لم يكن دعم الإمارات الانفصاليين في جنوب اليمن هو أول قرار من نوعه، إذ تدعم الدولة الخليجية الصغيرة الانفصاليين في إقليمين بدولة أخرى عضو بالجامعة العربية، فما هو سر دعم الإمارات للانفصاليين بدول الجوار.
كان قرار دولة الإمارات العربية المتحدة بسحب قواتها من اليمن مناورة تكتيكية في مشهد إقليمي يشهد العديد من التحديات الاستراتيجية التي تطرحها أطراف أخرى معنية بالدرجة نفسها. فبالإضافة إلى اليمن، تظل البلدان الأخرى المتاخمة للقرن الإفريقي والبحر الأحمر ضرورية لسياسة أبوظبي الخارجية المتمثلة في ممارسة النفوذ الاقتصادي والعسكري، حسبما ورد في تقرير لموقع Lobe Log الأمريكي.
وتشمل هذه البلدان إقليميّ الصومال الفيدراليين، أرض الصومال وبونتلاند، وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا والسودان ومصر، وكلها تعتمد بشكل أو بآخر، جزئياً على الأقل، على الهبات الاقتصادية التي تقدمها الدولة الثرية صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في الجزيرة.
سر دعم الإمارات الانفصاليين بجنوب اليمن
الزمن وحده هو ما سيخبرنا كيف سينجح الانقلاب الأخير الذي نفذه الانفصاليون الجنوبيون في اليمن على الحكومة الشرعية التي يترأسها عبد ربه منصور هادي في خدمة مصالح الإمارات، بالنظر إلى الوضع المضطرب في عدن والمناطق المحيطة بها.
كانت الإمارات أكثر الداعمين الإقليميين للانفصاليين تحمساً، جزئياً على الأقل لأنهم قدموا لها موطئ قدم في أحد جوانب مضيق باب المندب الذي يربط البحر العربي والقرن الإفريقي بالبحر الأحمر، في طريقه إلى قناة السويس والبحر المتوسط.
في الواقع، وعلى الرغم من أنها دولة صغيرة، خاطرت الإمارات بتحالفها مع السعودية في اليمن، حتى تتمكن من السيطرة على جزء مهم من الأراضي في منافستها الاستراتيجية الإقليمية مع الدول الأخرى الأكثر ثراءً مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، والصين وتركيا.
ويبدو أنهم يكررون المغامرة في الصومال
هناك شيء واحد مؤكد: ستفعل الإمارات ما هو ضروري للحفاظ على نفوذها في أي مكان تركت فيه بصمتها، مهما كلف الأمر. واليوم، برزت الإمارات باعتبارها راعياً وداعماً للانفصاليين الطموحين في أرض الصومال وبونتلاند الواقعتين في شمال الصومال، حيث استثمرت أبوظبي الوقت والطاقة والموارد المالية والعسكرية.
ربما يكون القادة الإماراتيون قد اتخذوا بالفعل قراراً بالمساعدة في إقامة دويلات سهلة الانقياد على طول الساحل الشرقي لإفريقيا لتعكس عملياً الدولة المستقلة التي يناضل المتمردون الجنوبيون في اليمن حالياً لتأسيسها.
إذا كان هذا صحيحاً وإذا نجحت خطط الإمارات في اليمن والصومال على النحو الذي تريده، فربما يصبح العالم في مواجهة تحدٍ جديد للاستقرار والسلام الإقليميين على الحافة الغربية للمحيط الهندي.
وهذه العوامل ساعدتها على تنفيذ خطتها
لا تفعل الإمارات شيئاً، باعتبارها وافداً جديداً على السياسة الصومالية، سوى أن تستغل ظروف التقسيم وعدم الاستقرار وانعدام الأمن القائمة.
إذ واجهت وحدة الصومال وسلامته الإقليمية تحديات منذ انهيار رئاسة سياد بري عام 1991 وتشكيل الجماعات العسكرية والسياسية والدينية المتنافسة لسلطة تلو الأخرى.
ولا يزال الإرهاب الذي تمارسه حركة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة يضرب البلاد، بالإضافة إلى أن ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ينفذ عمليات في الصومال.
وانتشرت القرصنة على طول الساحل الصومالي منذ عام 2008 على أقل تقدير، مستفيدة من غياب آليات أمنية يمكن لدولة موحدة أن توفرها.
ووفر قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2372 لعام 2017 بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال للمساعدة في الحفاظ على الأمن في المراكز الحضرية، ولا سيما العاصمة مقديشو، وذلك بعد فشل بعثات الأمم المتحدة الأخرى التي أُرسلت إلى البلاد في التسعينيات في تحقيق الاستقرار.
في الواقع، وجدت الإمارات أرضاً خصبة للتدخل المُغرض في الصومال. أولاً، تتطلع اثنتان من الولايات الفيدرالية المتشكلتين في الصومال، وهما أرض الصومال وبونتلاند، إلى الاستقلال عن حكومة مركزية فشلت في توفير روح الوحدة اللازمة وما يساعد على التنمية.
ثانياً، يتمتع الإقليمان الطموحان بموقع جغرافي سياسي مميز يُحسدان عليه في القرن الإفريقي، إذ يمتدان على طول الساحل الجنوبي لخليج عدن، مما يوفر في الواقع منطقة مميزة مقابلة لجنوب اليمن.
ثالثاً، ضعف الحكومة المركزية واعتمادها على المساعدات الدولية يمنعانها من أن تمثل تحدياً لخطط الإمارات. ومع توقف المجتمع الدولي الظاهر عن أي محاولة جادة للانخراط في الشؤون الصومالية، وجدت دولة الإمارات الطموحة أنه من السهل العثور على أطراف مضطربة ومستعدة لمعاونتها في أرض الصومال وبونتلاند.
مئات الملايين من الدولارات
وبالفعل، أقامت الإمارات علاقات اقتصادية وعسكرية قوية مع إقليم أرض الصومال، الذي أعلن استقلاله من جانب واحد عام 1991.
وضخت شركة DP World، وهي شركة تعمل في إدارة الموانئ ومقرها دبي، 442 مليون دولار في ميناء بربرة على ساحل خليج عدن.
أما بونتلاند، التي أعلنت استقلالها عام 1998، فقد وجدت فيها الإمارات أيضاً شريكاً متحمساً.
وفي مارس/آذار الماضي، سافر رئيس إقليم أرض الصومال، موسى بيهي عبدي، في رحلة مدتها ستة أيام إلى الإمارات حيث التقى ببعض المسؤولين ووقع اتفاقية لتوسيع مطار بربرة (الذي بناه الاتحاد السوفيتي في السبعينيات) لاستيعاب الطائرات الكبيرة.
وستدير الإمارات المطار والميناء مقابل إقامة العديد من مشاريع التنمية في الإقليم وقاعدة عسكرية قريبة منها.
وما يثير الاهتمام هو أن الشخص الذي قابل بيهي ووقع معه الاتفاقية كان الشيخ منصور بن زايد، نائب رئيس الوزراء ووزير الدولة لشؤون الرئاسة.
ورغم أن منصور يعد ممثلاً عن الحكومة، قد لا يجذب دوره الكثير من الاهتمام الدولي بالدرجة نفسها التي قد يجذبها حضور ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد. إذ أن محمد بن زايد هو المسؤول الرئيسي عن تدخل الإمارات في اليمن لصالح الانفصاليين الجنوبيين في البلاد.
ففي أبريل/نيسان الماضي، طلب رئيس الإقليم سعيد عبدالله ديني، الذي اُنتخب في يناير/كانون الثاني عام 2019، مساعدة أبو ظبي في تعزيز قوة الشرطة البحرية في الإقليم، وهي القوة المسؤولة عن مكافحة الإرهابيين والقراصنة. وساعدت الإمارات في تأسيس القوة في المقام الأول عام 2010.
وفي أبريل/نيسان عام 2018، طلب الرئيس السابق، عبدالولي محمد علي، من الإمارات أن تظل على اتصال مع إقليمه بعد توتر العلاقات بين مقديشو وأبو ظبي بعد تردد الرئيس السابق في اتخاذ موقف في أزمة عام 2017 بين الإمارات وقطر. وتدير شركة DP World أيضاً ميناء بوصاصو في بونتلاند، الذي يقع أيضاً على خليج عدن، وقالت عام 2017 إنها تعتزم استثمار 336 مليون دولار في المنشأة التي استأجرتها لمدة 30 عاماً.
العداء للإسلاميين والتنافس مع قطر وتركيا
لا شك في أنه لا يمكن رؤية مبادرات الإمارات في إقليميّ أرض الصومال وبونتلاند بمعزل عن حياد الصومال في خلاف عام 2017 بين قطر ودول الحصار الأربع التي تشمل الإمارات والسعودية والبحرين ومصر.
بالنسبة إلى الساسة الإماراتيين في الفترة التي تلت الانتفاضات العربية عام 2011 وصعود القوى الإسلامية الذي تخشاه، كان الصومال ولا يزال ساحة للتنافس مع النفوذ القطري- والتركي بالتبعية.
إذ قرر الرئيس الصومالي محمد عبدالله محمد (الذي انتخب في فبراير/شباط عام 2017) أن الحياد في أزمة الخليج عام 2017 من شأنه أن ينقذ البلاد من تأثير لا مبرر له.
فقد رفض الرئيس الصومالي الرشوة الإماراتية
وأوردت تقارير أن محمد رفض 80 مليون دولار من السعودية، بعد بدء الأزمة مباشرة، لقطع العلاقات مع قطر. ويمكن القول إن قرار الصومال بالبقاء محايداً، واهتمام الإمارات بتطوير العلاقات مع الإقليمين المنشقين، هما أهم العوامل التي تحدد كيف ترسم أبوظبي مسار عملها المستقبلي في البلاد.
واجهت العلاقة بين الإمارات والصومال المُضطربة والضبابية مشكلة حين صادرت السلطات الصومالية في أبريل/نيسان 2018 حقائب نقود تحوي 9.6 مليون دولار على متن طائرة إماراتية في مطار مقديشو.
وفي حين أكدت الإمارات أن هذه الأموال كانت مخصصة لدفع رواتب الجنود الصوماليين الذين كانت تدربهم، أصرت السلطات الصومالية على أن هؤلاء الجنود كانوا يُستغلون لإثارة الفتنة ضد الحكومة المركزية.
بعد بضعة أيام، اشتبه المسؤولون الصوماليون مرة أخرى في أمتعة في مطار بوصاصو في بونتلاند وحاولوا تفتيشها ولكن دون جدوى.
ونتج عن هذين الحادثين، اللذين وقعا أثناء رفض حكومة مقديشو إعلان موقف مؤيد للإمارات في أزمة مجلس التعاون الخليجي، القرار الإماراتي بإنهاء البرنامج التدريبي للجيش الصومالي وقطع مساعدات التنمية.
وما يزيد من هذه المشكلات مع أبوظبي علاقة مقديشو الجيدة مع أنقرة والدوحة. إذ إن تركيا من بين أكبر مقدمي الخدمات الاقتصادية والاجتماعية للصومال. وأنشأت أيضاً قاعدة عسكرية في مقديشو في 2017 لتدريب 10 آلاف جندي صومالي؛ وبالإضافة إلى ذلك، زادت الصادرات التركية إلى الصومال من 5.1 مليون دولار عام 2010 إلى 123 مليون دولار عام 2017.
ومن جانبها، دعمت قطر الحكومة المركزية في مقديشو وتعهدت بتقديم مساعدة مالية لمشاريع البنية التحتية والتنمية الاجتماعية.
وفي أوائل عام 2019، تبرعت بـ68 مدرعة للقوات المسلحة الصومالية. وفي 20 أغسطس/آب، وقع البلدان اتفاقاً تبني قطر بموجبه ميناءً بحرياً جديداً في مدينة هوبيو المرفئية على الساحل الشرقي، وهو ما يعادل عملياً الاستثمارات الإماراتية في المنشآت البحرية في إقليميّ أرض الصومال وبونتلاند.
خطة الإمارات تهدد بعودة الإرهاب
لا بد من تقييم الدعم الذي تقدمه أبو ظبي إلى إقليميّ أرض الصومال وبونتلاند في سياق المساعدات التي تقدمها الإمارات إلى الانفصاليين الجنوبيين في اليمن الذين نفذوا مؤخراً انقلاباً في عدن على حكومة هادي.
في الواقع، يمكن أن يؤثر نجاح ذلك الانقلاب كثيراً على ما إذا كان الإقليمان الصوماليان المنشقان قد قررا أن الوقت مناسب لإعلان نفسيهما مستقلين تماماً، مما يؤدي إلى تفكك الصومال التام والانهيار الكامل المحتمل للسلطة المركزية في مقديشو.
ولكن بغض النظر عن التوقيت والتكلفة المتوقعة، ستستفيد الإمارات حتماً من وجود عملاء لطفاء، يسهل تطويعهم، على الساحلين الشمالي والجنوبي لخليج عدن.
ويظل السؤال المطروح هو هل من الحكمة إعطاء الأفضلية للمزايا الاستراتيجية والاقتصادية للإمارات نفسها وليس لأهداف الاستقرار والأمن في المنطقة ككل، التي تمتد من الساحل الصومالي إلى البحر الأحمر.
ومن المسلَّم به أنه من الأسهل التعامل مع الدويلات المنشقة سهلة الانقياد التي تعتمد على هبات الراعي الثري، وهو الإمارات في حالتنا هذه؛ لكن من المرجح أن تؤدي مساعدة الزعماء الانفصاليين في أرض الصومال وبونتلاند على إدراك حلمهم المكلِّف بالاستقلال إلى اندلاع الفوضى في الصومال والبلدان المجاورة. وتجدد الحرب الأهلية في الصومال من شأنه أن يمد المتطرفين الموجودين بالفعل في البلاد بالدعم اللازم، مما يساعدهم على توسيع عملياتهم في هذا البلد الأكثر أهمية واستراتيجية.