أصبح مستقبل البحرية الأمريكية مثار جدل وعرضة لمجموعة من الأفكار المضللة والمختزلة،
تلقي هذه الأفكار بظلالها بكثافة داخل أروقة الوزارة في موسم الانتخابات أو بعده مباشرة؛ بعبارة أخرى، في الأوقات التي يمر فيها المناخ السياسي بحالة مد وجزر؛ حين تتغير الأغلبية في أحد مجلسي الكونغرس ويشهد المجلس الآخر اضطراباً في القيادة، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
آخر هذه الأفكار ظهرت مع السيناتور ديفيد بيرديو عن ولاية جورجيا. من المقرر أن يتولى ديفيد رئاسة اللجنة الفرعية للقوات البحرية، وهي إحدى لجان الخدمات المسلحة لمجلس الشيوخ.
يبدي السيناتور شعوراً بالرغبة الملحة في عودة الولايات المتحدة إلى أمجادها التاريخية بعد استراحة استراتيجية أعقبت الحرب الباردة، وكذلك حول وجود حاجة لحشد كافة القوات البحرية للدخول في منافسات استراتيجية مطولة ضد المنافسين الأنداد.
هذا نبأ سار.، حسب تعبير كاتب التقرير.
إذ يقول أن السيناتور بيرديو أثناء تعبيره عن موقفه ذكر مجموعة من المعلومات التافهة التي تتسم بأنها مبتورة ولا تضيف جديداً فيما يتعلق باعتبارها مؤشراً على القوة البحرية.
فقد قال السيناتور في تصريح لموقع Defense News: "جيشنا اليوم في أصغر صوره منذ الحرب العالمية الثانية؛ والبحرية الأمريكية في أصغر صورها منذ الحرب العالمية الثانية كما أن لدينا أصغر وأقدم قوة بحرية على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة. في الوقت نفسه نحن نواجه تهديدات معقدة من الصين وكوريا الشمالية وروسيا وإيران".
هذا الكلام يرسم صورة قاتمة، وبيرديو محق إذا ما تحدثنا بمنطق الحقائق البسيطة: ذلك أن عدد 287 سفينة يشير إلى أن أعداد السفن الموجودة في خزانة البحرية الأمريكية بات أقل مما كان عليه في أي وقت مضى منذ الحرب الكبرى.
وفي الواقع، فإن المخزون يتعافى بعد أن ظل لفترة لا يتجاوز 270 سوى بأعداد قليلة؛ غير أن هذا التعافي لم يتم إلا بقلة من السفن. لكن السؤال المهم هو ما إذا كانت البحرية قوية بما يكفي لتحقيق الأهداف التي تكلفها بها القيادات العليا داخلها، والقيادة السياسية للبلاد.
هل تراجع عدد سفن البحرية الأمريكية يمثل مشكلة خطيرة حقاً؟
لا تقتصر القوة البحرية على عمل هياكل السفن داخل الماء. للنظر إلى السفن باعتبارها مركبات تُستخدم لإنجاز مهام معينة، هذه المهام هي منح قوة قتالية لمشهد بعينه في وقت بعينه، بالتضافر مع قوات بحرية وجوية وبرية صارمة، لتجاوز قوة قتالية يبديها عدو بعينه في هذه الأرض.
وبالتالي إذا نجحت القوات الأمريكية والقوات الحليفة لها بإنزال الهزيمة بالعدو في أرض المعركة، فهذا يكفي، بغضّ النظر عن عدد السفن التي شاركت في الاشتباك وما إذا كان كبيراً أم صغيراً. أما إذا لم تنجح، فقادة البحرية الأمريكية لديهم مشكلة.
بالتالي فإن علينا أن نفصل بين الحسابات القائمة على حصر عدد السفن، والتي لا تكشف الكثير عما إذا كان حجم الأسطول كافياً لإنزال ما يكفي من القوة القتالية في نقاط ساخنة بعينها، لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.
إنَّ ما تطلب الاستراتيجية البحرية للولايات المتحدة الأمريكية من البحرية فعله لا يعني الكثير في هذه الحسبة.
على سبيل المثال، فإن القوة البحرية التي قوامها 287 سفينة تكفي لإنشاء قوة دفاعية تمتد على نطاق الأمريكتين؛ بالعمل إلى جانب القوات الحليفة من كندا وأمريكا اللاتينية. كما يمكنها أن تعزز القدرة الفائقة لهذا الواجب المتواضعة.
غير أن أسطولاً بهذا الحجم سيكون قاصراً عن مد أفق المعركة إلى الصين في بحر الصين الجنوبي، أو روسيا في البحر الأسود، أو إيران في الخليج العربي. باختصار، فإن العودة إلى الحرب العالمية الأولى لمقارنة الأرقام المجردة، لن تكشف لنا الكثير عن النتائج المتوقعة لأي مواجهة محتملة يمكن أن تظهر على الفور، وبالتالي لن تكشف لنا أي شيء عن فرص النجاح والفشل على الصعيد العملياتي والتكتيكي والإستراتيجي.
وبالتالي فإن حساب العدد الإجمالي للسفن هو اختزالٌ بائس لقوة البحرية الأمريكية، ولا يخرج عنه إلا بيانات عددية لا يمكن إنكار أهميتها. ومع ذلك، هناك بعض العناصر الأساسية الأخرى اللازمة لتركيز القوة في أرض المعركة. كما أن عدد السفن لا يعني التغافل عن العدو والمحيط والأهداف التي وضعها المشرفون على البحرية فحسب، والأهم يجب التمييز أيضاً بين أنواع السفن.
هل يمكن مساواة حاملة الطائرات بالزورق الحربي؟
قبل قرن مضى كانت البارجة والمدمرة تحسبان كسفن حربية؛ وبالتالي فإن أي أسطول مكوّن بالكامل من البوارج الحربية كان يعادل وفقاً لهذه النظرة أسطولاً مكوناً من مدمرات بحسابات بيرديو.
اليوم أيضاً، وعلى نحو مشابه، فإن حاملة طائرات تحمل مئات الطائرات الحربية تُحسب سفينة؛ وكذلك السفن القتالية الشاطئية المسلحة تسليحاً خفيفاً. وكذلك الحال بالنسبة لسفن الهجوم البرمائية التي تحمل قوات المارينز والبضائع على شواطئ متهدمة بدلاً من أساطيل الهجوم الخاصة بالعدو. وبالتالي فإن الاقتصار على العدد البسيط للسفن على هذا النحو يخفي أوجه التمييز الأساسية تلك، دون أن يبدي أي رأي عن أنواع السفن والمهام التي تعمل فيها داخل الأسطول.
هل يعني أن عدد السفن الحربية مناسب؟
وبعيداً عن المقامرين، يمكنك الاستعانة بالأعمال الأكاديمية للحصول على رأي مستنير حول تلك الأمور.
على سبيل المثال، بالعودة إلى عام 2010، جمع فريق يعمل لصالح مركز التحليلات البحرية دراسة تبين أن البحرية الأمريكية تقف عند "نقطة حاسمة"، وإذا تحرك مستواها إلى أقل من ذلك فلن تكون البحرية الأمريكية القوة العالمية الهائلة التي كانت عليها منذ مرر الكونغرس القانون البحري للمحيطين لعام 1940 ووقعه روزفلت.
ويقول الفريق إنه لو حدث تأرجح آخر في أعداد السفن وقدراتها أكثر من ذلك فإن ما لديها من أصول سيكون أقل بكثير لينفذ المهام المنوطة به. وبالتالي ستعود البحرية الأمريكية إلى حالتها التي كانت عليها قبل الحرب العالمية الثانية.
قد تكون البحرية الأمريكية أكبر من غيرها من القوات البحرية وبالتالي، ينبغي أن تسحق منافسيها الأصغر بسهولة، أليس كذلك؟ غير أن هذه الحقائق المعتادة لا قيمة لها عند مقارنتها بأرقام السفن. إذ إن هناك مؤشرات موثوقة تشير على سبيل المثال إلى أن البحرية الصينية سيبلغ قوامها 500 سفينة بحلول عام 2030، وحتى مع بذل البحرية الأمريكية جهداً بالغاً لتصل إلى 355 سفينة. فكيف يمكن للبحرية الأمريكية أن تقيم قوة أكبر عدداً؟
ولكن هناك وسيلة أكثر أهمية لقياس قدرة القوات البحرية أهم من الأعداد
فمن الأهمية دراسة إجمالي حمولة أسطول سفن البحرية الأمريكية، مقابل القوات البحرية الأجنبية. إذ تزيح السفن الأمريكية، في المتوسط، أو تزن تقريباً أكثر من مجموع نظيراتها عبر البحار. والحمولة مثلها مثل أرقام الهياكل، ليست مجرد أرقامٍ بلا معنى.
فالسفينة الأكبر حجماً بإمكانها حمل كميات أكبر من الوقود، والأسلحة، والمؤن. أيّ أنَّ الأكبر أفضل إلى حد ما.
لكن نوعية التسليح أهم من الحجم
غير أن الحمولة الإجمالية أيضاً يتحتم النظر إليها بوصفها جزءاً من سياق. لسببٍ واحد على الأقل، وهو أنَّ حجم السفينة لا يذكر سوى القليل عن الأسلحة وأجهزة الاستشعار المثبّتة على متنها، إذ يمكن لسفينةٍ عملاقة في حجمها أن تكون حاملةً للحد الأدنى من التسليح.
وخير مثالٍ على ذلك هو السفن الحربية اللوجستية التي تنقل الوقود، والذخائر، وخزانات التبريد، وما شابه. ويمكن لسفينة كبيرة الحجم، ودون زوارق حماية في مرافقتها، أن تقوم بعمليات التقاط سهلة لأهداف معادية أصغر بكثير مثل: زوارق الصواريخ مزدوجة البدن تايب 22 فئة Houbei التابعة للبحرية الصينية.
وهناك السفن الحربية الخفيفة التي يبلغ وزنها 225 طناً، لكنها تحمل قوةً ضاربةً تتمثل في 8 صواريخ مضادة للسفن. ما يعني، بعبارةٍ أخرى، أنَّ القوة الهجومية الضاربة ليس شرطاً لها أن تكون مرتبطةً بالحمولة.
والقدرة على حمل المؤن أمر مهم للبحرية الأمريكية تحديداً
علاوةً على أنَّه يجب على المقاتلين في البحرية الأمريكية حمل مؤنٍ أكثر من الأعداء المحتملين. إذ أنَّ ساحات المعارك المحتملة تقع، في النهاية، على بعد آلاف الأميال من شواطئ أمريكا الشمالية. ومن ثم يتعين على قوات الحملات الأمريكية أن يذهبوا حاملين على أكتافهم كل ما يحتاجون إليه للقتال، سواءً كان في الساحات الخلفية للصين أو روسيا أو إيران، وإلا فربما عليهم المكوث في منازلهم.
في حين أنَّ المدافعين المحليين قد تنجح معهم السفن الصغيرة، لأنهم يقومون بالعمليات بالقرب من مناطقهم –أي بالقرب من قواعد الإمداد ومراكز القيادة- ولأنهم مدعومون بالقوة النارية المشتركة لقوات جوية وصاروخية ترتكز على السواحل القريبة. فالخصوم، بعبارةٍ أخرى، قد يعتمدون على عددٍ أقل من السفن، ويحققون أهدافهم مع ذلك. وزوارق الصواريخ تايب 22 ليست مقاتلات تجعلك تنتصر في الحرب بمفردها، غير أنَّها ذات فعالية هائلة عندما تُدمج في غابةٍ دفاعية كثيفة من السفن والقواعد الدفاعية القائمة على الشاطئ.
رغم قوة البحرية الأمريكية فإنها تواجه مأزقاً كبيراً
إنَّها مغالطةٌ إذاً أن تعقد مقارنةً بين إجمالي حمولة سفن القوات البحرية الأمريكية، وبين سفن القوات البحرية الأجنبية لتخلُص إلى أنَّ نتيجة المعركة هي نتيجةٌ حتمية محكومٌ بها سلفاً. إذ إنَّ ذلك يُغالي في تبسيط الأمر واختزاله كلياً.
البحرية الأمريكية الأكبر حجماً لا تتأهب لمواجهة قوة بحرية معادية بمفردها، بل قوات معادية مشتركة، عبارة عن مزيجٍ من القوات البحرية والجوية والأرضية التي تقوم بعملياتها بالقرب من أراضيها.
وفي الحرب، كما هو الحال في الألعاب الرياضية، تذهب الميزة إلى الفريق الذي تكون الساحة تابعةً له. والحجم الأكبر لا يضمن النصر للزوار.
هل ضخامة الميزانية كفيلة بتحقيق النصر؟
وتتعلَّق الحقيقة المختزلة الثانية بالميزانيات. وللأسف، فإن حتى المسؤولين والخبراء المطلعين كثيراً ما يستدلون بضخامة ميزانية الدفاع الأمريكية مقارنةً بخصومها، ليخلصوا إلى أنَّ التفوق الأمريكي مضمون.
فلأن واشنطن تنفق أكثر من القوى التالية مجتمعةً فلا بد إذاً أن يصبح النصر شيئاً مُؤكَّداً. أي إذا كنت تنفق أكثر ، فإنك تملك قوةً متفوقة على خصومك دون شك. أليس كذلك؟
ولكن هذا ليس صحيحاً بالضرورة. فهذا الذي ينفق أكثر قد لا يفوز، تماماً مثل الذي لديه الحمولة الأكبر.
يقول كاتب التقرير إنه يجب ألا يركن المسؤولون إلى راحةٍ كاذبة مستمدة من مقارنات الميزانية التي تُشير إلى أنَّ الولايات المتحدة ترجح كفتها على منافسيها لأنَّها تتجاوزهم في الإنفاق العسكري. ومرةً أخرى، على المرء أن يفكر في الأماكن التي يغلُب أن تدور فيها المعارك البحرية: في المواقع البحرية والجوية القريبة من السواحل المعادية. ومن ثم فإن الولايات المتحدة عليها أن تتحصَّل على بنية تحتية مكلفة للغاية، فضلاً عن تلك السفن والطائرات والأسلحة الأكبر والأكثر تكلفة، لكي تتمكن فقط من الوصول إلى منطقة القتال.
في حين أنَّ القتال بالقرب من الوطن، على العكس، هو أقل تكلفةً بكثير. والميزة هنا تتمثل في التفكير خارج الصندوق. لأنَّ فرض الهيمنة على المعادين البعيدين قبالة سواحلهم سيكلفك، بحكم طبيعته، أكثر مما سيكلفهم.
والفارق بين الإنفاق الأمريكي والأجنبي، ليس كبيراً بالدرجة المذهلة التي تلمح إليها الميزانيات الموضوعة.
أفغانستان والعراق دليل على ما سيحدث مع روسيا والصين
وقد تعتقد أنَّ الحروب في أفغانستان والعراق قد قضت على ذلك الوهم بأنَّ القوة الأكبر، والأكثر إمكانيات، والأعلى تكلفة ستنتصر حتماً. والحقيقة هي أنَّ أعداء الولايات المتحدة من أشباه الدول تلك -ومقاتليها- بمناوراتهم الدفاعية، وأسلحتهم الخفيفة قد سببوا مشكلات بالغة للولايات المتحدة وقوات التحالف خلال تلك المعارك.
وتتجه أفغانستان إلى نتيجةٍ غير حاسمة في أحسن الأحوال. ومن الصعب أن نتخيل أنَّ الصين أو روسيا أو إيران ستسبب معاناةً أقل، أو تكون أسوأ حالاً من طالبان أو التنظيمات المسلحة العراقية، خاصةً إذا أخذنا في الاعتبار جميع الموارد التي يمكن لهذه الدول الاستفادة منها.