على غير ما يروّج له في بعض وكالات الأنباء والصحف الإسرائيلية وحتى العالمية، يعد تحالف "أزرق أبيض" الإسرائيلي المعارض لنتنياهو في الأساس فصيلاً يمينياً يقوده جنرالات. وقد بدأ زعيمه الأول ومرشحه لرئاسة الوزراء، بيني غانتس، مسيرته السياسية قبل ثمانية أشهر بمقاطع فيديو تتباهى بقتل المئات من الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي تحت قيادته خلال حملتين عسكريتين في قطاع غزة. كما أنه وعد بغزو بري شامل لقطاع غزة واغتيال قادة حركة حماس، إذا تولى السلطة هو ورفاقه الجنرالات بعد الإنتخابات.
تحالف الجنرالات لا يختلف بشيء عن نتنياهو
ولأن الشيء بالشيء يذكر، كان غابي أشكنازي، الرجل الرابع في قائمة مُرشّحي الائتلاف لمنصب وزير الدفاع، سلف غانتس في منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وقد تزعّم عملية "الرصاص المصبوب" المدمرة في حرب غزّة التي نشبت في شتاء 2008-2009.
أما الثالث على قائمة المرشّحين من تحالف "أزرق أبيض" هو موشيه يعلون، عضو حزب الليكود سابقاً، وكان وزيراً للدفاع أيضاً بين عامي 2013-2016، وشنت في عهده حرب مدمّرة على غزة عام 2014، كما أن آراءه متطرفة داخل إسرائيل نفسها، وسبق أن وصف مؤسسة "السلام الآن" الإسرائيلية بأنها فيروس، وسياسياً يصر على أن الدولة الفلسطينية لن تتأسس.
أما الرجل الثاني على قائمة مُرشّحي التحالف هو يائير لابيد، صاحب السجل العسكري الغامض للغاية كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية، ولكن بعد انتخابات عام 2013، عندما كانت هناك فرصة لخلق "حكومة وسطية" ليست تحت مظلّة حكم بنيامين نتنياهو، قال مقولته التي لا تُنسى عشيّة الانتخابات بأن حزبه "هناك مُستقبل"، "لن ينضم إلى كتلة واحدة مع اليسار وأنصار زعبي"، في إشارة مُستهجنة إلى النائبة العربية آنذاك حنين زعبي من "حزب البلد".
"أزرق أبيض" هو "ليكود" بنسخة جديدة لا أكثر
لا يختلف برنامج تحالف أزرق أبيض عن برنامج حزب الليكود. إذ يفتقر كلاهما لأي خطة لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على نحو يتجاوز "الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين" كما تقول هآرتس. والكثير من أعضاء التحالف كانوا سابقاً أعضاءً بحزب الليكود ومرشحين سابقين عن حزب "إسرائيل بيتنا" لرئيسه أفيغدور ليبرمان.
وفي الأساس، ليس أزرق أبيض أكثر اعتدالاً بكثير من الليكود، وربما يختلف قليلاً بعدم وجود وقائع فساد علنية عليه حتى الآن فقط، لذا فإن نعته بـ"الوسطي" سيكون وصفاً خاطئاً تماماً، بشهادة الصحفي الإسرائيلي أنشيل فايفر، أحد أبرز الكتّاب في هآرتس، والمراسل لمجلة The Economist البريطانية.
"البحث عن الاندماج".. هل يكون فاتورة لدعم غانتس؟
يكمن الغرض من هذا الشرح الطويل لطبيعة "أزرق أبيض" الحقيقية في التأكيد على مدى أهمية أن القائمة العربية المشتركة، التي تمثل مختلف الأحزاب السياسية العربية في إسرائيل، قد أيّدت غانتس رئيس وزراء محتملاً في مشاوراتها مع الرئيس الإسرائيلي روفين ريفلين مساء الأحد 22 سبتمبر/أيلول 2019. تقول صحيفة هآرتس: "يجب أن يؤخذ الأمر على أنه إشارة إلى مدى إلحاح رغبة الناخبين الذين أرسلوا ممثلي القائمة المشتركة الـ13 إلى الكنيست يوم الثلاثاء الماضي، من أجل "الاندماج في المجتمع الإسرائيلي". لكن هذا فاتورة هذا الاندماج ربما تكون باهظة وأسوأ مما تعتقد القائمة العربية، التي أصبحت اليوم تفاضل بين السيء والأكثر سوءًا.
في الوقت نفسه، أشعلت هذه الخطوة من القائمة المشتركة جدالاً عربياً واسعاً، وجددت الدعوات من الحركات والأحزاب العربية المقاطعة لانتخابات الكنيست، بإعادة النظر بالجدوى من الوجود العربي في البرلمان، وإيجاد البدائل لتنظيم الجماهير العربية بعيداً عن اللعبة السياسية الإسرائيلية.
كانت آخر مرة أيد فيها هؤلاء أحد رؤساء الوزراء قبل 27 عاماً، عندما أيدوا إسحاق رابين، زعيم حزب العمل. ومنذ ذلك الحين، مررنا باتفاقات أوسلو، وانهيار اتفاقات أوسلو، وانتفاضة ثانية شملت اجتاحت مناطق داخل إسرائيل نفسها، قتلت فيها الشرطة الإسرائيلية 13 مواطناً عربياً، ومرّت سنوات طويلة من إراقة الدماء في الضفة الغربية وغزة، ناهيك عن تضخّم تيار العنصرية السائدة المعادية للعرب.
مشاركة العرب في الحكومة أمر مستحيل
تقول هآرتس إن هذا التأييد العربي ذو شأن كبير، لكنه لا يعني أن القائمة المشتركة ستكون جزءاً من أي حكومة يقودها غانتس إذا نجح في النهاية في تشكيل ائتلاف. فليس هناك احتمال لذلك، ولكن كما قال رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة بعد ظهر الأحد، فإن هدفهم الرئيسي هنا هو إنهاء حقبة نتنياهو. فقد حان أخيراً وقت الرد على العنصرية التي شرّعها نتنياهو منذ نشر مقطعه الدعائي السام باسم "العرب يذهبون إلى صناديق الاقتراع بأعداد كبيرة" في يوم الانتخابات خلال عام 2015. لكن المستقبل مسألة أخرى.
والأمر لا يتعلق فقط بالقصاص من نتنياهو. فبينما يحتاج أعضاء القائمة المشتركة بالكنيست بالطبع إلى الإقرار بأن هذا هو السبب وراء خروج الكثير من ناخبيهم يوم الثلاثاء الماضي، خرج الناخبون أيضاً ليقولوا إنهم يريدون صوتاً أكبر في النقاش السياسي السائد في إسرائيل. إذ أظهر استطلاع للرأي أجري في أبريل/نيسان أن 87٪ من الإسرائيليين العرب يريدون انضمام حزب عربي إلى الحكومة، أيّاً كانت هذه الحكومة. (وتوصّلت نتائج نفس الاستطلاع إلى أن أكثرهم يفضلون أن يعرّفوا أنفسهم بأنهم عرب إسرائيل أكثر من كونهم فلسطينيين)، كما تقول هآرتس.
وحول ذلك يقول النائب في القائمة المشتركة عن الحركة الإسلامية عباس منصور "إن القائمة ضد تشكيل حكومة وحدة وطنية تستثني الأحزاب العربية والشرائح المهمشة من المشهد السياسي الإسرائيلي، وتكرس السياسات ذاتها".
وبرر منصور التوصية بغانتس "بتطلع القائمة إلى أن تصبح لاعباً فاعلاً في الساحة السياسية الإسرائيلية، والتصدي لمحاولات الإقصاء للأحزاب العربية الممثلة بالكنيست من دائرة التأثير واتخاذ القرار".
ولكن بحسب هآرتس، لا تزال هذه مجرد خطوة أولى مُعلنة حتّى وقتنا هذا على الأقل، فقد قابل تحالف أزرق أبيض اقتراحات أيمن عودة التي طرحها في مقابلات مؤخراً بالتجاهل. والقائمة المشتركة لم تكن من جانبها متمسّكة بالأمر. فضلاً عن أن أعضاء "حزب البلد الثلاثة صوتوا ضد تأييد غانتس، ولم ينضم ممثلوهم إلى بقية القائمة في مقر إقامة الرئيس.
"تأييد العرب لغانتس أشبه بتأييدهم القديم لرابين الذي كسّر أيادي الفلسطينيين"
في السياق ذاته، تقول هآرتس إنه لا يجب أن تُضفَى على القائمة المشتركة صِبغة زائدة من الرومانسية، في خليط يضم شيوعيين وناصريين وإسلاميين ومدافعين عن جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها بشار الأسد في حق السوريين. ومع ذلك فإنهم ما زالوا الممثلين الشرعيين للأغلبية الساحقة من الأقلية العربية في إسرائيل، وبالتأكيد هم ليسوا أسوأ من بعض الساسة اليهود العنصريين والأصوليين الموجودين على الساحة. إذاً فإن الأمر ذو شأن كبير، رغم أنه مجرد خطوة أولى".
وتضيف الصحيفة: "لنعلم أن هذا هو عام 2019، وليس عام 1992، وأن غانتس ليس إسحاق رابين، حتى الآن. ولكن في الوقت نفسه، كان رابين، الذي أيدته الأطراف العربية آنذاك، هو رابين في الفترة التي سبقت أوسلو، إنه رابين الذي دعا "لكسر أيادي وسيقان" مثيري الشغب في الانتفاضة الأولى وتشديد الحصار على بيروت في عام 1982، وقد كان أقرب إلى اليمين المتطرف بطرق شتّى من اليسار في تلك المرحلة".
لكن لا يزال هذا شأناً عظيماً بسبب كل ما حدث وبسبب البدايات الجديدة التي يمكن أن تنفتح على الساحة السياسية وفي المجتمع الإسرائيلي في عهد ما بعد نتنياهو. وفي مساء يوم الأحد 22 سبتمبر/أيلول، نشر أيمن عودة تغريدة شملت مقطعاً من سفر المزامير وهو: "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ". إنه نص مُختار بعناية، وإن كان متفائلاً بعض الشيء. فإن هذا لم يصر بعد رأس الزاوية، لكنه قد يكون أساساً لها.