"يوم أسود لدولة القانون في ألمانيا"، هكذا وصف مراقبون الحُكم الذي أصدرته محكمة ألمانية في قضية قتل متهم فيها مهاجر سوري أثارت انتقادات واسعة في البلاد.
وتسبَّب الحكم والملابسات المحيطة بالقضية والجريمة التي وقعت قبل عام بتوجيه اتهامات للمحكمة بالتحيز السياسي والخضوع للتهديد اليميني، ومحاولة للحفاظ على الهدوء في مدينة كيمنتز بشرقي ألمانيا، على حساب العدالة.
في هذا التقرير نرصد تفاصيل الجريمة، ولماذا أثيرت شكوك بهذه الحدة في المحكمة.
هذه الاتهامات يتم تداولها في ألمانيا، منذ الخميس 22 أغسطس/آب، بعد صدور حكم بالسجن 9 سنوات ونصف السنة على شاب سوري، بتهمة المشاركة في القتل بغير القصد وإلحاق أذى بدني برجل ألماني من أصول كوبية، يدعى دانييل هيليغ في كيمنتز قبل قرابة عام.
الجريمة التي وقعت على مقربة من مكان انعقاد مهرجان المدينة، التي استغلتها قوى اليمين المتطرف وخرجت في تظاهرات عنيفة، وقيل إنهم لاحقوا أجانب في الشوارع بعدها في ذلك الوقت.
وقدَّم محامو دفاع السوري "علاء.س" طعناً في الحكم بعد وقت قصير من صدور الحكم لدى المحكمة الاتحادية، ما يعني أن الحكم لن يصبح قيد التنفيذ الآن.
وما زال المشتبه الرئيسي في الجريمة، وهو عراقي، مختفياً، بعد أن أصدرت السلطات مؤخراً مذكرة اعتقال دولية بحقه.
وقد عُثر على آثار الحمض النووي لهذا الرجل العراقي على أداة الجريمة، بينما لا توجد آثار حمض نووي للسوري المحكوم عليه على أداة الجريمة.
أول الشكوك يثيره الإقليم الذي وقع به الجريمة.. ليسوا ألماناً عاديين
أولاً الجريمة وقعت في شرقي ألمانيا، أي المنطقة التي كانت جزءاً من دولة ألمانيا الشرقية السابقة، وهي المناطق التي تعد معقلاً لليمين المتطرف في البلاد، وهي الأقل ثراءً وتقدماً، مما يثير مخاوف من أن المؤسسات فيها أقل تقدماً وكفاءة من المناطق الأخرى.
كما أن هناك اتهامات بأن المحكمة كانت مسيسة، وأنها أرادت إرضاء اليمين المتطرف المتنفذ في المدينة.
محامية الدفاع: الحكم كان صادراً قبل بدء المحاكمة
"الحكم كان سيختلف لو أُجريت المحاكمة في مدينة أخرى" .
كان هذا تعليق ريكاردا لانغ، محامية دفاع عن المتهم "علاء.س" .
ونقل تلفزيون "إم دي إر" عن لانغ، اتهامها للمحكمة بالتحيز، وبأنها تأثرت بالظروف السياسية في مدينة كيمنتز، لأن المحاكمة كانت تجري وسط ضغط سياسي.
وأعربت عن اعتقادها بأنه لم يكن لِيُدان موكلها قطعاً، لو أن المحاكمة جرت في مدينة أخرى وولاية أخرى غربي البلاد، مثل شمال الراين فستفاليا أو هامبورغ، لافتة إلى فشل محاولتها قبل بدء المحاكمة لنقلها لولاية أخرى.
عليك الاستعداد للإدانة حتى قبل المحاكمة
وأشارت المحامية إلى وجود تناقضات كثيرة في أقوال الشهود، وإلى عدم وجود آثار حمض نووي "دي إن أيه" تدعم التهم ضد موكلها، وعدم وجود أدلة تدين موكلها بقتل دانييل وإصابة رجل آخر.
وكانت جهة الدفاع قد طالبت ببراءة السوري "علاء.س" وإلغاء أمر الاعتقال ضده، وتقديم تعويض له عن فترة سجنه، التي قاربت العام في السجن الاحتياطي.
ووصفت محامية الدفاع لانغ، اليوم الذي صدر فيه الحكم بأنه "يوم حزين لدولة القانون"، معتبرة أن الحكم كان قد صدر منذ اليوم الأول، قبل التداول حتى في القضية، وأنها وزملاءها أخبروا موكلهم "علاء.س" منذ اليوم الأول بأنه سيُدان، وعليه كان الموكل مستعداً لهذا الحكم، وفق ما ذكرت وكالة الأنباء الألمانية.
تصريح رئيس البلدية يكشف الكثير
وأعطت لانغ مثالاً بتصريح رئيسة بلدية المدينة باربارا لودفيغ، في شهر مارس/آذار الماضي، تتمنى فيه وجود إدانة في المحكمة، لكي تنعم عائلة الضحية بالسكينة، معتبرة أنها محاولة لممارسة الضغط على القضاء "الذي يُفترض أنه مستقل"، مضيفة أنَّ موكلهم لم تكن لديه أي فرصة للبراءة، لأنه تم تسيس القضية واستغلالها وجعله "تضحية ببيدق" .
ونفى النائب العام شتيفان بوتزكيس، الذي كان قد طالب بالحكم على "علاء.س" بالسجن 10 سنوات، أن يكون قد تأثر بضغوط من جهات حكومية عليا.
شهادة متناقضة للطباخ اللبناني
وذكر موقع "تزايت" أنَّ الشاهد يونس أدلى بشهادة متناقضة، فزعم مرة أنه شاهد كل شيء من نافذة المطعم، ومرة أنه خرج من المطعم وشاهد.
كما زعم أنه شاهد مع عامل آخر ما جرى، فيما أنكر العامل المشار إليه ذلك. كما أنه كان يجيب عن عدة أسئلة بـ "نعم، لا، لا يمكنني تذكر ذلك" .
ومما أثار الشكوك في شهادة الطباخ اللبناني أنه قال إنه رأى "علاء.س" من مسافة 60 متراً (ليلاً)، ثم قال إنه رأى كيف تم الطعن مرة، وفي مرة أخرى كيف تم الضرب.
ومحامي الضحية يتحدَّث عن الأسباب المحتملة لتغيير الشاهد اللبناني لأقواله
وأكدت القاضية سيمونه هيربيرغر في توضيحها لأسباب الحكم أنه ليس هناك شك في أقوال وصدقية الشاهد الرئيسي (طباخ لبناني يعمل في مطعم قرب مكان وقوع الجريمة يدعى "يونس.النـ"، الذي أفاد بأنه شاهد "علاء.س" هناك، وقدم وصفاً لحركات الطعن التي كان يقوم بها وملابسه، رغم أنه لم يشاهد السكين، بحسب قوله، مشيرة إلى وجود أقوال شهود أخرى.
واعتبر محامي ذوي الضحية دانييل، أنه يمكن تفهم إدلاء الشاهد الرئيسي بأقوال متناقضة، لكونه قد تعرض للتهديدات وحتى الاعتداء جزئياً من قبل المحيطين بالمتهم.
وقال "ليس هناك لدى الشاهد دافع للإدلاء بأقوال كاذبة، مشيراً إلى أن هذا الشاهد أصبح ضمن برنامج حماية الشهود، وتوجب عليه التخلي عن وجوده في مدينة كيمنتز.
"لا أريد أن أكون الضحية الثانية للجاني".. هذه رواية المحكوم عليه
ولم يعلق المحكوم عليه "علاء.س" خلال المداولات على التهم الموجَّهة إليه، لكنه قال قبل النطق بالحكم إنه يأمل في ظهور الحقيقة، وأنه يأسف لما حدث لعائلة الضحية دانييل، معبراً عن أمله ألّا يصبح هو الضحية الثانية للجاني، في إشارة إلى إدانته ظلماً.
وسرد "علاء.س" وهو ليس من أصحاب السوابق قبل هذه القضية، روايته لمجريات تلك الليلة في مكالمة من السجن مع القناة الألمانية الثانية، قائلاً إنه كان جالساً في مطعم ينتظر "الدونر" (الشاورما) التي طلبها، عندما صاح أحد معارفه بأن هناك نازيين، فركض مذعوراً معه دون أن ينظر خلفه واعتقلتهما الشرطة، فخرج الآخر فيما ظل هو سجيناً.
وأقسم بأنه لم يقتل دانييل ولم يلمسه، ولم يشاهده سوى عبر الصور، ولم يلمس السكين أداة الجريمة.
"حكم باسم الشعب الغاضب"
وأثار هذا الحكم استياء الكثير من المراقبين لمجريات المحكمة.
فنشر موقع شبيغل أونلاين، أمس، تعليقاً لصحفية بياته لاكوتا على صدر صفحته الرئيسية، اعتبر في عنوانه أن الحكم على "علاء.س" صدر "باسم الشعب الغاضب"، في ظل عدم وجود آثار للجريمة على جسد المدان حالياً، وعدم وجود خدوش أو بقع زرقاء على جسده، جرَّاء اشتراكه المزعوم مع العراقي الفارّ حالياً في العراك مع الضحية، وعدم العثور على آثار "دي إن أيه" له على السكين أداة الجريمة، واعتماد المحكمة على شهادة وحيدة مشكوك فيها فقط للطباخ اللبناني، الذي قال إنه راقب المشهد من مسافة عشرات الأمتار، وسحب جزءاً من أقواله التي تدين المتهم، ولم يتذكر كل المجريات أمام المحكمة.
وفي إشارة إلى وجود نية لإدانة "علاء.س"، الذي يعمل حلاقاً، قبل إطلاق المحاكمة، نقلت كاتبة التعليق عن رئيسة بلدية المدينة باربارا لودفيغ قولها قبل بدء المحاكمة إن حكماً بالبراءة سيكون سيئاً على مدينة كيمنتز، ما يعني بحسب التعليق أن إدانته ستكون جيدة، وسترضي الشعب الهائج.
وبعد انتهاء المحاكمة وصدور الحكم طالبت رئيسة البلدية الجميع بتقبل الحكم.
وكتبت الصحفية لاكوتا، أنه وكأن ذلك لم يكن كافياً، لم يكن هناك أدلة أو شاهد واحد ضد "علاء.س"، لكن المحكمة أدانته بهذه التهمة أيضاً، التي ابتدعتها النيابة العامة.
وقالت إن هذا الشاب قد يخسر حريته لفترة طويلة، وسيبقى الانطباع بأن الحكم كان معلوماً منذ اليوم الأول للقضية، معتبرة اليوم بأنه "يوم أسود لدولة القانون" .
وذكرت أن القضاة يدعون أنهم لا يتأثرون بالظروف الخارجية، لكن هناك دراسات كافية تثبت العكس.
مراسلة محاكمات بارزة تخمن أن هناك أسباباً سياسية للإدانة
وعبَّرت غيزيلا فريدريشسين، أبرز مراسلة صحفية قضائية في ألمانيا، التي تابعت المحاكمة في كيمنتز أيضاً، عن شكوكها في المحاكمة، مرجعة العقوبة الكبيرة ضد "علاء.س" إلى أسباب سياسية.
وقالت لتلفزيون "إم دي إر" إنه كانت هناك خشية من أن يلعب الوضع السياسي دوراً في الحكم، وهذا الذي جرى، مبرّرة وجهة نظرها بأنه بالكاد كانت هناك أدلة. وأضافت: "عندما يستند حكم على شاهد وحيد فحسب، ولا تملك (المحكمة) شيئاً في اليد غير ذلك، سيتوجب على المرء السؤال ما الذي لعب دوراً أيضاً في ذلك" .
لم ير أحد العراك غيره ومن مسافة 60 متراً ليلاً
وذكرت فريدريشسين أنه لم يستطع شخص واحد مِن الذين كانوا عند ساحة الجريمة مباشرة تحديد هوية "علاء.س"، لكن شاهداً واحداً يزعم أنه رآه من مسافة 60 متراً (ليلاً)، ثم قال إنه رأى كيف تم الطعن مرة، وفي مرة أخرى كيف تم الضرب.
ورأت أن الشاهد -الذي يعد الشاهد الملك بالنسبة للحكم الصادر- مثير للشكوك. وأوضحت أن الأدلة المستندة إلى الشهود تعد أسوأ الأدلة بالنسبة للقضاء الجنائي.
"فضيحة".. أدلة تدين متهماً آخر
واعتبر دانيل دريبر، رئيس تحرير النسخة الألمانية من موقع "بزفيد"، أن هذا الحكم "فضيحة"، مؤيداً زميلته لاكوتا في شبيغل، في أن المحكمة والنيابة العامة خضعتا لضغوط اليمين المتطرف على الأرجح.
فيما كتب كيرستن أوغستين الصحفي في صحيفة "تاتز" اليسارية على تويتر: "إصدار الحكم على المتهم من دون أدلة، وفي ظل وجود أدلة "دي إن أيه" تدل على جانٍ آخر، وحكم مسبق من ساسة وموظفين ينتهكون القوانين: هذه المرة ليس مسلسل "عندما رأونا" على نتفلكس، بل دولة القانون الألمانية وفقاً لكيمنتز".
ويسرد مسلسل "عندما رأونا" قصة 5 فتيان تمت إدانتهم باغتصاب امرأة في حديقة سنترال بارك في نيويورك، ثم بُرِّئوا لاحقاً.
الضحية كان خصماً لليمين المتطرف، فلماذا تم إصدار الحكم قبل شهرين من الموعد المقرر؟
توقيت الحكم أيضاً يُعزز الشكوك بشأن مجريات المحاكمة.
وكان من المقرر بحسب المحكمة أن يتم التداول في القضية حتى نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول القادم، وفقاً لموقع تزايت.
وكتب الموقع أن انتهاء المحاكمة عفوياً قبل 4 أيام من مرور عام على تاريخ الجريمة، وأكثر من أسبوع قبل انتخابات ولاية ساكسونيا، يمكن أن يكون صدفة، ولكن ليس بالضرورة أن يكون صدفة، في إشارة إلى خشية المسؤولين من اندلاع احتجاجات يمينية متطرفة جديدة، في ذكرى مرور عام من الجريمة وفي توقيت حساس بالنسبة للولاية.
يُشار إلى أن الضحية دانييل، الذي يتباكى اليمينيون المتطرفون عليه كان مناهضاً لهم وهو حي، حيث يتم تداول صورة لمنشور له على فيسبوك يتأسف لكون الأرض ليست مسطحة فعلاً، لأنه لو كانت كذلك لكانوا تخلصوا من حزب "البديل لألمانيا" اليميني المتطرف، الذي يواصل توجهه نحو اليمين سياسياً.