بينما يتندر بعض أبناء المنطقة العربية على أنظمة الحكم الاستبدادية في بلدانهم، وامتداح النموذج الإسرائيلي باعتباره نموذجاً ديمقراطياً في محيط مليء بالأنظمة الاستبدادية، يأتي الواقع مكذباً لتلك الفرضية التي طالما تغنى بها أيضاً القادة في تل أبيب.
جوزيف مسعد، الأستاذ بجامعة كولومبيا والمتخصص في السياسة العربية الحديثة والتاريخ الفكري، أشار في مقال له بموقع Middle East Eye البريطاني إلى أن الصحافة الغربية وبعض الساسة الغربيين يرون أن الانتخابات الإسرائيلية التي جرت الربيع الماضي جاءت تأكيداً على أن إسرائيل تصبح أقل ديمقراطية، وأكثر عنصرية وشوفينية.
اختاروا الديمقراطية للإسرائيليين ووضعوا نظام فصل عنصرياً للفلسطينيين
مسعد يرى أن "الديمقراطية" في إسرائيل تأسست للإسرائيليين اليهود بعدما قام الصهاينة بطرد 90% من السكان الفلسطينيين عند إقامة الدولة عام 1948، إذ جعلوا أنفسهم الأغلبية في بلد مُطهَّر عرقياً بين ليلة وضحاها.
اختاروا الحكم الديمقراطي الليبرالي للأغلبية الاستعمارية، بينما وضعوا نظاماً قانونياً قائماً على الفصل العنصري للفلسطينيين الذين لم يتمكنوا من طردهم، والذي تضمن عشرات القوانين العنصرية.
وقد كان هذا الالتزام بالتطهير العرقي والحكم القائم على تفوق اليهود الأساس الأيديولوجي للحركة الصهيونية منذ بدايتها.
حذر هرتزل في وثيقة تأسيس إسرائيل من أية التزامات ديمقراطية
ويبدو أن فكرة منح الديمقراطية للإسرائيليين وحرمان الفلسطينيين منها قد خطط لها مبكراً؛ إذ وضع ثيودور هرتزل -الأب الروحي للحركة الصهيونية- خططاً بخصوص ما يمكن فعله مع الفلسطينيين أصحاب الأرض.
وقد حذر في وثيقته التأسيسية لـ "الدولة اليهودية" من أي التزامات ديمقراطية، وأشار إلى أن "تسلل (اليهود إلى فلسطين) سينتهي بكارثة. وهذا التسلل سيستمر حتى اللحظة التي لا مفر منها عندما يشعر السكان الأصليون بأنهم مهددون، ويجبرون الحكومة [الحالية] على وقف تدفق اليهود. وبالتالي، فإن الهجرة لن تكون مجدية إن لم تكن مرتكزة على تفوق مضمون".
كتب هرتزل في مذكراته أنه يجب على اليهود "تحفيز الشعب المفلس عبر الحدود من خلال توفير فرص عمل له في دول العبور، مع حرمانه من أي فرص عمل في بلدنا".
وأضاف: "إن التخلص من الفقراء لا بد أن يتم في تكتم وحذر. لنجعل أصحاب الممتلكات غير القابلة للنقل يظنون أنهم يخدعوننا؛ يبيعون لنا ممتلكاتهم بثمن يفوق قيمتها. ولكننا لن نبيع أي شيء لهم مرة أخرى".
ومع تضاعف عدد المستعمرات، تضاعف طرد الفلسطينيين. في عام 1920، أفاد عالم الهندسة الزراعية والمستعمر البولندي حاييم كالفاريسكي، وهو مدير جمعية الاستعمار اليهودي، بأنه بوصفه شخصاً كان يجرد الفلسطينيين من ممتلكاتهم منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، فإن "التساؤل حول العرب ظهر بالنسبة لي للمرة الأولى بكل جدية بعد أول عملية شراء للأرض قمت بها هنا. فكان عليّ تجريد السكان العرب من أرضهم من أجل توطين أشقائي".
واشتكى كالفاريسكي من أن "الحزن الشديد" لهؤلاء الذين كان يجبرهم على الخروج "لم يتوقف عن الرنين في أذني لفترة طويلة بعد ذلك".
الديمقراطية الشاملة تخيف إسرائيل
يخشى الإسرائيليون من الديمقراطية الشاملة، والتزامهم بالتطهير العرقي كان قوياً جداً لدرجة أنه بعد الحرب العالمية الأولى -عندما أراد البريطانيون المهتمون بمدِّ نفوذهم أن يطلبوا من الولايات المتحدة إعطاء جزءٍ من المسؤولية إلى فلسطين- رفضوا ذلك رفضاً قاطعاً.
ورفضت المنظمة الصهيونية العالمية بشدة تدخل الولايات المتحدة: "إن الديمقراطية في أمريكا أيضاً تعني بشكل عام حكم الأغلبية، بغض النظر عن تنوع مراحل الحضارة أو أنواعها أو الاختلافات النوعية.. إن الأغلبية العددية في فلسطين اليوم عربية، وليست يهودية".
وبحسب ما أفادت المنظمة الصهيونية العالمية فإن "اليهود هم المهيمنون الآن في فلسطين، وحيث إن لديهم الظروف المناسبة، فهم سيظلون المهيمنين لجيل أو جيلين قادمين".
وأضافت المنظمة: "لكن، إن كان المفهوم الحسابي الخام للديمقراطية ليطبق الآن أو في مرحلة ما قريبة في المستقبل على الظروف الفلسطينية، فإن الأغلبية التي ستحكم ستكون هي الأغلبية العربية، وستكون مهمة إنشاء (فلسطين يهودية) كبيرة وتطويرها أصعب بشكل كبير".
وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وضع الصهاينة خططاً استراتيجية للتطهير العرقي (ما أطلقوا عليه "انتقال") للفلسطينيين. وقد أعلن ديفيد بن غوريون، زعيم الصهيونية الاشتراكية للمستوطنين الاستعماريين، في يونيو/حزيران 1938: "أنا أؤيد الانتقال الإجباري ولا أرى أي شيء غير أخلاقي فيه".
تبعت مقولته السياسة التي انتهجتها الوكالة اليهودية، التي أنشأت أول "لجنة انتقال إجباري" في نوفمبر/تشرين الثاني 1937 لوضع استراتيجية للطرد الإجباري للفلسطينيين. وقد أُنشِئت لجنتان إضافيتان في عامي 1941 و1948.
بدعوى التفوق العرقي خططوا لطرد مليون فلسطيني إلى العراق
رحب حاييم فايتسمان، رئيس منظمة الصهيونية العالمية، في عام 1941 بخطط طرد مليون فلسطيني إلى العراق، وأن يحل محلهم خمسة ملايين مستعمر يهودي بولندي وغيرهم من الجنسيات الأوروبية. وقد أفصح عن خطته للسفير السوفييتي في لندن، إفان مايسكي، آملاً في الحصول على دعم الاتحاد السوفييتي.
وعندما أعرب مايسكي عن دهشته، أجابه فايتسمان بجدال عرقي لا يختلف عن ذلك الذي استخدمه الفاشيون مع اليهود الأوروبيين في الفترة نفسها: "إن كسل الفلسطينيين وبدائيتهم يمكن أن يُحوِّلا حديقةً مزدهرة إلى صحراء. أعطني الأرض التي يشغلها مليون عربي، وأنا سأوطن فيها خمسة أضعاف العدد من اليهود بسهولة".
إن المعادلة المزعومة "دولة يهودية وديمقراطية"، التي يخاف كثيرون من المدافعين عن إسرائيل من أنها قد تكون الآن في خطر، كانت دائماً قائمة على حسبة التفوق اليهودي والتطهير العرقي، مثلها مثل الديمقراطيات الليبرالية البيضاء التفوقية التي تأسست بعد التطهير العرقي في الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا.
إلا أن ذلك التوازن أصبح الآن حساساً، فقد عاد السكان اليهود المستعمرون أقلية في إسرائيل، يواجهون أغلبية فلسطينية أصلية، تستمر في مقاومة التطهير العرقي والحكم التفوقي، ذلك الذي يحتفي به داعمو إسرائيل وأعداء الفلسطينيين بوصفه "دولة يهودية وديمقراطية".