرز مياهها فوراً مع تكثيف 20% من محتوى البروتين بها. 

وفي أثناء ذلك، تضخ الإبرة السادسة لعاباً يحتوي على مضاد تجلّط، يمنع دماءك من التجلط في موضع الوخز. 

يُقلص ذلك الوقت الذي تحتاجه للتغذية، ويقلل من احتمالية شعورك بالوخز وصفعها على كاحلك. يتسبب مضاد التجلط في رد فعل تحسسي، يترك نتوء مزعج مثير للحكة. 

وتعد لدغة البعوض طقس تغذية مبتكراً ومعقداً مطلوباً من أجل التكاثر، إذ تحتاج البعوضة إلى دمائك للنمو وإنضاج بيضها.

 هل يفضل البعوض حقاً النساء الشقراوات؟

لا تأخذ الأمر على محمل شخصي، فهي تعضّ الجميع. 

لا حقيقة على الإطلاق وراء الأقاويل الشهيرة التي تزعم أن البعوض يفضّل الإناث عن الذكر، أو يفضل لدغ الشُّقر وأصحاب الشعر الأحمر عن أصحاب الشعر الداكن.

ولا صحة لمقولة إنك إذا كنت داكن البشرة أو سميك الجلد فإنك بمأمن من لدغاتها.

 ولكن البعوضة، بالفعل، لديها بعض التفضيلات. 

إذن، أي البشر يميل البعوض لمهاجمته؟ 

يبدو أن فصيلة الدم "O" هي الخيار المفضل عن فصائل الدم "A" أو "B"، أو "AB". 

إذ يصل عدد أصحاب فصيلة الدم "O" الذين تعرضوا إلى لدغ البعوض ضعف المتضررين من أصحاب فصيلة الدم "A"، بينما أصحاب فصيلة الدم "B" في مستوى متوسط بينهما. 

(يبدو أن صناع الدراما Disney/Pixar بحثوا جيداً عندما جسدوا بعوضة صغيرة تطلب "مشروب دماء O+" في فيلم A Bug's Life عام 1998). 

ويبدو أيضاً أن الأشخاص الذين تتواجد ببشرتهم مستويات طبيعية عالية من بعض المواد الكيميائية، مثل حمض اللاكتيك، أكثر جاذبية للبعوض عن غيرهم. ومن تلك العناصر الكيميائية يمكنها تحليل نوع فصيلة دمك.

وهي نفس المواد الكيميائية التي تحدد مستوى البكتيريا في بشرة الفرد ورائحة جسمه الفريدة. 

والرائحة النتنة تنفرهم إلا في هذه الحالة

وعلى الرغم من أن ذلك يبدو غير عملي، فإن الرائحة النتنة القوية جيدة في هذا الأمر، لأن مستويات البكتيريا العالية على البشرة تجعلها أقل جاذبية للبعوض.

ولكن هناك استثناء يتعلق بالأقدام النتنة، لأن رائحتها تكون بسبب بكتيريا شديدة الجاذبية بالنسبة للبعوض. 

والغضب يجذبها، ولكن ماذا عن العطور والصابون والبيرة ولون الملابس؟

المفاجأة أن البعوض ينجذب أيضاً لمزيلات العرق، والعطور، والصابون، وغيرها من المواد العطرة.

 ولا يعد ارتداء الألوان الزاهية خياراً حكيماً، لأنها تنجذب بواسطة البصر والشم؛ وتعتمد في الشم بشكل أساسي على كمية ثاني أكسيد الكربون التي تستنشقها الضحية المحتملة. 

يمكن للبعوض أن يشم ثاني أكسيد الكربون على بعد 60 متراً، لذا كل الغضب والنفخ والانفعالات سوف تجذب البعوض وتضعك في خطر كبير. 

عندما تمارس التمارين الرياضية سوف تخرج كمية أكبر من ثاني أكسيد الكربون من خلال الشهيق والزفير. كما أنك تتعرق، فتفرز بذلك المواد الكيميائية الجاذبة للبعوض، وعلى رأسها حمض اللاكتيك. وأخيراً، ترتفع درجة حرارة الجسم، المؤشر الذي يسهل التعرف عليه. 

ولهذا السبب يلدغ الحوامل أكثر

في المتوسط، تتعرض الحوامل إلى ضعف عدد اللدغات، إذ يتنفسن بمعدل أكبر 20%، فيخرجن كمية أكبر من ثاني أكسيد الكربون، كما أن درجة حرارة أجسادهن أعلى نسبياً. 

وهذا خبر سيئ للأم والجنين، خاصة عندما يتعلق الأمر بعدوى زيكا أو الملاريا.

وعلى عكس الإناث، ذكور البعوض لا تلدغ، بل يتمحور عالمها حول أمرين؛ التغذّي على الرحيق والتزاوج. 

ومثل غيرها من الحشرات الطائرة، عندما تصبح جاهزة للتزاوج، يتجمع ذكور البعوض في أسراب فوق أحد المعالم البارزة؛ مثل المداخل أو الهوائيات أو الشجر أو حتى البشر. 

لون البشرة لا يؤثر على احتمالات تعرض البشر للدغة البعوض/رويترز

بعضنا ينزعج عندما تتجمع تلك السحابة الحشرية فوق رؤوسنا أثناء السير، رافضة التفرق. يمكنك أن تعتبر ذلك لفتة طيبة منها. 

لقد اختارك ذكور البعوض لتنال شرف أن تكون "العلامة المميزة لسرب التزاوج". صُوّرت أسراب البعوض تمتد إلى ارتفاع 300 متر في الهواء، تشبه سحابة الإعصار القمعية. 

ومع تجمّع الذكور بعناد فوق رأسك، تطير الإناث إليهم بحثاً عن الرفيق المناسب. يمكن للذكور التزاوج عدة مرات خلال حياتهم، بينما لا تحتاج الإناث إلى أكثر من جرعة واحدة من الحيوانات المنوية لإنتاج دفعات عديدة من النسل.

 تخزِّن الأنثى الحيوانات المنوية وتوزعها تدريجياً لكل مجموعة من البيض على حدة. تلك النشوة القصيرة توفر أحد العنصرين الضروريين لعملية التكاثر، والعنصر الآخر هو الدماء.

 هكذا تغري أنت البعوض دون أن تدري

لنعد إلى موقع التخييم، لقد أنهيت للتو رحلة سير طويلة ومرهقة، وتوجهت إلى الحمام، لكي تستحم باستخدام الصابون وشامبو الشعر. وبعدما تجفف جسمك تضع مزيلاً للعرق أو عطراً قبل أن ترتدي رداء مكشوفاً بلون أحمر أو أزرق ساطع. 

اقترب الغسق، وقت العشاء المحبب للبعوض. وقد بذلت كل ما في وسعك لجذب وإغراء الأنثى المتعطشة لدمائك. 

أما هي فقد تزاوجت للتو وتبحث عن بضع قطرات من الدماء لإتمام عملية التكاثر، وتحصل منك على وجبة من الدماء تبلغ ثلاثة أضعاف وزنها.

قطرة مياه تكفيها 

بعدما امتصت دماءك تتوجه أنثى البعوضة بسرعة إلى أقرب سطح عمودي لتفريغ دمائك من المياه، بمساعدة الجاذبية. 

ثم تستخدم الدماء المركزة لتطوير البيض خلال الأيام القليلة التالية. ثم تضع حوالي 200 بيضة طافية على سطح تجمّع صغير من المياه قد تغفل عنه عند تنظيف المنزل.

دائماً ما تضع البعوضة بيضها في المياه، ولكنها لا تحتاج إلى الكثير من المياه. أي قطرات بسيطة من المياه في قاع أي حاوية قديمة أو لعبة مهملة ستكون كافية.

تواصل البعوضة اللدغ ووضع البيض خلال دورة حياتها الممتدة من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع. وبالرغم من قدرتها على التحليق لمسافة تتجاوز الثلاثة كيلومترات، نادراً ما تطير لأبعد من 400 متر عن مكان مولدها.

يفقس بيضها بديدان ملتوية، تعتمد في تغذيتها على المياه خلال يومين أو ثلاثة أيام. إلا أن الأمر يستغرق أياماً أطول خلال الطقس البارد، مقارنة بدرجات الحرارة المرتفعة.

 تتحول بسرعة إلى يرقات، بشكل فاصلة، مقلوبة رأساً على عقب، وتتنفس من خلال "بوقين" بارزين من أردافها المعرضّة للمياه. 

وبعد أيام، ينشق الغلاف الواقي عن بعوض بالغ قادر على الطيران، بجيل جديد من الإناث المستعدة للتغذية، ويستغرق النضج حتى مرحلة البلوغ حوالي أسبوع. 

تسببت البكتيريا والفيروسات والطفيليات، إلى جانب الديدان والفطريات، في بؤس لا يوصف، وقادت مسار التاريخ البشري.

ولكن لماذا تطورت حتى تفتك بنا؟

إذا استطعنا أن ننحي تحيّزنا جانباً للحظات، سوف نرى أن هذه الميكروبات تجاوزت رحلة الانتخاب الطبيعي كما فعلنا. وهذا هو السبب في أنها لا تزال تصيبنا بالأمراض، ويصعب التخلص منها. الأمر محير، قتل المضيف يبدو مضراً ومدمراً للذات. نعم، الأمراض تقتلنا.

ولكن أعراض تلك الأمراض هي الطريقة التي يجبرنا بها الميكروب من أجل مساعدته على الانتشار والتكاثر. عندما تفكر في الأمر، تجد أنها كائنات ذكية جداً. وفي العادة، تضمن الجراثيم انتقال العدوى وتكاثرها قبل أن تقتل مضيفها. وبعضها مثل بكتيريا السلمونيلا "تسمم الطعام" والديدان المختلفة، تنتظر حتى تُبتلع؛ أي حيوان يأكل حيواناً آخر. 

البعوض ينقل مرض الملاريا الذي يسبب في وفاة أعداد كبيرة من البشر

هناك مجموعة كبيرة من الأوبئة المنقولة بالمياه، مثل الجياردية، والكوليرا، والتيفوئيد، والزحار (الديزنتاريا)، والتهاب الكبد الوبائي. وأخرى تنتقل عبر العطس والسعال، مثل البرد، وإنفلونزا المعدة والإنفلونزا الحقيقية. وبعضها يُنقل بطريق مباشر أو غير مباشر عبر النسيج المتضرر، أو القروح المفتوحة، أو الأشياء الملوثة أو السعال، مثل الجدري. وهناك فئة أفضل، من وجهة النظر التطورية، تضمن تكاثرها سراً مع تكاثر المضيف. 

وتتضمن تلك الفئة المجموعة الكاملة من الميكروبات التي تسبب الأمراض المنقولة جنسياً. والعديد من نواقل الأمراض الخطيرة التي تنتقل من الأم إلى الجنين في الرحم. 

بينما تستمتع مجموعة أخرى من الجراثيم المسببة للأمراض، مثل التي تسبب التيفوئيد، والطاعون، وداء شاغاس، وداء المثقبيات الإفريقي، برحلة مجانية مُقدمة من نواقل الأمراض (كائنات حية تنقل الأمراض) مثل البراغيث، والعث، والذباب، والقراد، والبعوض. ولتعظيم فرصها في النجاة، تستخدم العديد من الجراثيم خليطاً بين أكثر من مجموعة للتكاثر ونقل الأمراض. 

المجموعة المتنوعة من الأعراض، أو طرق الانتقال، لهذه  الجراثيم الدقيقة تساعدها على التكاثر بفاعلية وتضمن وجود وبقاء فصائلها. 

تقاتل هذه الجراثيم وتكافح من أجل بقائها كما نفعل نحن البشر، ولكنها تظل أمامنا بخطوة على سلم التطور، إذ تستمر في التحوّر وتغيير شكلها للتحايل على أفضل وسائلنا لإبادتها.

 عام في النفق مع البشر جعلها تتغذى على الفئران بدلاً من الطيور 

ولكي نفهم التأثير الخفي والتراكمي للبعوض على التاريخ والإنسانية، ينبغي أولاً أن نقدّر الحيوان نفسه، والأمراض التي ينقلها، حسب التقرير.

وفقاً لمقولة شائعة، نُسبت بالخطأ إلى داروين: "إنها ليست الفصيلة الأقوى أو الأكثر ذكاء، ولكنها الأكثر قدرة على التكيّف والتغيير". وبغض النظر عن أصل تلك العبارة، فإن البعوض والأمراض وأبرزها الملاريا مثال دقيق للنقطة التي تثيرها. إنها سادة التكيّف التطوري. بإمكان البعوض أن يتطور ويتكيف مع التغيّرات البيئية خلال بضعة أجيال فقط.

في فترة الحرب الخاطفة خلال عاميّ 1940-1941، على سبيل المثال، حجزت مجموعات معزولة من بعوض الكيوليكس نفسها في ملاجئ أنفاق الغارات الجوية تحت الأرض في لندن، إلى جانب المواطنين الصامدين في المدينة. وتكيّف هذا البعوض الحبيس سريعاً ليتغذى على الفئران والبشر بدلاً من الطيور، وأصبحت الآن فصيلة جديدة مميزة عن أسلافها الذين عاشوا فوق الأرض. 

ما كان يُفترض أن يحتاج إلى آلاف السنين للتطور بهذا الشكل أُنجز في أقل من 100 عام.

 ويقول ريتشارد جونز، الرئيس السابق لجمعية تاريخ الحشرات والطبيعة البريطانية، مازحاً: "في 100 عام أخرى، قد نجد فصائل بعوض خاصة بكل خط من خطوط مترو الأنفاق في لندن، فصيلة الخط الدائري، وفصيلة خط العاصمة، وفصيلة خط اليوبيل".

 هل هناك فائدة للبعوض؟

وبالرغم من القدرة الإعجازية للبعوض على التكيّف، فهي أيضاً مخلوقات نرجسية جداً. على عكس الحشرات الأخرى، فهي لا تُلقّح النباتات بأي طريقة مفيدة، أو تعمل على تهوية التربة أو تلتهم النفايات. وعلى عكس الاعتقاد السائد لا يعتبر البعوض حتى مصدر غذاء لا غنى عنه لأي حيوان آخر.

 لا يبدو أن هناك غرضاً آخر للبعوض إلا التكاثر ونشر فصيلته، وربما قتل البشر. ولأنها أكبر الفصائل المفترسة في ملحمتنا البشرية، يبدو أن دورها في علاقتنا هو اتخاذ تدابير مضادة للنمو السكاني الهائل. 

وخلال فترة وجود البشر، كان توأم البعوض السام، الملاريا والحمّى الصفراء، السبب الأساسي للوفاة والتغيّرات التاريخية، ولعب هذا الثنائي دور الخصم الرئيسي في الحرب الطويلة جداً بين البشر والبعوض.

طريقته الأشهر للقتل  

عقب لدغة البعوض المشؤومة، سوف يتحوّر طفيلي الملاريا ويتكاثر داخل الكبد لمدة أسبوع إلى أسبوعين، لن يظهر خلالها أي أعراض.

 ثم ينفجر جيش سام من هذا التحوّر الجديد ليغزو مجرى الدم. ويلتصق الطفيلي بكرات الدم الحمراء، وتخترق دفاعاتها الخارجية، وتتغذى على الهيموغلوبين الموجود داخلها. وداخل الخلية، تخضع الطفيليات لتحوّل آخر ودورة تكاثر أخرى. 

وفي النهاية تنفجر كرات الدم، وتطلق النوع الأصلي من الطفيليات، التي تسير في مجرى الدم لمهاجمة كرات الدم الحمراء الجديدة، ونوعاً جديداً "لا جنسياً" ينتظر نقله بواسطة البعوض.

 ولهذا يصعب القضاء على الملاريا

الطفيلي يغير شكله باستمرار، وهذه المرونة الوراثية تحديداً هي التي تجعل القضاء عليه أو تثبيطه بالأدوية أو اللقاحات أمراً صعباً. 

والآن أنت مريض بشكل خطير مع زيادة الشعور بالقشعريرة على مدار الساعة، ثم تُصاب بحمى شديدة تصل فيها درجة حرارة الجسم إلى 41° مئوية. لقد نفذت الملاريا دورتها الكاملة وأصبحت الآن في قبضة هذا الطفيلي، وتحت رحمته. راقداً منهكاً وعاجزاً بشكل مؤلم على مفارش غارقة في العرق، ترتجف وتتلعثم وتسب وتئن، تنظر للأسفل لتجد أن الطحال والكبد متضخمان بشكل ملحوظ، والجلد يميل للون الأصفر لليرقان، وتتقيأ بشكل متقطع، وسوف تزداد حدة الحمّى على فترات زمنية محددة مع كل انفجار وغزو جديد من الطفيليات لخلايا الدم. ثم تختفي عندما تتغذى الطفيليات وتتكاثر داخل خلايا الدم الجديدة.

 الأمر الغريب أن الطفيل يحفز البعوض للدغ الإنسان المصاب أصلاً

تستخدم الطفيليات إشارات متطورة لمزامنة تسلسل أعمالها، حيث تلتزم تلك الدورة الحياتية بجدول زمني صارم للغاية. يبث النوع الجديد من الطفيليات "اللاجنسي" إشارات كيميائية في الدم مفادها "الدغني"، لحث البعوض على لدغ الإنسان المصاب والتقاط تلك الطفيليات من أجل إكمال دورتها التكاثرية.

 وبداخل معدة البعوضة، تتحوّر تلك الخلايا مرة أخرى إلى طفيليات مذكرة ومؤنثة. 

ثم يجبر البعوضة على لدغ البشر

تتزاوج سريعاً، وتنتج ذريّة خطية تشق طريقها من الأمعاء إلى الغدد اللعابية للبعوض. وبداخل الغدد اللعابية يتلاعب طفيلي الملاريا بالبعوضة لحثّها على لدغ البشر بشكل أكثر تواتراً عن طريق تثبيط إنتاج مضادات التجلط الخاصة بالبعوضة، ومن ثمّ تقلص كمية الدماء التي تحصل عليها في اللدغة الواحدة. 

وهذا يجبر البعوضة على لدغ البشر أكثر للوصول إلى إحساس الشبع. وبهذه الطريقة، تضمن طفيليات الملاريا تزايد معدلات ونطاق انتقالها، وتكاثرها، وبقائها.

لماذا تحب البلاد الحارة؟ 

وتعد درجة الحرارة عنصراً مهماً لتكاثر البعوضة ودورة حياة الملاريا على حد سواء. بالنظر إلى علاقتهما التكافلية، فإن كلاهما أيضاً حساس تجاه المناخ. 

في درجات الحرارة الباردة، يستغرق البعوض وقتاً أطول للنضج والفقس، كما أن البعوض أيضاً من ذوات الدم البارد، على عكس الثدييات، لا يمكنها تنظيم درجة حرارة أجسادها. 

لا يمكنها أن تصمد في البيئات التي تنخفض درجة الحرارة فيها عن 10 درجات مئوية. عادة ما يكون البعوض في أوج صحته وذروة أدائه عندما تكون درجة الحرارة أعلى من 32°. 

ولكن إذا زادت الحرارة لهذا المستوى يغلي البعوض

بينما الحرارة المباشرة أعلى من 40° مئوية سوف تتسبب في غليان البعوض حتى الموت. 

بالنسبة للمناطق المعتدلة غير المدارية، هذا يعني أن البعوض كائنات موسمية، تتزاوج وتفقس وتلدغ في الفترة بين الربيع والخريف. وبالرغم من عدم رؤيتها للعالم الخارجي قط، تحتاج الملاريا إلى أن تكافح عوامل دورة الحياة القصيرة للبعوض وظروف الحرارة لضمان تكاثرها وبقائها. 

يعتمد الإطار الزمني لتكاثر الملاريا على درجة حرارة البعوض ذي الدم البارد، التي تعتمد بدورها على درجة الحرارة الخارجية.

ولهذا السبب لا يعيش طفيل الملاريا في البرد 

 كلما كانت البعوضة أكثر برودة أصبح تكاثر الملاريا أبطأ، حتى تتجاوز الحد المسموح به. عند درجات الحرارة بين 15° و21° مئوية (بناء على نوع الملاريا)، تستغرق دورة تكاثر الطفيليات حوالي شهر، أي ما يتجاوز متوسط دورة حياة البعوض. عندئذ تموت البعوضة وتقتل معها طفيليات الملاريا. 

الطقس الدافئ يحافظ على تعداد البعوض على مدار العام، مما يعزز الدورة المتوطنة لأمراضها. ارتفاع درجات الحرارة فوق المعدلات الطبيعية قد يتسبب في أوبئة موسمية للأمراض التي ينقلها البعوض في المناطق التي لا توجد بها عادة أو يُصاب بها البعض بشكل عابر.

كما يسمح الاحترار العالمي في اتساع رقعة انتشار البعوض والأمراض التي يسببها جغرافياً. فمع ارتفاع درجات الحرارة، تنتقل الفصائل التي تنقل الأمراض، الموجودة عادة في المناطق الجنوبية والمنخفضة، إلى الشمال ومناطق المرتفعات.

 محاولة لتعديله جينياً  

ومنذ الاكتشاف الهائل للتقنية الثورية المبتكرة لتحرير الجينات المعروفة بـ "كريسبر" عام 2012، على يد فريق من جامعة كاليفورنيا (باركلي) بقيادة عالمة الكيمياء الحيوية د. جنيفر داودنا، تغيّرت مفاهيمنا السابقة تماماً بشأن الكوكب ومكانتنا عليه. 

والآن تتناول صفحات العديد من المجلات والصحف واسعة الانتشار موضوع تقنية "كريسبر" والبعوض. 

استخدمت التقنية بنجاح لأول مرة عام 2013، وهي عبارة عن إجراء يستخرج جزءاً من تسلسل الحمض النووي من الجين ويبدله بتسلسل آخر مرغوب، لتعديل المحتوى الوراثي بشكل دائم، وسريع، ورخيص ودقيق. 

وموّلت مؤسسة بيل وأماندا غيتس بحثاً في الأمراض التي ينقلها البعوض منذ تأسيسها في عام 2000. واستثمرت عام 2016 في بحث تعديل وراثي للبعوض باستخدام تقنية "كريسبر" بتكلفة إجمالية 75 مليون دولار. وقالت المؤسسة: "إن استثماراتنا في مكافحة البعوض تتضمن نهجاً بيولوجياً ووراثياً غير تقليدي، فضلاً عن تدخلات كيميائية جديدة تهدف إلى استنزاف أو إضعاف مجتمع البعوض الناقل للأمراض". 

ويتضمن ذلك النهج الوراثي استخدام تقنية "كريسبر" للقضاء على الأمراض التي ينقلها البعوض، وأبرزها الملاريا.

انتبه.. هدف هذه الاستراتيجية التي يمولها غيتس ليس قتل البعوض

الهدف الاستراتيجي لمؤسسة غيتس هو القضاء على الملاريا وغيرها من الأمراض التي ينقلها البعوض؛ وليس دفع البعوض، الحشرة غير المؤذية عندما تطير وحدها غير مقترنة بجرثومة قاتلة، إلى حافة الانقراض.

 ومن بين أكثر من 3,500 فصيلة من البعوض بعض المئات منها فقط قادرة على نقل الأمراض. 

يمكن للعلماء القضاء عليه ولكنهم يخشون سيناريو أسود

وتخليق بعوض معدّل وراثياً عاجز عن إيواء الطفيليات (السمة الوراثية المنتقلة من جيل لآخر) قد ينهي تماماً مرض الملاريا التي تهدد البشر منذ قديم الأزل. ولكن، كما تعلم داودنا ومؤسسة غيتس، تقنية تبديل الجينات قد تُطلق أيضاً جانباً أكثر سوداوية وغموضاً وإمكانات شريرة وخطرة. ويُذكر بذلك أن بحوث "كريسبر" ظاهرة عالمية، لا تحتكر داودنا ولا المؤسسة تصميماتها غير المحدودة أو أدوات تطبيقها أو تنفيذها عملياً. 

هناك نظرية كانت تجول بين الأوساط العلمية منذ ستينات القرن الماضي، أطلق عليها "حملة الانقراض"، إذ تستهدف إبادة البعوض عن طريق التعقيم الوراثي. 

مؤسسة غيتس تقود جهوداً لمكافحة البعوضن/رويترز

والآن أصبح من الممكن تطبيق تلك النظرية عملياً باستخدام تقنية "كريسبر". ولنكن منصفين، عدّل البعوض حمضنا النووي لتكوين خلايا الدم المنجلية وغيرها من التدابير الوقائية الجينية ضد الملاريا، ربما حان الوقت لرد الجميل. يمكن إطلاق أسراب من البعوض الذكور المعدّلة وراثياً باستخدام "كريسبر" إلى مناطق البعوض للتزاوج من الإناث وإنتاج سلاسة ميتة، أو عقيمة أو ذكور فقط. وبذلك ينقرض البعوض خلال جيل أو اثنين. وبهذا السلاح القادر على إنهاء الحرب لصالح البشرية لن تخشى البشرية مجدداً من لدغ البعوض. سوف نستيقظ على عالم جديد شجاع، خالٍ من الأمراض المنقولة عبر البعوض. 

والبديل، ببساطة، جعل البعوض غير ضار، الاستراتيجية التي تدعمها وتمولها مؤسسة غيتس. وقالت غيتس في أكتوبر/تشرين الأول 2018: "باستخدام تقنية "التحوّر الجيني"، بإمكان العلماء إدخال الجين إلى تجمعات البعوض إما لقمع تكاثرها أو منعها من نقل الملاريا. لمدة عقود، كان من الصعب اختبار هذه الفكرة. ولكن مع اكتشاف تقنية "كريسبر"، أصبح البحث أسهل كثيراً.

 وخلال الشهر الماضي، أعلن فريق من مجموعة Target Malaria البحثية أنهم أنهوا دراسات تمكنوا فيها من قمع تكاثر تجمعات كاملة من البعوض. ومن أجل التوضيح، أُجري الاختبار داخل مجموعة من الأقفاص المختبرية يحتوي كل منها على 600 بعوضة فقط، ولكنها بداية واعدة". 

القضاء عليه يطلق أسئلة خطيرة

وتمكن د. أنتوني جيمس، عالم الوراثة الجزيئية بجامعة كاليفورنيا (إرفاين)، من استخدام تقنية "كريسبر" على فصائل بعوض الأنوفيليس لجعلها عاجزة عن نشر الملاريا، عن طريق القضاء على الطفيليات عند وصولها إلى الغدد اللعابية للبعوض. ويقول جيمس: "أضفنا تسلسلاً صغيراً من الجينات يسمح للبعوض بالعمل بشكل طبيعي باستثناء تغيّر واحد، لم يعد بإمكانها إيواء طفيليات الملاريا". 

ولكن يصبح ذلك الأمر صعباً مع الحشرة المزعجة، لأنها تنقل مجموعة من الأمراض تشمل الحمى الصفراء، وفيروس زيكا، وفيروس غرب النيل، وفيروس شيكونغونيا، وفيروس مايارو، وفيروس الضنك، وغيرها من العدوى الدماغية. وقال جيمس: "ما نحتاج إليه هو هندسة جين يجعل تلك الحشرات عقيمة. من غير المنطقي تخليق بعوضة مقاومة لفيروس الزيكا إذا كانت لا تزال قادرة على نقل مرض حمّى الضنك أو غيره من الأمراض". 

لدينا أسباب منطقية وشرعية، وإن كانت غير معروفة حتى الآن، تدفعنا للحذر مما نتمناه. إذا تمكنّا من القضاء على فصائل البعوض الناقلة للأمراض، هل بإمكان فصائل البعوض الأخرى أو الحشرات الأخرى أن تملأ هذا الفراغ البيئي ببساطة؟ ما تأثير القضاء على البعوض على التوازن البيولوجي الطبيعي؟ ماذا سيحدث إذا أبدنا فصائل تلعب دوراً هاماً، لكنه غير معروف بعد، في نظامنا البيئي؟ هذه مجرد بداية لمجموعة أكبر من الأسئلة التي تتناول الجانب الأخلاقي والغموض البيولوجي البيئي، وحتى الآن، لا أحد يعرف إجابات تلك الأسئلة.

تحميل المزيد