بمئزره الأزرق النظيف يهرول الدكتور سعيد الخليف بين جموع المرضى الفارين إلى مستشفى مدينة إدلب المركزي ناشدين المساعدة؛ امرأةٌ شابةٌ تضم طفلاً أعرج شاحب الوجه إلى صدرها؛ ومقاتلون بضماداتٍ وإعياءٍ بائسٍ لمعركة؛ وصغيرة بشعر أسود أجعد وذراع مفقودة. تُلطّخ الدماء البلاط الأبيض لغرفة العمليات، حيث يرقد رجلٌ تحت تأثير المخدر -مُمَزَّقاً إرباً بفعل شظايا قنبلة- وعيناه الغائبتان موجهتان للسقف.
تقول لويز كالاهان، مراسلة صحيفة the times البريطانية خلال جولتها في إدلب: يعبق الهواء برائحة المطهر والدماء؛ رائحةٌ ثخينةٌ وعطنة. وفي غرفة الطوارئ ينتظر مرضاه في صمتٍ غريب؛ تُثقلهم الآمال. كان الجميع في الواقع مدركاً للمصابيح الثلاثة على الحائط، نظام الإنذار المبكر للغارات الجوية التي تضرب المحافظة منذ شهورٍ، وتستهدف المستشفيات والبنى التحتية المدنية عمداً. يومض ضوءٌ أزرق حين تضرب غارةٌ منطقةً قريبة، وآخر أصفر حين يكون هناك تهديدٌ محتمل، بينما يومض الثالث الأحمر حين يكون المستشفى تحت القصف.
يعرف الجميع في آخر مناطق النزاع السوري أن القنابل قد تسقط في أي وقتٍ، قاذفةً بالشظايا المعدنية المميتة والزجاج المتطاير لتُسقِط جدران المستشفى عليهم. حدث ذلك سابقاً، وسيحدث مرةً أخرى على الأغلب. منذ أربعة أشهرٍ تعرض قسم طب الأطفال في المستشفى للقصف وتضرر بشدة. وقد أُخلي الجناح والممر المؤدي إليه الآن، بجدارياته الحمراء والصفراء التي رُسمت يوماً لإبهاج رواده من الأطفال المرضى، ولم يعد به إلا أكوامٌ من بقايا المعدات الطبية الخربة. يثق الأطباء في أن تلك كان ضربةً مقصودةً.
"نعلم أننا سنموت، لذا فلا جدوى من التوقف"
يقول الطبيب الوسيم الكفء ذو الـ39 عاماً لمراسلة the times: "كثيراً ما ينطلق الضوء الأصفر. لكننا لا نتخذ تدابير إلا إذا ومض الضوء الأحمر. حينها نساعد المرضى على الانتقال لقسمٍ آخر من المستشفى، إذا توفر لنا الوقت. لكن الأطباء يستمرون في العمل. نعلم أننا سنموت، لذا فلا جدوى من التوقف".
لا يأتي إلى هنا إلا المرضى اليائسون. يعلم الجميع في إدلب أن المستشفيات من أخطر الأماكن ليكونوا فيها. وترزح المحافظة التي يُسيطر عليها المعارضون -والتي هي آخر معاقل القتال شماليّ غرب سوريا- تحت وطأة الغارات عديمة الشفقة التي يشنها نظام الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤه الروس. وتقول جماعات المراقبة إن طائرات النظام تستهدف بمنهجيةٍ المستشفيات والأسواق وبنى تحتية مدنية أُخرى في محاولاتٍ لإخلاء تلك المناطق تماماً.
كُثِّفَت الغارات خلال آخر أربعة أشهرٍ فيما كان النظام يحقق سلسلةً من المكاسب شمالي المحافظة. وقد قُصفت أكثر من 100 مدرسةٍ و48 منشأةً طبيةً، وقُتل 862 مدنياً، من بينهم 226 طفلاً، وفقاً لاتحاد منظمات الرعاية الطبية والإغاثة، وتحالف منظماتٍ غير حكوميةٍ. فرَّ مئات الآلاف من منازلهم بحثاً عن الأمان قرب الحدود التركية. وتُجاهِد المستشفيات القليلة الباقية لاستيعاب المرضى، والمصابين، والمُحتضرين.
"ليس للروس ولا للنظام عهدٌ"
تقول الصحفية لويز، استمر القصف على جنوب إدلب بعد إعلان الهدنة التي أسفرت عنها الوساطة الروسية، والتي كان يُفترض أن تبدأ صباح السبت 31 أغسطس/آب. ويقول أطباء إدلب إنهم لم يُصدقوا أمر تلك الهدنة على أي حالٍ، تماماً كما لم يصدقوا أمر أيٍّ من سابقاتها التي لم تسفر عن شيء. يقول الدكتور خليف: "ليس للروس ولا للنظام عهدٌ".
وكانت صحيفة The Sunday Times أول صحيفةٍ بريطانيةٍ تزور المحافظة المحاصرة منذ سنتين. وهي أول صحيفةٍ تدخل إدلب منذ أكثر من ذلك بكثير. ولقد وجدنا هناك مدنيين يعيشون في رعبٍ، مقتنعين أن النظام سيزحف بقواته قريباً إلى داخل هذه المحافظة الأخيرة الباقية في يد المعارضين، ليدك المدن والقرى ويعيث فيها فساداً.
بمعجزةٍ غريبةٍ لم يمت أحدٌ في قصف جناح طب الأطفال بمستشفى إدلب الذي جرى منذ أربعة أشهرٍ. يعتقد الأطباء أن السواتر الأرضية المُكدسة حول المبنى وفرت بعض الحماية. لكن مع كل يومٍ يمر تبدو الحرب أقرب. ضربت الغارات الجوية منطقةً قريبةً جداً من المستشفى الأسبوع الماضي، مع أن الجبهة تقع على بعد 30 كيلومتراً جنوب المستشفى.
يقول الدكتور خليف، جراح تقويم العظام: "نبذل قصارى جهدنا. لكن هذا أسوأ وضعٍ نعيشه. إننا نواجه ضغطاً هائلاً بسبب أنهم يستهدفون كل المستشفيات في الجنوب؛ ما يدفع بكل المرضى إلينا. هناك عجزٌ كبيرٌ في التجهيزات، نحتاج إلى معداتٍ، ومضاداتٍ حيويةٍ، وكل شيء".
وتستمر الحياة تحت القصف
وفيما كان يتحدث، ركضت امرأةٌ نحيفةٌ يُغطي وجهها نقابٌ أسود إلى داخل قسم الحوادث والطوارئ، وطفلها على يدها لا يستجيب. لا يُريد أحدٌ البقاء طويلاً في ذلك المحيط الخانق، لكن أحياناً لا يكون هناك بدائل.
وفي غرفةٍ أخرى جلس الأطفال في هدوءٍ فوق الأسرة المتحركة فيما قرفصت أمهاتهم على الأرض، محملقين في الزوار. تؤخذ الحالات الأخطر إلى تركيا، تحملهم سيارات الإسعاف إلى مستشفياتٍ هناك عبر الحدود القريبة التي عادةً ما تكون مغلقةً.
في غرفة العلاج بالدور السفلي وقف مجموعةٌ من الرجال بملابس حربية رثة. أغلبهم بدوا شرق أوسطيين، وآخرون منهم بدوا من وسط آسيا. أحدهم كان طويلاً ذا لحيةٍ مُحناةٍ طويلةٍ وكحلٍ سيكٍ حول عينيه، وهو مظهرٌ شائعٌ في أفغانستان أكثر من شيوعه هنا.
وتستمر الحياة المدنية داخل المدينة تحت القصف. متجرٌ للسترات الرجالية ظلَّ مفتوحاً، فيما كان نظيره النسائي يبيع فساتين سهرة مطرزة. بائعو الخُضر منتشرون على جانبي الطريق. حتى أن هناك لافتةً كانت تُعلن عن نادٍ لركوب الخيل. لكن الجميع كان يعرف أنه في أية لحظةٍ قد يتغير كل شيء. يرقد مجمعٌ سكنيٌ كاملٌ مكوماً مهدوماً جراء غارةٍ جوية. ويعيش في أنقاضه أولئك الذين فقدوا منازلهم. يتألف أحد أماكن الإقامة فيه من متكأٍ من الحديد المموج، وبطاطين مفروشةً فوق ما ربما كان يوماً عمود ستائر.
يستطيع المحظوظون فقط إيجاد شقةٍ للإيجار. تعج مدينة إدلب بالمدنيين الوافدين من الجنوب، فلم يبق شيءٌ للوافدين الجدد. وعوضاً عن البقاء فيها يُتابع النازحون سيرهم إلى الحدود التركية الواقعة على بعد 32 كيلومتراً شمال المدينة. وهناك يُخيمون في بساتين الزيتون ليستظلوا فيها من الشمس التي ترفع درجة الحرارة إلى نحو 35 درجةً مئويةً نهاراً، ويفترشون الأرض الحمراء ليلاً. المساعدات هناك قليلةٌ، والطعام والشراب يباعان بأسعارٍ مبالغٍ فيها، والأمراض متفشيةٌ.
"هذه حياةٌ كالموت"
فتاةٌ في سن الـ18 خشيت أن تذكر اسمها تقول للصحيفة البريطانية: "هذه حياةٌ كالموت". في حجرها كانت تحمل ابنها حمودي ذا الخصلة الشقراء في شعره والـ18 شهراً في عمره، وقد أعياه ما بدا ضربة شمسٍ أصابته. تتابع: "ليس لدينا ماء ولا طعام، ولا مال. وحتى لو حاول الرجال العثور على عملٍ، فلا شيء ليعملوه".
كانت قد فرَّت وأسرتها من منزلهم في معرة النعمان، الواقعة جنوب المحافظة، والتي قصفتها الغارات الجوية منذ أسبوعٍ، ويعيشون مع 15 عائلةً أخرى في ملجأٍ بنوه من الخيش والبطاطين. كانت امرأةٌ أكبر سناً تطبخ الغداء للجميع، صينيةً من الطماطم والبصل، مكوناتها رخيصةً لأنها فسدت.
احتدت أم حمودي ووجهها محمرٌ بفعل الحرارة وهي تسأل: "هل نبدو إرهابيين؟". وعلى مقربةٍ أُقيمت خيمةٌ مهلهلةٌ أُخرى، ضمت ثلاث عائلاتٍ فرت من منازلها. من بينهم أُمَّان هما شمسة وسماهر، اللتان احتضنتا ابنيهما البالغان من العمر خمسة وستة أشهرٍ. كان الطفلان شاحبَين ومُنهَكين.
قالت شمسة ابنة الـ22 عاماً: "لا تفرز أثداؤنا لبناً كافياً لإرضاع طفلينا، ولا نقدر على شراء اللبن المجفف. كنا نطعمهما الخضار الطري مخلوطاً بالماء، لكننا لم نعد نملك المال الكافي لشراء أيٍ من ذلك. إنهما واهنان للغاية. لا نعرف ماذا نفعل".
تدخلت امرأةٌ أكبر سناً في الخيمة قائلةً: "هذه حياةٌ بائسةٌ. نحن نعرف أن الأسد سيأتي مجدداً وسيستمر العناء".
يُذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية قد شنت غارةً بالصواريخ على منشآتٍ تابعةٍ لتنظيم القاعدة شمال محافظة إدلب. وقالت القوات الأمريكية إن الغارات استهدفت قياديين للتنظيم في أول هجومٍ بالصواريخ يُنفذ داخل الأراضي السورية منذ يوليو/تموز. وقد أوردت التقارير أن 40 شخصاً قد قُتلوا في الغارة.
التسوق لشراء الجوارب مع المعارضين
تقول لويز: فيما كنا نقود السيارة عبر شوارع مدينة إدلب شمال سوريا كان مرافقنا حريصاً على إظهار أن حاكمي المحافظة متحضرون ومسالمون. وأشار فيما كنا نمر على بعض المحلات التي ظلت تعمل رغم الحرب الجارية إلى أن بعض النساء لا يغطين وجوههن.
غير أنه كانت لديه حدودٌ في قدر الحرية الذي بدا مستعداً لتبنيه. لقد فوجئ تماماً حين بدت له لمحةٌ من كعبي تحت طبقاتٍ من الثياب الفضفاضة السوداء الطويلة والحجاب. فوجئ بأدبٍ لكن بصرامةٍ شديدةٍ، حتى أنه أصر على أن يأخذني لشراء جوارب مع مقاتلين معارضين.
انتهت جولتنا في العديد من محلات الملابس بشراء معطفٍ زهريٍ طويلٍ يصل للأرض، وزوجٍ من الجوارب السوداء تصل إلى الركبة. كانت البائعة بحجابها الزهري تعتقد أن الأمر مضحكٌ للغاية.
كان مرافقي عضواً في ما يعرف باسم حكومة الإنقاذ، التي تزعم سيطرتها على إدلب، وقد أخذني في جولةٍ في المحافظة. يؤازر بعض السكان المحليين حكومة الإنقاذ، لكن ليس الجميع أبداً، ويدعمها المتزمتون ومن بينهم هيئة تحرير الشام القوية التي كانت تابعةً فيما سبق لتنظيم القاعدة.
وخلال لقاءاتي مع العامة في إدلب، كان مقاتلون من هيئة تحرير الشام ومن حكومة الإنقاذ موجودين، لكن على مقربةٍ منا. ولم يسمعوا اللقاءات أو يتدخلوا فيها، أو يحاولوا توجيه خيارات الأفراد أو التأثير على مصداقية التغطية بأية طريقةٍ. من جهتها وفرت أجهزة الأمن التركية تجهيزاتٍ عند المعبر الحدودي مع سوريا.
ويزعم نظام بشار الأسد في دمشق أن إدلب معقلٌ للجهاديين. لكن قراءة الأسد للمشهد لا تضع في الحسبان وجود 3.5 مليون مدنيٍ كذلك هناك، كثيرٌ منهم نازحون إلى هناك من أماكن أخرى. ومع أن الكثير منهم متعاطفون مع المعارضة، إلا أن الكثيرين كذلك لا يؤيدون هيئة تحرير الشام وقد نُظمت احتجاجاتٌ عبر بلدات إدلب ضد الهيئة.