موجة عالمية جديدة من الاحتجاجات تشهدها العديد من دول العالم، ورغم تعرضها للقمع، فإن بعض هذه الاحتجاجات حققت نجاحات ولو جزئية، فكيف تجنبت الموجة العالمية الحالية من الاحتجاجات مصير الربيع العربي؟
فقد احتلّ المتظاهرون مؤخراً شوارع مدنٍ تمتدّ من هونغ كونغ وموسكو إلى الخرطوم والجزائر.
وكان من المحتمل أن يفعلوا الأمر نفسه في سريناغار، عاصمة كشمير الخاضعة للسيطرة الهندية، لولا الإجراءات الأمنية الوقائية غير المسبوقة، حسب ما ورد في تقرير لموقع Lobelog الأمريكي.
وحين لا يكون الاحتجاج حاضراً في الشوارع، فإنه يظلّ جزءاً لا يتجزأ من الحروب الثقافية التي نشبت ببلدان مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، والهند، والتي يؤججها الصراع بين الليبراليين والمحافظين الرئيسيين على أحد جانبي النزاع، وذوي النعرة الحضارية والشعبويين والقوميين المتشددين ومناصري تيار اليمين المتشدِّد على الجانب الآخر.
ولطالما كان الصخب يندلع من أجل إرساء حكمٍ يتسم بالشفافية، وتتوفّر به فرصة المساءلة، ويقدم السلع والخدمات العامة في صميم الاحتجاجات، حتى لو أن بعضها قد تصبّغ بصِبغة معارك القضايا البيئية والاقتصادية ومناهضة الفساد، بدلاً من الديمقراطية، أو في سياق القومية والنعرة الحضارية والعنصرية ومناهضة الهجرة.
وتختلف شرارات الاحتجاجات من بلد إلى آخر، وهذا أيضاً هو شأن البيئة السياسية والمخاطر التي تنطوي عليها المراحل المختلفة من اللعبة السياسية.
من الدفاع عن البيئة لإسقاط الاستبداد.. تتعدد الدوافع
في الجزائر والسودان، يتعلق الأمر بإنهاء حكمٍ مُستبدٍ أكثر شمولية، أما في كشمير، فالنزاع بشأن الحكم الهندي المباشر وفشل ضمان استفادة المنطقة بشكلٍ عادل من النمو الاقتصادي.
وفي روسيا، يُعد تدهور مستويات المعيشة والتدهور البيئي من دوافع الاحتجاج، بينما يرفض جيل الشباب في هونغ كونغ التعدي الصيني بوصفها مسألةً مقدّمة على الاندماج في نظام شمولي.
ولكن هناك دافع مشترك والربيع العربي كان جرس إنذار
وعلى الرغم من الدوافع المختلفة، فإن الاحتجاجات ونشوء نزعة الحضارة والشعوبية والسيادة العنصرية والدينية من جهة، والخوف الذي يبثّة عمداً الأيديولوجيون والسياسيون الانتهازيون من جهةٍ أخرى هما وجهان لعملةٍ واحدة؛ ألا وهي انهيار الثقة في الأنظمة القائمة والقيادة الحالية على مستوى العالم، وهو ما تجلّى في عام 2011 مع الثورات العربية، وحركة "احتلّوا وول ستريت".
ويقول ماركو كارنيلوس، الدبلوماسي الإيطالي الذي عمل سابقاً لدى الأمم المتحدة، إن "الربيع العربي كان جرس إنذار، وحقيقة أنه سُحِق سحقاً دموياً لا يعني أنه لن يعود بشكل آخر".
نجاح جزئي في السودان وأقل بالجزائر
وقد حدث أن عاد الربيع العربي بشكل أو بآخر بالفعل مع سقوط الأوتوقراطي السوداني عمر البشير، الذي يُحاكم حالياً بتهم الفساد، وقائد الجزائر ذي القبضة القويّة عبدالعزيز بوتفليقة، الذي يخضعُ شركاؤه لإجراءات قضائية إثر اتهامات بالفساد.
وعلى الرغم من التطورات التي يشهدها البلدان الإفريقيان، فقد فاز المتظاهرون حتى الآن بمعارك كبرى، ولكنهم لم يفوزوا بعد بالحرب.
وربما كان أهم انتصار لهم هو القدرة على مواصلة احتجاجاتهم على مدى فترات زمنية طويلة، ليس فقط في إفريقيا، ولكن أيضاً في أماكن أخرى مثل هونغ كونغ.
كيف تجنبت الموجة العالمية الحالية من الاحتجاجات مصير الربيع العربي؟
من الأمور التي ساعدت المتظاهرين في إفريقيا وهونغ كونغ في الحفاظ على صمودهم، إدراك الحكومات أنَّ القمع الوحشي لن يقدّم أكثر من حل قصير الأجل ومكلّف، وذلك على الرغم من الاستخدام العارض للقوة في الخرطوم وهونغ كونغ.
وحتى روسيا، على الرغم من استخدام الشرطة المتكرر للعنف، فإنها لم تحاول سحق الاحتجاجات بشكلٍ كامل، ورضخت لمطالب المحتجين في العديد من المناسبات.
إنها معارك طويلة الأجل وتحولت لصراع بالشوارع وطاولات التفاوض
وتشير التجارب المختلفة إلى أن الصراعات السياسية التي تكمن وراء الاحتجاجات تعدّ معارك طويلة وليست قصيرة الأجل، وتنطوي على دروس مُستفادة من الاحتجاجات خاضها محتجّون في وقت سابق من هذا العِقد.
وتمرّ الاحتجاجات بمراحل يتحدد عند كل منعطف منها المرحلة التالية.
وتطورت الصراعات في السودان والجزائر إلى معارك على الهيمنة في الفترة الانتقالية بعد الإطاحة بالحاكم الأوتوقراطي للبلاد.
وها هي السعودية تمد الجنجويد بأسلحة صربية
في السودان، تحول الصراع من الشارع إلى الطاولات المشتركة التي تجمع بين القوات العسكرية والسياسية، بينما تسعى قوى خارجية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى رسم شكل النتيجة من خلف الكواليس.
إذ أشار تحقيق أجراه موقع Bellingcat المعني بالتحقيقات الصحفية الاستقصائية إلى أن الأسلحة التي استخدمتها قوات الدعم السريع السودانية، خليفة قوات الجنجويد المتّهمة بارتكاب جرائم حرب في السودان، كانت قد جلبتها السعودية من صربيا.
ويُعتقد أن قوات الدعم السريع مسؤولة عن مقتل حوالي 120 محتجاً في يونيو/حزيران.
والجزائر وهونغ كونغ متأخرتان خطوة
وتقف الجزائر وراء السودان بخطوة واحدة، حيث لا يزال الجيش والمحتجون يسعون للاتفاق على عملية انتقال للسلطة تلقى قبولاً مشتركاً.
وفي هونغ كونغ، سعت الصين إلى تجنب التدخل المباشر.
ومع ذلك، فإن جهود استخدام الوكلاء، والإساءة إلى الشركات ومجتمع الأعمال، والضغط على حكومة هونغ كونغ لحل القضية دون تنازلات كبيرة، ومحاولات العبث مع المحتجين بقاعدة فرّق تسُد؛ قد فشلت حتى الآن في تحقيق نتائج.
والقوة لم تفلح في روسيا
وعلى عكس السودان والجزائر وهونغ كونغ، سعت روسيا إلى محاولة كبح الاحتجاجات بالعنف والقمع باعتبارها الوسيلة الوحيدة.
إذ يقول المحلل السياسي كونستانتين فون إيغيرت: "هناك رغبة في إظهار القوة في موسكو، ولكن هذا لن يوقف حركة الاحتجاج ما لم يبدأوا في سجن الناس لفترات تبلغ 15 عاماً. سيستمر الأمر بشكلٍ معيّن، ولكن ما إذا كان سيغير البلد، فالإجابة هي لا، ليس بعد، وهذا سيبظلّ وقوداً للهب".
وتحليل فون إيغيرت ينطبق بالتساوي على مراكز الاحتجاج في أماكن أخرى؛ لا سيّما ثورات 2011 أو الربيع العربي، وما أطلق عليه المحللون "الشتاء العربي".
لقد كانت هذه مراحل مبكرة لعملية فوضويّة تنعكس فيها المظالم في الاحتجاجات بالشوارع بقدر ما هي تنعكس في دعم ذوى النعرة الحضارية والقوميين والشعبويين الذين فشلوا في إنتاج حلول بديلة قابلة للتطبيق، أو من المرجح أن يفشلوا في ذلك.
وفي نهاية المطاف، يكمن الحل في قيام الحكومات بتنفيذ سياسات شاملة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وحتى الآن، يعد هذا النهج هو الاستثناء في مقابل القاعدة، وهو ما يعني أنه من المرجح أن تظل الاحتجاجات على عرش الأولويات، ولاعباً أساسياً على مدار الوقت.