إجراءات عزل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انطلقت بسبب ما يعرف بفضيحة أوكرانيا، لكن التحقيقات التي يجريها الكونغرس ربما لن تتوقف عند هذا الملف، فالتهمة هنا هي استغلال ترامب منصبه لتحقيق مكاسب شخصية سياسية أو مادية، فما هي الملفات الأخرى التي سيتعرض لها التحقيق البرلماني؟
موقع سليت الأمريكي نشر تقريراً مفصلاً حول ما يواجهه ترامب بعنوان: "عزل ترامب يتخطّى أوكرانيا"، جاء في مقدمته: "يجب عزل الرئيس دونالد ترامب، ليس فقط على خلفية تلاعبه بأوكرانيا، بل بسبب أسلوبه الجارف في خيانة الولايات المتحدة".
ضغط نزيه كلياً!
يُقسِم الرئيس الأمريكي أن ضغطه على أوكرانيا للتحقيق مع نائب الرئيس السابق جو بايدن، المنافس الرئيسي لترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية المزمعة في 2020 كان نزيهاً كلياً. وعلى الرغم من مجموعة الأدلة التي تشير إلى أن ترامب قد أساء استغلال السلطة -لا سيّما الشكوى التي تقدّم بها مبلّغ، والمكالمة الهاتفية الابتزازية التي أجراها مع رئيس أوكرانيا، وتعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لزيادة وطأة الضغط، ونفوذ المحامي الشخصي لترامب رودي جولياني في أوكرانيا- يحطّ الرئيس الأمريكي من شأن القصّة بأسرها، واصفاً إياها "بأنها حملة شعواء من أوكرانيا"، ويقول إنه سينجو من أي عقوبة.
لكن سِجلَ ترامب الإجرامي أكبر بكثير من قصة واحدة؛ فما فعله في أوكرانيا -من دفاع عن مسؤول أجنبي فاسد، وتجنيد حكومة أجنبية لمحاربة خصومه السياسيين المحليين، وتحايلٍ وإقصاءٍ بحقّ مسؤولي الأمن الأمريكيين الذين وقفوا في طريقه- هو فقط جزء من صورة أشمل. ففي معاملاته مع سبع دول على الأقل، سعى ترامب إلى تحقيق منافع شخصية على حساب الولايات المتحدة، وفي كل واقعة، كان ترامب يهاجم أمريكا أو قادتها السياسيين أو مسؤولي الأمن القومي بصراحة ووضوح.
دفاعه عن بوتين
التمس ترامب مساعدة روسيا في حملة إجرامية، ودافع عن التعاون مع الكرملين للفوز في انتخابات عام 2016. وهذه ليست ادعاءات غير مثبتة، إذ وُثقت بتسجيلات فيديو. ففي مؤتمر صحفي عُقد في يوليو/تموز 2016، حث ترامب روسيا على اختراق مراسلات هيلاري كلينتون. وعندما سأل أحد المراسلين الرئيس عما إذا كانت لديه "أي تحفّظات بشأن مطالبة حكومة أجنبية؛ مثل روسيا، أو الصين، أو أي حكومة أخرى، بالتدخل، أو اختراق … (حسابات أو حيوات) أي شخص في هذا البلد"، أجاب ترامب قائلاً: "لا، الأمر لا يستوقفني". وفي عام 2017، عندما سئل عن الاجتماع الذي انعقد في برج ترامب وسعى خلاله كبار مسؤولي حملته للحصول على مساعدة سياسية من مبعوثين سرّيين روس، قال ترامب إنه لا يوجد ثمّة فارق بين الحصول على المساعدة من الروس والحصول عليها من الأمريكيين.
وشدد ترامب مراراً على أن الولايات المتحدة ليست أفضل من روسيا؛ فقد دافع ترامب عن سجل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإجرامي في قتل المنشقين -تارة خلال حملته الانتخابية، وتارة أخرى بعد تقلّده منصب الرئيس- مدعياً أن "بلادنا تمارس الكثير من (عمليات) القتل أيضاً" وليست "بريئة". وقال ترامب إن بوتين كان أفضل من الرئيس باراك أوباما، ووصف الرئيس الروسي قائلاً: "هو قائد، مثلما تعلمون، على عكس من لدينا في هذا البلد"، وخلال مؤتمرٍ صحفي انعقد الشهر الماضي، تباهى ترامب خمس مرات بأن بوتين "تفوق بدهائه" على أوباما.
وقد اتخذ ترامب خطوات بعينها لحماية بوتين من الحكومة الأمريكية. إذ دافع مراراً وتكراراً عن بوتين ضد تقرير الاستخبارات الأمريكية عام 2017 الذي كشف النقاب عن تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية عام 2016. وأدان ترامب أيضاً المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا وراء هذا التقرير باعتبارهم كاذبين وفاشلين. إضافة لذلك، استنكر موقف مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووكالة الاستخبارات المركزية، ووكالة الأمن القومي، و "مجتمع الاستخبارات" في العام الماضي بعدما أصدرت وزارة العدل عريضة اتهام بتورط 12 ضابطاً من المخابرات الروسية في اختراق الانتخابات، ورفض ترامب تلك الأدلة ودافع عن إنكار بوتين.
تحالف علاقات عامة مع زعيم كوريا الشمالية
في العام الماضي شكل ترامب تحالف علاقات عامة مع ديكتاتور كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، قائماً على توهم بشأن إمكانية المنفعة المتبادلة، متمثلاً في أن تُنهي كوريا الشمالية برنامج الصواريخ النووية الخاص بها أو توقفه. ومنذ ذلك الحين، حذا ترامب حذو كيم، في السخرية من السياسيين والدبلوماسيين الأمريكيين الذين لا يعجبون كيم. وفي مايو/أيار الماضي، أشاد ترامب مراراً بكوريا الشمالية ودعا بايدن بـ "الأحمق منخفض الذكاء". وصوّر في يونيو/حزيران الولايات المتحدة على أنها دولة متواضعة تلتمس ود كوريا الشمالية، مدعياً كذباً أن أوباما "دعا كيم جونغ أون في عدة مناسبات للاجتماع"، وأنه على الرغم من "استجدائه المتواصل لعقد اجتماع"، رُفض طلبه.
وبالإضافة إلى ذلك، أيد ترامب هجوم كيم على مستشاري الرئيس الأمريكي. ومنذ أسبوعين، بعد أن نددت كوريا الشمالية بجون بولتون، مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، واصفة إياه بأنه "حثالة بشرية"، وقالت إنه ينبغي له أن يختفي. وأقال ترامب بولتون ودافع عن دعوات كوريا الشمالية التحريضية ضده.
يستمتع كيم، على غرار بوتين، بالحماية التي يكفلها له ترامب من وكالات المخابرات في الولايات المتحدة. وقد تجاهل ترامب أدلة هذه الوكالات بشأن النشاط النووي والصاروخي لكيم، وقال عن تلك الادعاءات إنها "أخبار كاذبة" من "الحزب المعارض". وفي الشهر الماضي، تبع ترامب خطى كيم في انتقاد التدريبات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. وفي يوم الإثنين 24 سبتمبر/أيلول وعلى الرغم من التحذيرات الدولية من عمليات الإطلاق الصاروخية المتواصلة التي تجريها كوريا الشمالية، دافع الرئيس الأمريكي عن تلك العمليات.
حماية ولي عهد السعودية
يحمي ترامب ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، من المعلومات الاستخباراتية الأمريكية التي تُثبت تورط الأخير في توجيه جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي كان يقيم في الولايات المتحدة. وفي الخريف الماضي، خلُصت تحليلات وكالة المخابرات المركزية إلى أن ولي العهد أمر بتنفيذ عملية الاغتيال. لكن ترامب كذب بهذا الشأن وادّعى أن وكالة المخابرات المركزية "لم تتوصل لاستنتاج". بعدها وجه الكونغرس ترامب لإصدار تقرير بشأن المسؤول عن مقتل خاشقجي، لكنه رفض. قبل ثلاثة أشهر، عندما سُئل ترامب ما إذا كان ينبغي أن يحقق مكتب التحقيقات الفيدرالي في هذه القضية، قال قد أجريت تحقيقات كافية فيها، وادعى أنه "لم يُشر أحد بإصبع الاتهام حتى الآن" إلى محمد بن سلمان. وعندما أشار صحفي إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية أتت بالفعل على ذكر بن سلمان، رد ترامب قائلاً: "لا أرغب في الحديث عن المخابرات".
حرب تجارية
يشتكي ترامب عادة من الفائض التجاري للصين مع الولايات المتحدة. لكنه يصر دوماً على أن الجاني الحقيقي هو حكومة الولايات المتحدة. وهذا لأنه يرى أن المنافسة مع البلدان الأخرى مكان للتفوق على أعدائه الحقيقيين وإذلالهم؛ وهم رفقاؤه السياسيون الأمريكيون. قال ترامب صراحة، ما لا يقل عن 19 مرة منذ أن تولى الرئاسة: "لا ألوم الصين". بل ألقي باللوم على أمريكا. وقال في الخريف الماضي: "لا ألوم الصين، بل ألوم بلدنا". وكرر في العام الماضي ومرة أخرى منذ شهرين قائلاً: "لا ألوم الصين، بل ألوم الولايات المتحدة".
يتجاوز ازدراء ترامب لأمريكا بهذا الشكل، فيما يتعلق بالصين، السياسة التجارية. وهو يؤمن كذلك بأن حكومة الصين الشيوعية تتفوق أخلاقياً على الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة. وفي وقت سابق من هذا العام، رفضت رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، وعضو مجلس الشيوخ الديمقراطي، تشاك شومر، تمويل الجدار الحدودي الذي أراده ترامب، احتج الأخير قائلاً: "بصراحة، أجد الصين، أكثر احتراماً بمرات من نانسي وتشاك الناحبين. بالفعل. أعتقد أن التعامل مع الصين أسهل من التعامل مع الحزب المعارض".
مهاجمة نائبات أمريكيات لصالح إسرائيل
استهدف ترامب هذا العام أربع عضوات ديمقراطيات في الكونغرس هن: ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، وإلهان عمر، وأيانا بريسلي، ورشيدة طليب. ووصفهن بأنهن غير أمريكيات "أتين من بلدان" حكوماتها سيئة (وُلد ثلاث منهن هنا في أمريكا) وينبغي لهن "العودة والمساعدة في إصلاح الأماكن التي أتين منها الفاسدة تماماً والموبوءة بالجريمة". لكن في هذا الموقف كان ترامب هو من يزج بحكومة أجنبية إلى هذا الخلاف، وليس النائبات الأربع.
خططت إلهان ورشيدة للسفر إلى إسرائيل الشهر الماضي. وعلى الرغم من اعتراض إسرائيل على دعمهما للمقاطعة، سمحت لهما بزيارتها، باعتبار أن منع أعضاء من الكونغرس من دخول البلاد سيكون إهانة للولايات المتحدة. لكن ترامب لم يشعر بمثل هذا الولاء تجاه بلده، بل حث إسرائيل علناً على حظر المواطنتين الأمريكيتين من دخول البلد، بل إنه حذر إسرائيل في الواقع من أنها ستبدو بمظهر ضعيف إذا وافقت على هذه الرحلة، ومارس إلى جانب ذلك ضغوطاً على مسؤولين إسرائيليين سراً. وتحت تأثير ضغطه، راجعت إسرائيل نفسها ومنعت هذه الزيارة.
مضى ترامب في استغلال نهر إسرائيل عضوتي الكونغرس، تماماً مثلما استغل انتقادات بوتين لكلينتون وانتقادات كوريا الشمالية لبايدن. واقترح أن يكون ولاء الأمريكيين اليهود لإسرائيل مُقدماً على واجباتهم باعتبارهم مواطنين أمريكيين. وقال ترامب: "أي يهودي يصوت للديمقراطيين هو خائن لإسرائيل".
كان ترامب كثيراً يلتمس لتركيا العذر في عدائها للولايات المتحدة. وفي 2017، دافع عن مايكل فلين، مستشاره السابق للأمن القومي، بعد أن كُشِّفت عمالته لتركيا، وذلك بعد أن تصدى لخطة أمريكية لتسليح الأكراد حلفاء الولايات المتحدة. بعدها رفض ترامب أن ينتقد استبداد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بل وعبر عن تعاطفه معه في مكالمة هاتفية، بعد أن هاجم حراس الأخير المتظاهرين في واشنطن. وفي العام الماضي، ضغط البيت الأبيض وزارة العدل للبحث عن طرق لنفي المعارض التركي فتح الله غولن، على الرغم من أن ترامب أُبلغ بعدم وجود أسباب قانونية لذلك. وفي النزاع على ما إذا كان ينبغي خيانة الأكراد في سوريا، أخذ ترامب جانب أردوغان ضد مسؤولي الولايات المتحدة. واختتم ترامب خيانته بأن أقال وزير الدفاع، جيمس ماتيس، الذي احتج على التخلي عن الأكراد.
ما نعرفه حتى الآن عن تلاعب ترامب بأوكرانيا خلف الكواليس يتناسب مع هذا النمط. لكنك تستطيع أن ترى أيضاً أمثلة متعددة على اختلالاته في العلن.
من بين هذه الاختلالات عدم إدراكه أنه يُفترض أن يكون في فريق الرؤساء الأمريكيين السابقين نفسه، وليس عدواً لهم. في اجتماع قمة الدول السبع الشهر الماضي، حمل ترامب سالفه أوباما مسؤولية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وهي مقاطعة أوكرانية، وقاله إنه إحراج شخصي لأوباما. وقال الرئيس إن هذا الغزو كان مشكلة أوباما وليس مشكلته هو. وهكذا، فمن منظور ترامب وقد صار الرئيس الآن، ينبغي أن تُلغى العقوبات التي فُرضت على روسيا، ومن بينها طردها مما كان مجموعة الدول الثمانية من قبل. وقال: "لقد سُلبت القرم من الرئيس أوباما وليس من الرئيس ترامب. كان ذلك مخجلاً للغاية له. وقد أراد أن تخرج روسيا من المجموعة.. كان ذلك قراره".
ومن اختلالات ترامب التي قد تكون مألوفة أكثر من تفاعله مع روسيا والصين وشمال كوريا، هي عادته في الانتقاص من الناقدين المحليين من خلال اللعب على فكرة الدونية الأمريكية. قال الرئيس للصحفيين يوم الجمعة 20 سبتمبر/أيلول: "صار إعلامنا أضحوكة العالم"، منتقداً إياه لملاحقته مسألة أوكرانيا، وذلك في أثناء وجود رئيس الوزراء الأسترالي، مضيفاً: "إعلام بلادنا مثار سخرية في جميع أنحاء العالم حالياً. أنتم أضحوكة". وادعى ترامب يوم الثلاثاء 24 سبتمبر/أيلول خلال اجتماع مع الرئيس العراقي، أن جميع رؤساء الدول الأخرى الذي تحدث معهم خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة قالوا إن التحقيقات حول كانت "جنونية".
هجوم على المسؤولين الأمريكيين
أما النمط الثالث المتسق مع تعامل ترامب مع روسيا، وكوريا الشمالية، وتركيا، والسعودية، هو هجومه على مسؤولي المخابرات الأمريكية. كتب ترامب على تويتر يوم السبت 21 سبتمبر/أيلول مقتطفات من معلقين من قناة Fox News. وصف أحدهما شكوى المُبلغ عن مخالفة أوكرانيا بأنها "جهود تحريضية" ضد ترامب. وحذر الآخر من احتمال أن يكون هناك "جاسوس أمريكي من داخل وكالات مخابراتنا يتجسس على رئيسنا".
يقول ترامب إن أوكرانيا جزء من قضية أكبر بكثير. وقال ساخراً يوم الثلاثاء: "هي مجرد استمرار لحملات التشهير". وهو محق في أننا نرى الأمر نفسه مراراً وتكراراً. لكن المختلف هذه المرة هو أنه رئيس يخون بلاده. أعدوا التقارير الصحفية بشأن عزله.