"قد أكون امتدادك العقائدي، فنحن نشترك في نفس العقيدة، لكن لن أكون امتدادك السياسي والعسكري"، كانت تلك كلمات الزعيم العراقي مقتدى الصدر للمرشد الأعلى الايراني آية الله علي خامنئي منذ نحو 10 سنوات، ولذا فاجأت زيارة الصدر لإيران الأخيرة العراقيين، ودفعت للتساؤل هل غير الصدر موقفه من إيران؟
عندما قال الصدر هذه الكلمات أراد أن ينأى بنفسه عن الجمهورية الاسلامية الإيرانية، وأن يصدّر للعراقيين صورة رجل السياسة القومي المستقل.
لذا استغرب العراقيون والإيرانيون على السواء من نشر الموقع الرسمي للمرشد الإيراني آية الله علي خامنئي صوراً، يوم 10 سبتمبر/أيلول 2019، يظهر فيها مقتدى الصدر جالساً بين القائد الأعلى لإيران علي خامنئي، ومن الناحية الأخرى يجلس بجانبه قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني.
التُقطت هذه الصور من مجلس عزاء لإحياء ذكرى استشهاد الإمام الثالث لدى المسلمين الشيعة الحسين بن علي، حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي قتل في كربلاء.
واستغرب العراقيون عدم وجود الصدر الذي يعد رجل دين من المنظور الشيعي في العراق في تلك المناسبة.
واللافت أن الصدر يبدو أنه كان موجوداً في إيران منذ فترة قبل توقيت التقاط الصورة.
فبحسب مصدر داخل المكتب الإعلامي للمرشد الأعلى الإيراني تحدث إلى "عربي بوست"، قال: "إن مقتدى الصدر سافر إلى إيران في بداية شهر المحرم، ومكث في مدينة قم الإيرانية عدة أيام التقى فيها عدداً من المسؤولين الإيرانيين، وتحدث مع مجموعات من الشعب الإيراني في مجالس العزاء الخاصة بذكرى استشهاد الإمام الحسين".
لكن لماذا قرر مقتدى الصدر زيارة إيران بعد سنوات من الانقطاع، ولماذا في ذلك الوقت تحديداً؟ وما الأسباب وراء تلك الزيارة؟
من الاتهام بإحراق قنصلية إيران لزيارة قيادتها
خلال السنوات الأخيرة كان الصدر من أشد المنتقدين للنفوذ الإيراني في العراق.
ووصل الأمر إلى أن مؤيدي إيران في العراق اتهموا الصدر بأنه مَن حرّك المتظاهرين كي يحرقوا القنصلية الإيرانية في البصرة عام 2018، والأحزاب الموالية لطهران وهم يرددون هتافات معادية لإيران، من بينها: "إيران برا برا.. البصرة حرة حرة".
ووصل الأمر إلى إشعال المتظاهرين العراقيين صوراً لقائد الثورة الإيرانية آية الله روح الله الخميني، والمرشد الأعلى في إيران آية الله علي خامنئي.
لذا عندما انتشرت صور مقتدى الصدر في إيران، انتقد بعض العراقيين زيارته، خاصة أن الصدر كان دائم الدعوة إلى عودة العراق لبيئته العربية، بدلاً من التوجه نحو الجمهورية الإيرانية.
الصدر يحاول إصلاح بعض الأمور
بالنظر لدهاء مقتدى الصدر السياسي المعروف عنه، كان لابد من البحث عن إجابات كافية لسبب الزيارة بعيداً عن الانتقادات.
مصدر من التيار الصدري الذي يترأسه الصدر تحدث إلى "عربي بوست" شريطة عدم الكشف عن هويته، قائلاً: "السيد مقتدى يعلم متى يجب عليه التحرك نحو إيران، ومتى يجب عليه انتقادها"، حسب قوله.
وأضاف قائلاً: "في الآونة الأخيرة حدث الكثير من الأمور التي لا يرضى عنها الشعب العراقي، وكان يجب عليه أن يتحرك لإصلاح تلك الأمور".
فما الأمور التي دفعت الصدر لزيارة إيران؟
قوة جوية خاصة.. "الوداع يا موطني"
مقتدى الصدر يرأس أكبر تحالف في البرلمان العراقي وهو تحالف "سائرون"، الذي فاز بحوالي 54 مقعداً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام 2018، ليصبح قوة سياسية مهمة داخل دائرة صنع القرار في بغداد.
وقبل مغادرة مقتدى الصدر للعراق في بداية شهر سبتمبر/أيلول 20190 كتب تغريدة على حسابه بتويتر أشار فيها إلى بداية نهاية الدولة العراقية، وهدد بإعلان سحب دعمه للحكومة العراقية الحالية، إذا لم تتخذ الأخيرة إجراءت قانونية صارمة، حسب تعبيره.
كانت تلك التغريدة رداً من الصدر على خبر اعتبره البعض داخل العراق صادماً، ففي 4 سبتمبر/أيلول الجاري تناولت وسائل الإعلام المحلية العراقية وثيقة تتضمن أمراً من أبومهدي المهندس، نائب رئيس الحشد الشعبي، لإنشاء وحدة سلاح جوي تكون تابعة للحشد الشعبي.
أغضب هذا الأمر العديد من السياسيين العراقيين، واعتبروه تعدياً على القوات المسلحة العراقية، وإهانةً للحكومة في بغداد.
وكان الصدر من أكثر الغاضبين من ذلك القرار، حتى أنه اتصل مباشرة عدة مرات برئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، يحثه على منع تنفيذه.
بعد يوم واحد، وفيما بدا رضوخاً لموجة الغضب أصدر المكتب الإعلامي لفالح الفياض، رئيس الحشد الشعبي، بياناً ينفي فيه أمر تشكيل الحشد وحدة سلاح جوي، وتحدثت بعض التقارير أن تراجع الحشد عن هذا الأمر كان بسبب غضب مقتدى الصدر.
لكن.. لماذا أراد الحشد الشعبي إنشاء وحدة سلاح جوي؟
في أغسطس/آب المنقضي تعرضت عدة قواعد ومستودعات السلاح التابعة للحشد الشعبي في مناطق مختلفة من العراق إلى ضربات جوية مجهولة، لكن سرعان ما أعلنت بعض الفصائل في الحشد الشعبي الذي يتكون من حوالي 12 فصيلاً، خاصة تلك الموالية لإيران، أن من يقف وراء تلك الهجمات هي إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة.
وأفادت وسائل الإعلام العراقية بأن نائب رئيس الحشد الشعبي أبومهدي المهندس، وزعيم حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، قد سافرا إلى إيران في بداية الشهر الحالي لمناقشة المسؤولين العسكريين في إيران حول مسألة إنشاء الحشد الشعبي لسلاح جوي.
وعلم "عربي بوست" من بعض المصادر الإيرانية المقربة من المسؤولين الذين حضروا الاجتماع أن الجنرال قاسم سليماني كان معجباً بالفكرة بشكل كبير، لكن عندما تعقدت الأمور في العراق بسبب هذا الأمر، وجاءت الأوامر من القيادة العليا بضرورة عدم التسرع.
ويتوقع عدد من الخبراء الأمنيين الإيرانيين أنه من الممكن أن تزوّد الجمهورية الإسلامية الحشد الشعبي ببعض الصواريخ الدفاعية، لردع أي هجوم على معسكراته مرة أخرى.
يقول صحفي عراقي -فضل عدم الكشف عن اسمه- لـ "عربي بوست": "إن هناك العديد من المشاحنات داخل الحشد الشعبي خاصة بعد تلك الهجمات الجوية، وازدادت الأمور تعقيداً بعد أمرٍ بإنشاء قوة جوية، والتعدي على صلاحيات رئيس الوزراء العراقي في العديد من الأمور".
"الحشد" يتجاهل قرار رئيس الحكومة والمهلة انقضت
الجدير بالذكر أنه في الأول من يوليو/تموز 2019 أصدر رئيس الوزراء العراقي مرسوماً يأمر الحشد الشعبي بالاندماج الكامل في القوات الحكومية، والعمل تحت الدستور العراقي.
ونص المرسوم أيضاً على ضرورة تخلي فصائل الحشد الشعبي عن دورها السياسي، وإغلاق جميع المقرات والمكاتب التابعة لها في جميع المحافظات العراقية.
و أعطى المرسوم الحشد الشعبي مهلة كان من المفترض أن تنتهي في 31 يوليو/تموز، لكن الأمر لم يتم تنفيذه إلى الآن.
وقتها رحب رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بالمرسوم، وأعلن أنه سيلتزم به.
لكن لم يكتفِ الحشد الشعبي بتجاهل المرسوم وحسب، بل قاموا بتنظيم المظاهرات اعتراضاً على هذا المرسوم، فعندما طلب رئيس الوزراء العراقي من اللواء 30 مغادرة مدينة الموصل، قطع أفراد اللواء الطريق الذي يربط الموصل وأربيل، وإلى الآن يرفضون مغادرة المدينة.
تجدر الإشارة إلى أن الصدر كان من أوائل المؤسسين لفصيل مسلح في العراق وهو جيش المهدي في عام 2003 لمحاربة القوات الأمريكية التي غزت البلاد للإطاحة بنظام صدام.
وقتها كان الصدر حليفاً للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي دعمت بالسلاح والمال لتأسيس هذا الفصيل.
ولكن بعد ذلك وقعت انشقاقات داخل الجناح العسكري للتيار الصدري يعتقد على نطاق واسع أنها تمت برعاية إيرانية.
وعندما تم تشكيل الحشد الشعبي لمواجهة خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، دعم الصدر الحشد الشعبي بفصيل عسكري منبثق من جيش المهدي، أطلق عليه اسم سرايا السلام.
الحشد الشعبي يهدد الصحفيين العراقيين
في بداية الشهر الجاري فوجئ عدد من الصحفيين والمدوّنين العراقيين بنشر أسمائهم في صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي تحمل اسم "ما تعبر علينا"، اتهم القائمون على تلك الصفحة 10 من الصحفيين بتهمة التطبيع مع إسرائيل.
كان من ضمن تلك الأسماء الصحفي والكاتب العراقي علي وجيه، الذي ينتمي إلى عائلة سياسية كبيرة، فوالدة عباس وجيه نائب بالبرلمان العراقي.
ورد علي وجيه في منشور له على صفحته بفيسبوك اتهم فيه من سمّاهم "ذيول إيران" -في إشارة منه إلى الجيوش الإلكترونية التابعة للحشد الشعبي خاصة الفصائل المحسوبة على إيران- بالمسؤولية عن توجيه هذه الفرية الموجهة له.
الجدير بالملاحظة أن اتهام الصحفيين بالرغم من أنه شائع في العراق في الآونة الأخيرة، فإنه هذه المرة مرتبط بتصريح من أحد قادة الفصائل في الحشد الشعبي في أعقاب الهجمة الجوية الأخيرة على معسكرات الحشد، والذي قال إن هناك عملاء عراقيين تابعين لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل ساعدوا الأخيرة في شن هجماتها ضد الحشد.
الصحفية العراقية جومانة ممتاز كانت واحدة من ضمن الذين تعرّضوا للتهديد من قبل تلك الجيوش الإلكترونية المحسوبة على الحشد الشعبي.
ممتاز تُعرف بانتقادها الدائم للحشد الشعبي، وولائه لإيران، وكانت من ضمن المرحبين بقرار دمج الحشد في القوات الحكومية، وانتقدت اعتراض فصائل الحشد على هذا الأمر أكثر من مرة.
تحرّك الصحفي علي وجيه بسرعة بعد إحساسه بالخطر على حياته من نشر تلك المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، بتهمة التطبيع مع إسرائيل لأنه من الممكن أن يدفع حياته وحياة أسرته ثمناً لها، بسبب أحد المتطرفين المشبعين بمثل هذه الأفكار.
فكتب وجيه رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء العراقي يطالب فيها بالتحقيق وحماية حياة الصحفيين، وأرسل في نفس الوقت رسالة إلى رئيس الحشد الشعبي يستوضح فيها موقف الحشد من تلك الصفحات المحرضة.
مصدر مقرّب من أحد الصحفيين الذين تعرضوا للتهديد قال لـ "عربي بوست"، إن أحد قادة الفصائل في الحشد الشعبي تواصل مع عدد من الصحفيين واعتذر لهم، وأمر بحذف الصفحة تماماً من فيسبوك.
"عربي بوست" تواصل مع أحد الصحفيين العاملين في المكتب الإعلامي للحشد الشعبي، والذي لم يفصح عن الكثير حول الأمر نظراً لخطورته، لكنه اعترف بوجود تلك الجيوش الإلكترونية التابعة للحشد الشعبي، ويعمل فيها عدد كبير من الصحفيين الذين على درجة كبيرة من الكفاءة، حسب وصفه.
يقول الصحفي: "أغرب شيء في عملي مع المكتب الإعلامي للحشد الشعبي هو أنهم في البداية جعلوني أقسم على القرآن ألا يعلم أحد أين أعمل".
شعارات "الموت لأمريكا" تنتقل من طهران إلى بغداد
في الآونة الأخيرة تفاجأ سكان بغداد بوجود لوحات إعلانية ضخمة على مسافة قريبة من مقر الحكومة العراقية، تحمل شعارات "الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل"، تلك الشعارات التي شكلت جزءاً كبيراً من أيديولوجية الجمهورية الإسلامية.
على الفور فسّر البعض داخل العراق أن مَن يقف وراء تلك اللوحات الإعلانية هي الفصائل المسلحة في الحشد الشعبي المؤيدة لإيران، وأنها تريد أن تظهر أنها مازالت قوية ومتواجدة بشكل كبير، وسط صمت تام من الحكومة العراقية.
يقول الصحفي العراقي مصطفى (اسم مستعار) لـ "عربي بوست": "تلك اللوحات نذير لبداية صراع في العراق، فالولايات المتحدة حليفة للعراق كما هي إيران، ومازالت بعض القوات الأمريكية موجودة على الأراضي العراقية، فما الفائدة من تصدير الكراهية بهذا الشكل"، حسب قوله.
وأضاف حسين قائلاً: "إيران هي من تعتبر الولايات المتحدة عدواً لها، وليس نحن، لماذا يصرّ الموالون لإيران على إشراكنا في حرب لا نريدها، فقد اكتفينا من الحروب".
انتشرت بعض الآراء داخل العراق عن ضرورة حلّ الحشد الشعبي بالكامل لما يتسبب فيه من متاعب للعراقيين.
هيفاء محامية عراقية تبلغ من العمر 30 عاماً ترى أن سبب وجود الحشد الشعبي كان مواجهة داعش فتقول: "الآن بعد أن انتهى خطر داعش، فلا أرى فائدة لوجود الحشد الشعبي، إلا إثارة المشاكل".
رد قادة الحشد الشعبي في أكثر من مناسبة على تلك الدعوة لحل الفصائل مبررين وجودهم بأن خطر الإرهاب مازال موجوداً، ولابد أن يكونوا على أتم الاستعداد لمواجهته في أي وقت.
هل الصدر حليف لإيران أم عدو؟
بعد كل تلك المشكلات السابق ذكرها والتي كان المتهم الأول فيها الحشد الشعبي، فإن هناك سبباً وجيهاً لزيارة مقتدى الصدر إلى إيران، فهي الوحيدة القادرة على كبح جماح الحشد الشعبي، لكي يتمتع العراق ببعض الاستقرار.
ويرى أستاذ العلوم السياسية أمير حسين قاسمي أن مقتدى الصدر وإيران ليسوا أعداء ولا حلفاء، كلٌّ منهما يحتاج الآخر في الكثير من الأمور.
إذ قال لـ "عربي بوست": "إلى الآن لا نعلم مَن طلب مِن الآخر الزيارة، لكن المؤكد أن لدى الصدر وإيران مشكلات مشتركة يجب حلها في الوقت الحالي".
أين اختفى رئيس الحكومة؟
فسّر بعض المراقبين داخل إيران زيارة الصدر على أنها استغاثة موجهة لإيران، لحل الوضع السيئ الذي تمر به الحكومة العراقية، خاصة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي.
وفي هذا الإطار لفتت وسائل الإعلام المحلية بالعراق في الآونة الأخيرة إلى أن عبدالمهدي لم يظهر في أي مناسبة سياسية، ولا يعلم أحد إن كان هذا بسبب مرض على سبيل المثال، أو غضب من سيطرة أبومهدي المهندس نائب الحشد الشعبي على كافة الأمور السياسية في البلاد.
يريد الصدر أن تتدخل إيران لإفساح المجال أمام عبدالمهدي لاستخدام صلاحياته دون ضغوط من الحشد الشعبي، ويريد أيضاً ضمانات من الجانب الإيراني بعدم توريط العراق في صراع بينها وبين إسرائيل.
وكيف رد عليه الإيرانيون؟
يبدو أن هناك خلافات داخل القيادة الإيرانية بشأن هذا الأمر.
فقد علم "عربي بوست" من مصادر إيرانية مقربة من المؤسسة السياسية في طهران، أنه عندما اجتمع الجنرال قاسم سليماني بمقتدى الصدر في تلك الزيارة، طلب الأخير من سليماني أن يطلب من قادة الحشد الشعبي الابتعاد عن السياسة والموافقة على الدمج داخل القوات الحكومية، لكن سليماني اعترض على هذا الأمر.
بينما في الجهة المقابلة يرى المرشد الأعلى الإيراني -بحسب المصادر الإيرانية- أن توتر الأمور داخل العراق الحليف الوثيق للجمهورية الإيرانية، لن يفيد طهران بشيء خاصة في ظل تلك الظروف التي تمر بها، وأنه يميل إلى تهدئة الأمور قليلاً.
وفي الوقت ذاته، رأت المؤسسة السياسية الإيرانية أن وجود الصدر في طهران خلال ذلك الوقت رسالة قوية للأعداء، وتأكيد على قوة ما يوصف بـ "محور المقاومة" الذي ترعاه إيران.