المفاجأة التي فجَّرها الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير في أولى جلسات محاكمته تستحق التوقف عندها طويلاً؛ لأنها تكشف الكثيرَ عن "المانح"، وهو ولي عهد السعودية، والمتلقِّي على حدٍّ سواء، فما هي أغراض محمد بن سلمان من "منح" البشير 25 مليون دولار نقداً، وأين أنفق البشير تلك الأموال؟
بداية المحاكمة بقنبلة
كان البشير قد ظهر أمس الإثنين، 19 أغسطس/آب 2019، في أول محاكمة له، وكشف المتحرِّي في قضية اتّهام البشير بـ "الفساد والإثراء غير المشروع"، أنَّ الأخير أفصح عن مصدر جزءٍ كبيرٍ من الأموال التي عُثر عليها في منزله؛ حيث أقرَّ بتسلُّمه 90 مليون دولار من السعودية، ومليون دولار من الإمارات.
وكشف المتحري أنَّ "البشير أقرَّ بتسلُّمه 25 مليون دولار من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، و65 من الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز"، كما أقرَّ البشير أيضاً بتسلُّمه مليون دولار من الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات.
ولم يحدد المتحرّي فترة زمنية دقيقة لتسلُّم البشير للأموال المذكورة، مكتفياً بالإشارة إلى أن الأموال التي وُجدت بحوزة الرئيس المعزول هي ما تبقَّى من المبلغ الذي تسلَّمه من محمد بن سلمان، أي بقية الـ25 مليون دولار.
سر الاعتراف السريع
عادة ما تكون الجلسة الأولى في هذا النوع من المحاكمات إجرائية، حيث يتلو ممثل الادعاء التهم الموجَّهة للمتهم، الذي دائماً ما يكون رده بنفيها، ثم يُحدد القاضي باقي الإجراءات، ومن ثَم ترفع الجلسة، لكن جلسة محاكمة البشير الأولى شهدت تفجير قنبلة من العيار الثقيل.
اعتراف الرجل بتلقيه كل تلك المبالغ من السعودية والإمارات خارج أي شكل رسمي من أشكال تلقي الأموال، فلا هي قروض، ولا حتى مساعدات مالية، حيث توجد آليات لمثل تلك الحالات تتم من خلالها الأمور عبر القنوات المالية الرسمية، هذا الاعتراف يُثير مجموعة من التساؤلات، توحي بأن جلسات محاكمة البشير ربما تكون أكثر إثارة مما يتوقع الكثيرون.
أما لماذا اعترف البشير بتلك البساطة؟ فهناك عدة احتمالات، أولها أنه أراد تسليط الأضواء على محاكمته التي تزامنت مع عرس السودان الديمقراطي، بتوقيع إعلان المبادئ الدستورية بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، التي قادت المظاهرات ضده وأطاحت به بعد ثلاثة عقود كاملة من جلوسه على مقعد الرئاسة.
احتمال آخر، هو أن البشير أراد توريط السعودية والإمارات، أو بالأحرى ولي العهد هنا وهناك في محاكمته، ربما انتقاماً من عدم وقوفهما بجانبه ضدّ إرادة الشعب بصورة تضمن له البقاء، أو على الأقل الضغط من أجل إخراجه من السودان قبل أن يتعرَّض لمهانة السجن والمحاكمة.
هناك احتمال ثالث، وهو ربما رغبة البشير في أن يبدو متعاوناً مع المحقِّقين، خصوصاً أنَّ التُّهم الموجَّهة له مالية بالأساس، وبالتالي من خلال الكشف عن مصادر تلك الأموال المضبوطة في منزله، والتي لا توجد أوراق ثبوتية بها، وربما يتمكَّن محاموه من تفنيد تلك التهم، خصوصاً إذا كان مصدر الأموال دولتين معروفاً عنهما شراء الولاءات بالمال، مثل السعودية والإمارات.
ما هي دوافع محمد بن سلمان؟
بما أن الملايين الـ65 التي قال البشير إنه تلقَّاها من الملك عبدالله بن عبدالعزيز قد مرَّت عليها سنوات طويلة، ولا توجد بها أوراق، والبشير نفسه قال إنه لا يتذكر فيما أنفقها، نتوقَّف عند الـ25 مليوناً التي "منحها" له ولي العهد، والتي على الأرجح تمَّت خلال السنوات الأربع الأخيرة على أكثر تقدير، ولم ينفقها البشير جميعاً، حيث تبقَّت منها بضعة ملايين.
احتمالات دوافع محمد بن سلمان من وراء منح البشير تلك الملايين ليست كثيرة في الواقع، وعلى الأرجح مرتبطة بإرسال السودان قوات من عندها للمشاركة في التحالف السعودي الذي يحارب في اليمن، وما يغلب ذلك الاحتمال هو اعتراف البشير بأنه أعطى ما تبقَّى من تلك الأموال لشقيق نائب المجلس العسكري محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، التي كانت تُعرف بالجنجاويد، وتحارب في دارفور، والقوات التي تحارب في اليمن الآن تنتمي لتلك القوات.
المثير للاستغراب هنا، هو أنَّ تلك الأموال أياً كان الغرض منها، كان من الممكن تحويلها بالطرق الرسمية، تحت مسمَّى دعم السودان مثلاً، كما يحدث عادة، فلماذا تسليم النقود سائلة بتلك الطريقة؟ فمَن يدفعُها هو ولي عهد السعودية، أو حتى ولي ولي العهد، عندما منحها، والمتلقي هو رئيس السودان، فلماذا تلك الطريقة الأقرب لتجار المخدرات أو تجار العملة؟
تبرير يكذبه الواقع
عقب عزل البشير (75 عاماً)، في 11 أبريل/نيسان الماضي، نتيجة لأربعة أشهر من الاحتجاجات الشعبية، أعلن رئيس المجلس العسكري الانتقالي، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، العثور على ما قيمته 113 مليون دولار من الأوراق النقدية، بثلاث عملات مختلفة، في مقرِّ إقامة البشير بالخرطوم.
في تبريره لوجود تلك المبالغ الطائلة سائلة في مقرِّ إقامته دون وجود ما يُثبت مصدرها أو أوجه إنفاقها، قال البشير إنه لا يتذكَّر أين تم إنفاق الملايين الماضية، مضيفاً أنَّها تم إنفاقها في أعمال خيرية.
هذا التبرير، ووجود أكثر من 100 مليون دولار سائلة في مقرِّ إقامة الرجل أمر عصيٌّ على الفهم، لو أخذنا في الاعتبار السبب الرئيسي لاندلاع الاحتجاجات ضد نظامه، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهي الأزمات المعيشية الطاحنة التي كان يعاني منها غالبية السودانيين.
لماذا لم يتم إنفاق تلك الأموال في توفير السلع الضرورية بأسعار مناسبة لعامة الشعب، وساعتها ربما لم تكن الأمور وصلت إلى ما وصلت إليه؟ هذا يعني أن هناك أموراً أخرى وراء تلك الأموال، على الأرجح ستكشف عنها الأيام القادمة، على مدار جلسات محاكمة لن تخلو من كشف المزيد من الأسرار.