في خطاب عَكَسَ "أمانة نادرة" بتاريخ 14 يوليو/تموز، أقرَّ السفير الفرنسي لدى الجزائر كزافييه درينكورت بأنه استهان بالشعب الجزائري. وأعرب عن دعمه للشعب الجزائري، وفي الوقت نفسه أشاد بالسيادة الكاملة للجزائر. ومنذ ذلك الوقت، لم يحدث شيء، بل سيحدث الأسو بإفساح فرنسا المجال أمام ثورة مضادة في البلاد.
وبحسب صحيفة Le Monde الفرنسية، تراقب فرنسا الآن، التي "صُعِقت" بعد دعمها للرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، رجل الجزائر القوي الجديد، رئيس أركان الجيش الشعبي أحمد قايد صالح، الذي يكافح من أجل الحفاظ على امتيازات الجيش، وضمان تمتع الموالين له بالحصانة -الذي لا يقل فسادهم شيئاً عن رجال الأعمال الذين اُحتجزوا بالفعل- وكذلك الحد من مدى التغيرات السياسية الحادثة. وبذلك أفسحت أوروبا وفرنسا المجال لتحدث الثورة المضادة، آملاً في أن وقوفهما جانباً دون فعل شيء هو أفضل وسيلة لعدم الإساءة لمستقبل الدولة. لكن هنا يكمُن خطأهما.
ولا يقتصر "الحراك الشعبي" على مسيرات أيام الجمعة فحسب. فمنذ ما يزيد على 6 أشهر، يجتمع الطلاب كل يوم ثلاثاء للمطالبة برحيل الزمرة السياسية-العسكرية-الاقتصادية التي ظلت تختلس ثروة البلاد طوال عشرين عاماً. وإن كانت الحركة محدودة في الأماكن العامة في هذين اليومين من التعبئة، فهذا ليس نابع من رغبتها. إذ تصادمت محاولات تنظيم تجمعات أخرى مع جهاز أمني هائل وسلسلة اعتقالات ضد النشطاء السلميين.
جهاز قمعي مُصمَّم بالتعاون مع فرنسا
منذ منتصف يونيو/تموز، اتخذ الحراك شكل مواجهة بين معسكر مؤيدي إجراء الانتخابات الرئاسية في أقرب وقت ممكن، وهم المحتشدون خلف أحمد قايد صالح والآلة البيروقراطية العسكرية التي تسيطر على الدولة، وفي المعسكر الآخر، يقف المعارضون الذين ينادون بتشكيل مجلس تأسيسي ورحيل جميع أفراد النظام السابق. ورداً على هذه المطالب، حاول أحمد قايد صالح تشويه سمعة خصومه من خلال تشبيههم بـ"البربر و"المُغرَّر بهم" الذين يهددون سلامة الأمة.
وحتى وقت قريب، واجهت الأحزاب والمنظمات المنضوية تحت تكتل "قوى البديل الديمقراطي" عقبات إدارية ومضايقات ضد النشطاء المعزولين. ففي الأسابيع الأخيرة، استهدفت سلسلة من الاعتقالات العديد من المعارضين، بما في ذلك كريم طابو زعيم "الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي" -الذي أُطلِق سراحه في 25 سبتمبر/أيلول واعتُقل مرة أخرى في 26 سبتمبر/أيلول- وسمير بلعربي، من حركة "بركات"؛ وهو ما يشكل تصعيداً لهذا المنطق القمعي.
وصُمِّم هذا الجهاز القمعي المُستخدَم لفرض الانتخابات الرئاسية بدعم نشِط من فرنسا. فتدريب قوات الشرطة الجزائرية على "الإدارة الديمقراطية للحشود" هو نتاج تعاون أمني طويل الأجل بين البلدين. وهو تعاون حظي أيضاً بتشجيع الاتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك الحين، تتحمل أوروبا وفرنسا جزءاً من المسؤولية.
لماذا يرفض الحراكيّون هذه الانتخابات؟
لماذا يرفضون الانتخابات الرئاسية في الوقت الذي تدير فيه حكومة غير مُنتخَبة الدولة منذ 6 أشهر؟ من يطالبون بتشكيل مجلس تأسيسي وحكومة وحدة وطنية يرفضون هذه الانتخابات لثلاثة أسباب سديدة.
أولاً، سيتيح تشكيل مجلس تأسيسي بناء نظام سياسي يحظى بثقة الشعب.
ثانياً، سيعيد كذلك تنظيم مجال سياسي مجزأ؛ بحيث يتمتع كل جانب بنقاط قوته وسيتمكن من إعداد استراتيجية وتحالفات خاصة به.
وثالثاً، نظراً لمدى التأثير الذي تتمتع به الآلة البيروقراطية العسكرية على المؤسسات، ليس هناك أدنى شك في أنها ستتمكن من فرض شخصياتها المفضلة في الانتخابات.
ثورة مضادة لتفكيك السيادة الاقتصادية للجزائر
إلا أنَّ "الشخصيات المفضلة" لخوض الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في ديسمبر/كانون الأول ليست سوى علي بن فليس الأمين العام السابق لجبهة التحرير ورئيس الوزراء الذي أصبح خصم النظام، وعبدالمجيد تبون وهو والي سابق (محافظ) وعُيِّن وزيراً لخمس مرات منذ عام 1992، وكذلك رئيس وزراء بوتفليقة بين مايو/أيار وأغسطس/آب 2017. أي سيتعين على مطالبات تغيير النظام الانتظار.
ويحظى علي بن فليس برضاء ودعم الغرب وفرنسا، ولسبب وجيه: ففي عام 2014، أعلن لصحيفة Les Echos الفرنسية أنَّ حل الأزمة الجزائرية هو تحرير الاقتصاد الوطني بالكامل. وقال إنه في مواجهة الأزمة المالية التي نجمت عن أكثر من عقدين من الفساد والخصخصة الاحتيالية، حان الوقت لتسديد ضربة قاتلة لمخلفات الاقتصاد الاشتراكي. وفي هذا السياق، أعلنت حكومة نور الدين بدوي نهاية "القاعدة الاستثمارية 51/49" التي تحكم الاستثمار الأجنبي والعودة إلى الاستدانة من الخارج.
تقول لوموند: وأياً كان رأيك في هذه التدابير، فالحقيقة هي أنها عبارة عن حكومة بدون تمثيل تُفكِّك السيادة الاقتصادية للبلد لإرسال تعهدات بحسن السلوك إلى شركائها الأجانب، وخصيصاً الفرنسيين، كما تصفها صحيفة لوموند.
والحراك هو إحساس مشترك ناجم عن تعرض الثروة الوطنية للنهب. إذ هتف المتظاهرون "أكلتم البلاد". لكن النظام لم "يأكل" الجزائر وحدها، فقد استفاد من التواطؤ النشط للشركات الأجنبية؛ وخاصة الشركات الأوروبية (مثل شركة النفط الإيطالية ENI)، والبنوك المتساهلة (بشكل رئيسي في سويسرا)، وبالطبع سخاء الحكومات الأجنبية. إذ رحبت فرنسا، من بين دول أخرى، بشكل خاص بتكديس ودعم شخصيات جزائرية أموالاً غير مشروعة، لا سيما من خلال شراء العقارات.
الجزائريون يكافحون للعيش بكرامة
تقول الصحيفة الفرنسية، لا فائدة من الحديث عمّا يمكن أن يكون صحيحاً. فغياب البوصلة الأخلاقية للسلطات الفرنسية والأوروبية عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا أمر موجود بالفعل. لذا يجب أن نتحدث بلغة المصالح.
نظرًا لأنَّ المصلحة المُعلَّنة للحكومة الفرنسية والمفوضية الأوروبية الجديدة هي الحد من الهجرة؛ فلنعلنها صريحة: الجزائريون يطلبون فقط ذلك: الحق في البقاء في الوطن والعيش بكرامة. ومن أجل هذا، فإنهم يكافحون من أجل تأسيس نظام قائم على السيادة الشعبية والعدالة الاجتماعية. ولهذا يتحرك الطلاب في مسيرات أسبوعية هادئة حتى لا يلجأوا إلى الهجرة هرباً من دولة لا تنتظرهم بها حياة.
وفي هذا السياق، ما الذي يمكن أن تقدمه فرنسا وأوروبا؟
تقول لوموند: ليست هناك حاجة لخُطَب عصماء، التي سيُنظَر لها بأية أي حال على أنها تدخل. بل الأفعال هي ما تحتاجان لأن تقدماه؛ وذلك من خلال إنهاء التعاون الأمني مع الشرطة والجيش الجزائريين طالما أنهما يقمعان المتظاهرين السلميين. وكذلك مقاضاة الشركات الفاسدة، وشنَّ تحقيقات في الممتلكات غير المشروعة، ونشر الوثائق التي بحوزة السلطات الضريبية وإعادة رأس المال المسروق إلى الشعب الجزائري. وأخيراً، إعداد حزمة مساعدات اقتصادية طارئة حتى يتمكن الناس من الاستمرار في ثورتهم دون خوف من التعرض لعقوبات وملاحقة. الأفعال، ولا شيء سوى الأفعال، هي التي ستضمن لهم المستقبل.
تختم لوموند بالقول: إذا أرادت فرنسا وأوروبا حقاً الحد من الهجرة، فالأمر أصبح بأيديهما، لأنَّ الجزائريين نفذوا الجزء الخاص بهم بالفعل. لكن مساعيهم لن تؤول للنجاح دون تلقيهم الحد الأدنى من التضامن على الأقل.