في 11 فبراير/شباط 1992، كانت الغواصة الأمريكية "باتون روج"، وهي غواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية من طراز لوس أنجلوس، ترصد ما يحدث على عمق 20 متراً في المياه الضحلة عند جزيرة كيلدين، وعلى بعد 14 ميلاً (19 كيلومتراً) من ميناء مورمانسك الروسي، الذي كان الاتحاد الروسي قد أفرغه فقط قبل شهرين، لكن ظلت قوات البحرية الأمريكية تراقب عن كثب ما أصبح فيما بعد البحرية الروسية القوية.
"باتون روج" في لقاء غير متوقع مع "كوستروما"
تقول مجلة National Interest الأمريكية، التي تروي تفاصيل هذه الحادثة: من المغري التفكير في تقنية السونار باعتبارها نوعاً من الرادار الذي يعمل تحت الماء. غير أن الماء وَسَط أقل توافقاً بكثير من الهواء، حتى بالنسبة لأحدث أجهزة الاستشعار، ويمكن للرياح وتغيرات درجات الحرارة والأصوات التي تنعكس من قاع المحيط أن تؤثر جميعها سلباً على أداء السونار إلى حدٍّ كبير. عند محاولة كشف الغواصات الهادئة للغاية المستخدمة حالياً، يمكن فقط لعدد قليل من العوامل المضادة تحويل مهمة صعبة للغاية إلى مهمة مستحيلة.
لذلك، قد لا تتمكن غواصة تتجسس بالقرب من البر الرئيسي للخصم، من اكتشاف غواصة أخرى تتجه نحوها إلا بعد الاصطدام، الأمر الذي قد يكون سيئاً أكثر منه محرجاً لجميع الأطراف.
لم توضح أبداً طبيعة أنشطة تجسس المحددة للغواصة "باتون روج". يمكن أن تكون شاركت في تسجيل الأصوات التي تنتجها الغواصات الروسية لتحديد كل غواصة لاحقاً، أو زرع واستعادة أجهزة جمع المعلومات الاستخباراتية.
في الساعة 8:16 صباحاً، ارتطم شيء هائل بـ "باتون روج" المرابضة البالغ طولها 110 مترات من أسفل، خادشاً جسم الغواصة التي تعمل بالطاقة النووية، وتسبب في تسريب في صابورة الغواصة. لحسن الحظ، لم يتضرر هيكلها.
كارثة نووية كانت ستحدث
تبين أن غواصة "B-276 Kostroma" وهي غواصة هجوم روسية من طراز سييرا، حاولت الطفو أثناء وجودها أسفل الغواصة الأمريكية. مع بلوغ سرعتها حوالي 8 أميال في الساعة، أثر برج المراقبة في الغواصة الروسية على بطن السفينة الأمريكية. سُحقت جزئياً صارية الغواصة الروسية المصنوعة من التيتانيوم من جراء ارتطامها بقاع "باتون روج"، وعثر على أجزاء من القطع المضادة لموجات السونار المستخدمة في السطح الخارجي للغواصة الأمريكية على سطح الغواصة الروسية.
صممت كلتا الغواصتين لإطلاق صواريخ كروز من طوربيدات، ويمكن نظرياً أن تكون مسلحة برؤوس حربية نووية. مع ذلك، وافقت روسيا والولايات المتحدة مؤخراً على سحب هذه الرؤوس الحربية بموجب معاهدة "ستارت 1″، ومن المحتمل أن "باتون روج" على الأقل لم تعد تحملها. مع ذلك، كان من الممكن أن يؤدي تصادم أشد إلى حدوث تسريب من المفاعلات النووية على أي من السفينتين، ما سيتسبب في انتشار الإشعاع إلى الغواصات والمياه المحيطة بها.
لم يحدث هذا لحُسن الحظ، دارت "باتون روج" حول الغواصة الأخرى وتواصلت معها للتأكد من أنها ليست بحاجة للمساعدة، ثم عادت السفينتان إلى الميناء لإجراء إصلاحات.
أمريكا تعتذر لروسيا
تسبب الحادث في واحدة من أول الحوادث الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والحكومة الروسية التي كانت حديثة العهد آنذاك، إذ اضطر وزير الخارجية الأمريكية آنذاك جيمس بيكر للقاء بوريس يلتسين، الرئيس الروسي الأول بعد انهيار الاتحاد السويفييتي، شخصياً، وطمأنته بأن واشنطن ستقلص من تجسسها في المياه الروسية، وهو وعد نُقض في العام التالي بتصادم غواصة أخرى قبالة شبه جزيرة كولا.
وأبرز الحادث أيضاً الاختلافات حول تعريف "المياه الدولية"، إذ تتبع الولايات المتحدة معيار قياسها على بعد 12 ميلاً من أقرب يابسة، وامتثلت "باتون روج" لهذا المبدأ. وبالعكس، حددتها موسكو بأنها تمتد على بعد 12 ميلاً من خط آخر أقرب، وهو المعيار من خلاله تُعتبر "باتون روج" منتهكةً للمياه الروسية الإقليمية.
يبلغ عمر "باتون روج" 17 عاماً فقط، وهي في المرتبة الثانية في فئة غواصات لوس أنجلوس. مع ذلك، اعتبرت تكلفة إصلاحها إلى جانب النفقات المقررة بالفعل للتزود بالوقود النووي، باهظة وأوقفت الغواصة في يناير/كانون الثاني 1995.
مع ذلك، أُصلحت الغواصة الروسية وأُعيدت إلى البحر عام 1997، وما زالت تعمل حتى الآن. رسم البحارة الروس علامة قتل على برج المراقبة الخاص بها، للاحتفال بـ "هزيمة" الغواصة "باتون روج".
التسلل في المياه الضحلة
كيف وقع هذا الحادث؟ وصفت بعض المقالات الصحفية الغواصات بأنها متورطة في لعبة القط والفأر التي استمرت طويلاً. في الواقع، كانت هذه الألعاب شائعة بين الغواصات الهجومية للدول المتنافسة، وأسفرت عن تصادمات في الماضي.
مع ذلك، يظل هذا الحادث غير مرجح إلى الآن، لأن الغواصة يمكنها فقط خوض لعبة القط والفأر، إذا كانت قادرة على اكتشاف السفينة الأخرى، وفي المياه الضحلة قبالة جزيرة كيلدين، من غير المرجح أن تتمكن أي سفينة من ذلك.
هذا لأنه في المياه الضحلة، تخلق الأمواج المتلاطمة ما لا يقل عن 10 أضعاف التشويش في الخلفية للسونار، ما يصعب للغاية تمييز المروحة الهادئة للغواصة الأخرى. علاوةً على ذلك، حتى الإشارات التي تُكتشف، تنعكس على قاع المحيط والأمواج المتلاطمة بحيث يصبح من الصعب عزلها من التشويش.
حَسَب المحلل يوجين ميسنيكوف عام 1993 فإن نطاق الكشف باستخدام السونار السلبي لغواصة من طراز سييرا بطيئة الحركة في مثل هذه البيئة الصاخبة، كان من المحتمل أن يتراوح بين 100 و200 متر، أو أقل إذا كان يوماً عاصفاً. وربما انخفض نطاق الكشف إلى الصفر إذا اقتربت الغواصة الروسية بزاوية بدرجة 60 من خلف "باتون روج"، حيث لا يوجد تغطية من نظام السونار الثابت من تلك الزاوية.
لماذا لم تستخدم الغواصتان موجات السونار؟
لم يكن للغواصة الروسية فرصة تُذكر للكشف عن الغواصة الهادئة من طراز لوس أنجلوس، إذ تكون أجهزة الاستشعار القوية المضادة للغواصات الثابتة فعالة فقط في نطاقات من ثلاثة إلى خمسة كيلومترات في مثل هذه الظروف، وهي أقصر من أن تصل إلى موقع "باتون روج". تستطيع الغواصات أيضاً نشر أنظمة السونار خلفها لزيادة تغطية السونار، لكن يصعب التحكم في المياه الضحلة، بالتالي لم يجر استخدامها أثناء الحادث.
ويمكن للغواصة أو سفينة السطح استخدام السونار النشط لإصدار موجات صوتية، من شأنها الانعكاس على جسم غواصة أخرى. في المياه الضحلة، ربما زاد ذلك من نطاق الكشف إلى بضعة كيلومترات. مع ذلك، فإن الإقدام على مثل هذا الأمر سيكشف أيضاً النظام الأساسي باستخدام السونار النشط.
من المؤكد أن "باتون روج" لم تستخدم السونار النشط حتى لا تُكتشف، ولم تكتشف أيضاً السونار النشط من الغواصة الروسية. بالتالي، لم تستخدم أي من الغواصات السونار النشط، وعلى الأرجح لم تكن السونارات السلبية الخاصة بهما قوية بما يكفي لاكتشاف الآخر في المياه الضحلة. هذا ما يفسّر السبب في أن الغواصات التي يفوق طولها ملعب كرة قدم، يمكن أن تصطدم ببعضها، دون علم بوجود الأخرى حتى حدوث الاصطدام. وكما يتضح من التصادم المروع عام 2009 بين الغواصة الفرنسية المسلحة نووياً من فئة تريمفانت والغواصة البريطانية من فئة فانغارد، فإن مخاطر التصادم تحت الماء بين الغواصات النووية لا تزال حقيقية حتى الآن.