بعد أسابيع من النقاش والتردد، نشر أخيراً المجلس الأعلى لتنظيم وسائل الإعلام في مصر سلسلة محدّثة من القيود التي ستفرضها الدولة على جميع وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
تعقد صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقارنة بين فرض هذه القوانين بمصر، وحاجة حكومة نتنياهو لتطبيقها حرفياً لديهم أيضاً، قائلة إن "كل ما على حكومة نتنياهو فعله الآن هو ترجمة تلك القيود وصياغة أهمّها في شكل قوانين قبل الانتخابات المزمع انعقادها في 17 سبتمبر/أيلول. إذ إن مثل هذه التوجيهات الرسمية هي بالتأكيد ما يحتاج إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إبان شنّ حربه المجنونة ضد الإعلام في إسرائيل".
لوائح بتفسيرات فضفاضة تلائم الحكومة
تقول الصحيفة الإسرائيلية، إن اللوائح الجديدة في مصر تطرح إرشادات قانونية ووطنية ومُلتبِسة بما فيه الكفاية بشأن المحتويات المسموح بها، التي يُترك أمر تفسيرها للحكومة ووكالاتها على النحو الذي يلائمها.
وتنصّ التعليمات الجديدة على "عدم إبداء أية آراء أو معلومات تؤدي إلى النيل من تماسك الشعب المصري أو روحه المعنوية، أو تنال من الروح المعنوية للقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية"، وهناك بالفعل قاعدة مماثلة في القانون المصري، ولكن من الواضح أنها احتاجت إلى "تحديث" في ضوء التجاوزات المتكررة ليس فقط في وسائل الإعلام التقليدية بل أيضاً عبر الإنترنت. وعلى ذلك، يتعيّن على أي حساب على مواقع التواصل الاجتماعي يضم أكثر من 5000 متابع أو مشارك الالتزام بالقيود الجديدة.
ويحظر بندٌ آخر تقديم المحتوى الصحفي الذي من شأنه "الإضرار بالمصلحة العامة بالمجتمع، ومؤسساته، أو الإساءة للمعتقدات الدينية، أو يُحرض على العنف أو التمييز أو الكراهية أو التعصب، أو الإضرار بالنسيج الوطني، أو من شأنه إحباط المتلقي أو إشاعة الذعر. وعدم إهانة الأشخاص من ذوي الإعاقة، أو استخدام ألفاظ من شأنها إثارة الشفقة عليهم، في حالة تناول القضايا الخاصة بهم".
قوانين كما يريد قائد البلاد
وسيحدد المجلس الأعلى، وهو المسؤول عن منح تراخيص النشر للصحف، ما يمثّل تحريضاً أو إهانة. ويمكن الاستئناف ضد هذا القرار في المحاكم، لكنهم يفهمون تماماً نزعة قائد البلاد عبدالفتاح السيسي، وبالتالي فإن فرصة نجاح مثل هذا الإجراء المُعارِض ستكون معدومة.
وبالتأكيد، يعد الجزء المتعلق بعدم استغلال المشاعر فيما يتعلق بالأفراد ذوي الإعاقة هو الأكثر إثارة للاهتمام؛ فهنا تكمن أداة فعالة لاستخدامها ضد احتجاجات المعاقين وإغلاقهم الطرق في إسرائيل. أما في مِصر، يبدو هذا حديثاً زائداً عن الحد، إذ يحظر القانون الاضطرابات التي تزعزع السلام، وهناك قانون آخر يحدّ من الاحتجاجات، والآن صارت هناك لائحة من شأنها إبقاء الأشخاص ذوي الإعاقة في منأى عن الخطاب العام.
وقد قوبِلت بعض القواعد بالترحيب بوصفها تقدمية لتركيزها على تصوير المرأة في وسائل الإعلام، وتضمنت "وجوب تغيير الصورة السلبية النمطية لربة المنزل وغير المتزوجة والمطلقة وعدم تحميلها الفشل الأسري والمجتمعي"، وتحذّر اللوائح الجديدة من "المبالغة في عرض مشاهد صريحة للعنف اللفظي والمعنوي، والجسدي الذي تتعرض له المرأة".
علاوة على ذلك، يجب على الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي الآن تجنب استخدام المرأة بوصفها "أداة جنسية" في الإعلانات، ويجب تصويرهن في أماكن مختلفة -وليس فقط في بيوتهن بوصفهن ربات بيوت- إذ ينبغي تقديمهن مديرات، ومِهنيات، وسيدات أعمال، وهي مجالات تفتقر في الحقيقة إلى مشاركة المرأة في مصر، ولكن ما الذي يهمّ في ذلك حين تكون صورة الدولة تفتقر إلى الاستقرار؟
تحت مظلّة خدمة للوطن والولاء للنسيج الوطني
وإذا ظنّ الصحفيون المصريون أنهم قادرون على تجاوز جوانب هذا الحظر عن طريق نشر محتوى من منشورات أجنبية -وهو ما يسمّيه صحفيون إسرائيليون نقل المعلومات "وفقاً لتقارير من مصادر أجنبية"- فإنهم مخطئون؛ إذ يحظر على الصحفي أو الإعلامي بناء تقاريره على معلومات منقولة من مؤسسة صحفية أو وسيلة إعلامية أخرى قبل التأكد من صحة المعلومات بنفسه.
ويجب على الصحفيين الالتزام بالمحتوى الموضوعي في تقاريرهم التي لا تخدم الهيئات التجارية أو أي كيانات أخرى. ولكن هيهات، ليس القصد من ذلك أن وسائل الإعلام لن تستسلم للضغوط الحكومية، التي ستوضع تحت مظلّة خدمة للوطن والولاء للنسيج الوطني السياسي والاجتماعي.
وتتضمن التعليمات أيضاً حظر استخدام مصادر مستقلة في نقل القضايا الأمنية، وخاصة الهجمات الإرهابية، إذ يُسمح للصحفيين بنشر ما يُصرّح به الناطقون الرسميون فحسب، بما في ذلك أعداد المصابين في "الهجمات الإرهابية"، وتفاصيل الأنشطة العسكرية بشكلٍ عام.
اغتصاب لوسائل الإعلام
ويصف كبار الصحفيين والمجموعات المصرية الداعمة للحريات الإعلامية اللوائح الجديدة بأنها "اغتصاب لوسائل الإعلام"، إذ يقولون إن منظمات دعم الصحفيين مفوّضة بموجب دستور البلاد لتحديد قواعدها الأخلاقية. لكنّ المجلس الأعلى لتنظيم وسائل الإعلام والرئيس السيسي لا يروق لهم ذلك. فقد نصب الأخير بالفعل قائمة إنجازات مثيرة للإعجاب فيما يتعلّق بتقييد حرية التعبير، وفي نظر الكثيرين، تعاني وسائل الإعلام من قيود أشد وطأة مما كانت عليه تحت حكم سلفه حسني مبارك.
ولعلّ خيبة الأمل الكبرى تكمن في أن مكرم محمد أحمد هو من يرأس ذلك المجلس، وهو أحد أكثر الصحفيين ثِقلاً وموهبةً في مصر. وبعدما كان ناقداً صارماً وحازماً لمعاملة النظام للإعلام، صار هو أيضاً أداة.