على الرغم من استدعاء السلطات المصرية للأساليب التقليدية التي اتبعتها عام 2011 للتصدي للمظاهرات التي تحولت لثورة أطاحت برأس النظام محمد حسني مبارك، من اعتقال للنشطاء وإطلاق حملة إعلامية تصور ما يحدث على أنه محاولات لهدم الدولة تقف وراءها دول خارجية، فإن حقيقة الاحتجاجات ونوعية من خرجوا للمطالبة برحيل الرئيس عبدالفتاح السيسي مختلفة هذه المرة.
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تحليلاً بعنوان: "مصر اكتفت من انتظار الليبراليين"، كتبته علا سالم، وهي صحفية بريطانية-مصرية، طالبة دراسات عليا بجامعة نيويورك، ولها خبرة تمتد إلى 10 سنوات في تغطية شؤون الشرق الأوسط.
كيف كانت البداية؟
خرج آلاف من المصريين إلى الشوارع خلال الأسبوع الماضي، مطالبين الرئيس عبدالفتاح السيسي بالتنحي. كانت هذه الاحتجاجات مفاجأة لعدة أسباب. على المستوى السياسي، كان حدوث المظاهرات مفاجأة في حد ذاته. فقد كانت هذه أول مظاهرات احتجاجية كبيرة ضد السيسي منذ توليه السلطة في انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب ديمقراطياً محمد مرسي في عام 2013. وكان كثير من المراقبين في مصر قد اعتقدوا أن الجنرال السابق قد أوقف أي احتمال لتنظيم مظاهرات ضده بعد أن قاد حملة قمعية استثنائية لم يسبق أن جرى مثيل لها، على الزعماء التقليديين للمعارضة في البلاد، من الليبراليين إلى الإسلاميين.
دعوة شكك فيها قادة المعارضة
وهذا ما يقودنا إلى المفاجأة الكبيرة الثانية: قيادة تلك الاحتجاجات. فقد اشترك النشطاء المعروفون الذين قادوا الانتفاضة التي أطاحت الرئيس حسني مبارك عام 2011 -والذين يواصل عديد منهم نشاطهم الحالي من المنفى- في نظرة مرتابة بشكل عامٍ إلى هذه الجولة من المظاهرات. غير أن المصريين تمكنوا، بدلاً من ذلك، من اختراق جدار الصمت الحالي بفضل رفيق منفي آخر، لم يكن يُنظر إليه سابقاً على أنه فاعل سياسي على الإطلاق، في حين يجتمع على معارضته الآن الحكومة والنخب الليبرالية على حد سواء.
بدأت الاحتجاجات بسلسلة من مقاطع الفيديو التي نشرها محمد علي، وهو ممثل مصري يبلغ من العمر 45 عاماً، وربح ثروة من العمل مقاولاً مع الجيش، ويعيش حالياً بإسبانيا. ومنذ أن بدأ لأول مرة في إطلاق مقاطع فيديو له يومياً تقريباً على فيسبوك ويوتيوب في 2 سبتمبر/أيلول، شاهد هذه المقاطعَ مراراً وتكراراً، مئات الآلاف من الأشخاص، حتى إن بعضها شوهد ملايين المرات.
بساطة الرسالة أوصلتها للمطحونين
وتُظهر مقاطع الفيديو عليّ، وهو يتحدث مباشرة إلى الكاميرا في جلسة ووسط غير رسمي، غير عابئ غالباً بترك ثلاثة من أزرار يلقميصه مفتوحة وتدخين السجائر طيلة الوقت. والموضوع الذي يتحدث فيه بشكل عام هو أفعال السيسي السيئة ضد الشعب المصري. وهذا يشمل السياسة الخارجية للسيسي، فقد تحدث علي عن إخضاع مصر لممالك الخليج الغنية، وليس أقلها التخلي المثير للجدل عن جزيرتي البحر الأحمر، تيران وصنافير، للسعودية، فضلاً عن الإخفاق في التوصل إلى أي انفراج بالوضع مع إثيوبيا فيما يتعلق بالسد الذي أقامته على نهر النيل، الذي تعتمد عليه مصر في التزود بمعظم مياهها العذبة.
فساد الرئيس وأسرته
لكن الموضوع الرئيس الذي يتحدث فيه هو فساد الحكومة، إذ يزعم علي أنه يرمي إلى كشف معلومات داخلية تفضح إساءة استخدام السيسي للأموال العامة لصالح أسرته وأصدقائه، من خلال الجيش.
ويقول علي في أحد مقاطع الفيديو، إنه قد أُمر بالمساعدة في بناء مشروعٍ فندقي من فئة 7 نجوم يسمى Triumph (انتصار) لأحد شركاء الرئيس. وبحسب كلامه، "فقد أخبر اللواء الكبير شريف [شريف صلاح الدين] عن المشروع، فما كان من الرئيس إلا أن منحه ميزانية مفتوحة". ويعلق: "أنا لا أعرف كيف أننا فقراء للغاية وهو يجامل صديقه المقرب بفندق تكلف أكثر من 2 مليار جنيه!". كما تحدث في أول فيديو له، عن فيلا فخمة في المعمورة، بُنيت خصوصاً، لأن زوجة السيسي "لم ترغب في النوم على سرير سوزان مبارك"، في إشارة إلى السيدة الأولى السابقة.
الأهم من ذلك هو الطريقة التي يتحدث بها علي: فهو يتحدث في إيقاع وعاميّة شخص أتى من الريف المصري. ومقاطع الفيديو خُطب مباشرة يدعو بها الناس العاديين، ويشاركهم تفاصيل تربيته المتواضعة على طول الطريق. فيتحدث علي عن كيفية تركه العمل مع أهله في محل الذهب واتجاهه للعمل مقاولاً مع الجيش منذ 15 عاماً، خلال عهد مبارك. وكيف نجح، بعد إثبات ولائه للجيش، في التمتع بنمط حياة مفرط في رفاهيته، مليء بالسيارات الفاخرة والمنازل الفخمة. وقد كانت هذه الثروة الجديدة نتاج نظام فاسد، وفق قوله، وليس مجرد عمله الشاق. فقد كانت عقود العمل التي حصل عليها تأتي إليه دون عطاءات أو مناقصات، في مقابل ولائه، والصمت.
تركّز مقاطع الفيديو على إظهار كيف أن فساد السيسي أسوأ من فساد مبارك. ويلفت الانتباه منتقداً إلى محاباة السيسي لأقاربه والمقربين منه، وهو أحد الأسباب الرئيسة وراء انتفاضة 2011 على مبارك وأبنائه. ويقول إن السيسي أنفق 2 مليار جنيه، أي نحو 120 مليون دولار، من أموال الدولة لإنشاء فندق من فئة 7 نجوم لأحد أصدقائه. ثم أمر السيسي بعد ذلك ببناء قصر بقيمة 250 مليون جنيه (15 مليون دولار)، مع تغييرات إضافية تكلفت نحو 25 مليون جنيه (1.5 مليون دولار). ويقول علي إن هذا القصر قد بُني برغبة من زوجة السيسي. ويتناول علي بالتفصيل قائمة طويلة من المنازل الخاصة التي أنشأها الرئيس، وغيرها من الأموال المهدرة، التي تشمل ما يصل إلى 60 مليون جنيه (3.5 مليون دولار) في حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، و2.3 مليون جنيه (140 ألف دولار) على جنازة أقامها لوالدته.
حظر المواقع لم يفلح
في غضون ساعات من نشر أول مقطع فيديو له، حُظرت حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بعلي في مصر. لكن الفيديوهات كانت قد انتشرت بالفعل كالنار في الهشيم خلال مجموعات الدردشة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لها صدى عميق لدى كثير من المصريين الذين يعانون حالة التدهور الاقتصادي لبلادهم في السنوات الأخيرة. وأكدت كلماته ما كان يشك فيه كثير من المصريين منذ فترة طويلة (وما قال به الخبراء منذ زمن طويل): أن استثمارات السيسي العامة الكبرى لم تكن منطقية من الناحية الاقتصادية وكانت تسهم في زيادة الفقر بين الناس العاديين.
كذلك قوضت الفيديوهات ادعاءاته بالفقر الوطني والحاجة إلى التقشف. فقد أصر السيسي، لسنوات، على إخبار المصريين في كل مناسبة بأن البلاد فقيرة وأنه لا يستطيع تحمُّل نفقات تحسين مستوى معيشتهم. وقال في عام 2014: "أنا لا أستطيع أن أعطيك أي شيء. نحن لا نمزح أو نلعب، أنا ليس في مقدرتي أن أعطيك. يجب ألا تسألني أن أعطيك أي شيء".
تأكيد السيسي للرسالة
تناول السيسي مباشرة، في 14 سبتمبر/أيلول، مزاعم علي في مؤتمره للشباب. ومن المثير للاهتمام أن الرئيس لم ينكر المزاعم صراحةً. وقال في المؤتمر: "يقولون (إنكم تبنون قصوراً)، وأنا أقول: نعم بالطبع، أنا أبني قصوراً. لقد بنيت قصوراً رئاسية، وسأبني مزيداً من القصور، هل هذا من أجلي؟ سأبني وأبني وأبني، لكنني لا أفعل ذلك من أجلي، فهي ليست باسمي، إنها ليست باسمي، لا يوجد شيء باسمي، إنها باسم مصر".
وقال السيسي في مؤتمر الشباب: "إنهم يقولون لك أن تنظر إلى ثروات البلد، قناة السويس، وبقية هذا الكلام الرخيص. لا، يا شعب، لا".
لكن رد فعل السيسي الصارم على مقاطع الفيديو أضفى مصداقية على مزاعم علي، وهكذا زاد من متابعته. ثم اتجه علي إلى البناء على هذا الزخم من خلال الدعوة إلى احتجاجات جماهيرية على السيسي. وما حدث بعد ذلك مثّل صدمةً لكثيرين، فقد استجاب آلاف من المصريين لدعوات علي إلى الاحتجاج في يوم الجمعة، 20 سبتمبر/أيلول. صرخت سيدة وسط الاحتجاجات: "لماذا ينبغي أن نتحمل أن يعيش هو في القصور، في الوقت الذي يأكل الناس من القمامة؟!"، وتحمل كلماتها بوضوحٍ أثر النقاط التي أثارها وتحدث فيها علي. وقال متظاهر آخر في فيديو منقول مباشرة على فيسبوك من ميدان التحرير: "ليس لدي عمل، وليس لدي أي مكان أذهب إليه، أي إنني ضائع في الأحوال كافة".
خروج المظاهرات مؤشر قوي
من اللافت للنظر أن المظاهرات وقعت على الرغم من الحملات السلبية ضد علي ودعوته للتظاهر، من قِبل نشطاء ديمقراطيين بارزين، يعتقد كثير منهم أن مصر لن تتحمل ثورة أخرى، خاصة مع النظر إلى قوة الجيش بالنسبة إلى معارضيه. حتى إن وائل غنيم، أيقونة ثورة 2011، كسر مؤخراً صمته الذي استمر عدة سنوات، لدعوة الناس إلى عدم التمرد.
استغلت القنوات الموالية للسيسي الهجمة المضادة التي شنها نشطاء ديمقراطيون ضد علي، وروجوا لفيديوهات غنيم. وهكذا غدت الحركة المناهضة للسيسي منقسمة: فقد كان أنصار غنيم مرتابين في ظهور علي المفاجئ، ويشتبه بعض المحللين في أن علي لديه صلات مع فصيل معارض للسيسي داخل النظام، في حين أن أنصار علي ارتابوا في عودة غنيم إلى الظهور بعد سنوات من الغياب عن الساحة. وعلى الرغم من الحملات شبه الموحدة ضد علي والمتظاهرين من أطياف النخبة المصرية المختلفة، فإن رسائله لا تزال تتردد ولها تأثير كبير.
فهو، كما قالت سيدة مصرية لي: "يتحدث مثلنا، ويبدو مثلنا، ويشتم الرئيس بطرق تمنَّينا جميعاً لو أمكننا شتمه بها. إنه يعبر عن الغضب الذي نشعر به. ليست لديه أجندة، وهو ليس سياسياً. أين المعارضون وقادة المعارضة؟ إنهم جميعاً في السجن. إنه ليس جزءاً من أي من هذه الأشياء. لذلك فقد أصبح بطلاً".
يبدو أن الموجة الجديدة من الاحتجاجات قد خرجت من قاع المجتمع المصري، ومن جيل جديد غير مرتبط بالقادة التقليديين للمعارضة. واستقطب علي، من خلال ذلك، التركيبة السكانية ذاتها التي رآها السيسي قاعدةً له. وفي حين أن كثيرين أشاروا إلى قسوة السيسي، فإن علي أول من ركز اهتمام الجمهور على محاباة السيسي للمقربين منه وسعيه إلى إقامة شكل من أشكال حكم الأسرة للدولة.
وسواء أدت الاحتجاجات أو لم تؤدّ إلى انتفاضة كاملة، فقد أنشأت بالفعل خط أساس جديداً للمقاومة ضد السيسي. وقطع عليّ خطوات، تفوق ما أخذته النخب الليبرالية بكثير، في التواصل مع أكثر المتضررين من سياسات السيسي، وتمكن من تحويل انتباههم إلى السبب الحقيقي وراء تزايد معاناتهم. لقد حان الوقت أن يشعر السيسي بالقلق من القادم.