على مدار عقود، وفرت الغواصات النووية قدرات الردع النووي عبر الصواريخ الباليستية النووية، إذ صممت لرفع الصواريخ من أسفل الأمواج إلى الفضاء قبل إطلاق العديد من الرؤوس النووية التي تمطر نيراناً على المدن والقواعد البحرية أسفل منها. بإمكان الغواصات النووية أن تظل مغمورة تحت المياه دون أن تتعرض للاكتشاف بفضل مفاعلاتها النووية، لذا من غير المُرجّح أن تتعرض للضرب قبل إصدار أوامر الإطلاق.
ومع ذلك، في الوقت الذي تخطط فيه روسيا لاستبدال ثمانية زوارق من طراز Borei فائقة الهدوء بغواصاتها النووية القديمة، تشرع أيضاً في توجه جذري جديد من خلال طلب أربعة غواصات نووية من طراز Khabarovsk تحمل قذائف توربيد غير مأهولة، كما تقول مجلة The National Interest الأمريكية.
غواصات نووية ذات مهمّات أشبه بالخياليّة
على مر السنوات، كانت حاملة التوربيدات غير المأهولة "Poseidon"، والمعروفة أيضاً بالاسم الحركي Status-6 لدى روسيا والاسم Kanyon لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مثاراً للشائعات والتكهنات، وبدت خيالية جداً وأروع من أن تكون حقيقية. ولكن في عام 2016 أكّدت تقارير وزارة الدفاع الأمريكية وجود التوربيدات، وفي مارس/آذار 2018، عرض بوتين فيديو محاكاة ثلاثية الأبعاد يُظهر هجوم "Poseidon" على مدينة وحاملة طائرات. ولاحقاً، ظهرت لقطات واقعية لعملية إطلاق Poseidon.
لا توجد أي مصادر غربية وثّقت وجمعت صوراً لـ Poseidon أفضل من المحلل البحري "إتش آيس اتون"، حيث ذكرت أبحاثه مفتوحة المصدر على مر السنوات معلومات مفيدة عن هذه القطعة.
حتى الآن، يبدو أن هناك غواصتين صُممتا خصيصاً لإطلاق Poseidon، بدءاً من Sarov، الغواصة التجريبية التي تعمل بالديزل والكهرباء مع مفاعل نووي صغير مخصص لشحن البطاريات.
ثم في أبريل/نيسان 2019 أطلقت روسيا مشروع 9852 Belgorod، غواصة "مشروعات خاصة" متعددة الاستخدامات بشكل كبير، وتصميمها مقتبس عن هيكل غواصة صواريخ كروز غير المكتملة من طراز Oscar-II. وتعد Belgorod غواصة ضخمة فريدة من نوعها يمكنها إطلاق غواصات Klavesin-2R غير المأهولة تحت المياه، وغواصات Losharik المأهولة الصغيرة التي يمكنها الوصول إلى أسلاك الاتصالات تحت المياه أو تنفيذ مهمات التجسس، ولديها ستة أنابيب عملاقة لإطلاق توربيدات Poseidon.
ومع ذلك، أعلنت روسيا عن خططها للتسلّح بعدد 32 توربيد Poseidon، ولكن الغواصة Belgorod متعددة الاستخدامات غير مناسبة لهذا الانتشار الشامل. وهنا يأتي دور الغواصة Khabarovsk الموجودة منذ عام 2014.
الغواصة Khabarovsk
كشفت نشرة دعائية روسية عن الغواصة Khabarovsk البالغ وزنها 10,000 طن، والتي تحاكي الغواصات النووية الكبيرة من الطراز Borei، مع تقليص طولها من 170 متراً إلى 120 متراً تقريباً، ولكنها تظل تتميز بنظام دفع نفّاث هادئ للغاية، ويمكنها حمل ستة أو حتى ثمانية توربيدات Poseidon بدلاً من الصواريخ الباليستية، وفقاعتين كبيرتين قد تكونان هياكل ضغط منفصلة، وربما تستوعبان طوربيدات عادية ثقيلة للمهام الدفاعية.
ومن المقرر إدخال أربع غواصات Khabarovsk إلى الخدمة في أسطول روسيا الشمالي (المحيط الأطلسي) وأسطول المحيط الهادي. ولكن مايكل كوفمان، الخبير العسكري الروسي في مركز التحليل البحري، كتب في مدونته إن جغرافيا المحيط تجعل ضرب أهداف على الساحل الغربي للولايات المتحدة أكثر قابلية للتطبيق، كيف ذلك؟
ذكرت المدن الساحلية على المحيط الهادي (لأن) من غير المنطقي أن يأتي سلاح الغوص العميق من روسيا عبر "فجوة جيوك" في المحيط الأطلسي"، بسبب الأعماق ونقاط الاختناق الجغرافية في تلك المنطقة. بينما المحيط الهادي في المقابل يفسح المجال أمام أسلحة الغوص العميق الآلية في حال استخدمها لتحقيق ضربات ومن ثمّ تركها.
طوربيدات Poseidons.. الأكبر في العالم
وقد يكون مشروع 9853 الغامض، الخليفة المحتمل لغواصات Khabarovsk، مصمماً أيضاً لحمل طوربيدات Poseidons.
طوربيد Poseidon هو أكبر طوربيد صُنّع حتى الآن، يبلغ طوله حوالي 24 متراً وقطره 1.6 متراً. وباستخدام مفاعل نووي صغير لتشغيل نظام مضخة الدفع النفاثة، يصبح بإمكان طوربيد Poseidon اجتياز آلاف الأميال عبر المحيطات، تجاوز العقبات بشكل مستقل وآلي والتهرّب من آليات الاعتراض. ووفقاً لتقديرات الاستخبارات الأمريكية، سوف تكتمل اختبارات طوربيد Poseidon بحلول عام 2025، ويدخل نطاق الخدمة التشغيلية بحلول عام 2027.
ولكن تظل علامات الاستفهام الكبيرة على قدرات Poseidon الفعلية والأغراض الحقيقية وراء تشغيلها. وتشير مزاعم إلى قدرة Poseidon على الوصول إلى سرعات عالية تصل إلى 100 عقدة، والتسلل الصوتي، والغوص إلى عمق يصل إلى 1,000 متر.
وبين تلك الادعاءات، يعتبر عمق التشغيل المنخفض لـ Poseidon هو الأكثر قابلية للتصديق. وهذا، في حد ذاته، سوف يجعل اعتراضه في غاية الصعوبة بالنسبة لأي تقنية متوفرة حالياً. وعند المقارنة، نجد إن غواصات الهجوم الأمريكية (رسمياً) تعمل على عمق 240 متراً وتصل سرعتها إلى 30 عقدة. وبإمكان التوربيدات من طراز Mark 48 التسارع إلى 55 عقدة، كما لا يصل عمقها إلى أكثر من 800 متر.
تقول مجلة The National Interest الأمريكية، إن المزاعم المتعلقة بالسرعة تبدو مشكوك فيها. الوصول إلى سرعة 100 عقدة يتطلب "دفع فائق التكهف" (بخاري) مثل المستخدم في توربيد Shkval الروسي أو توربيد Hoot الإيراني، إذ تُستخدم الحرارة لتوليد فقاقيع الهواء حول التروبيد بحيث ينطلق مسرعاً للأمام بدون أي سحب ناتج عن المياه. ومع ذلك، أشار سوتون إلى أن مضخة Poseidon النفاثة غير متوافقة مع تلك المتطلبات، كما لا تمتلك زعانف التوجيه الكبيرة اللازمة لاختراق الفقاعة من أجل المناورات.
ويعتقد المحللين الغربيين ووسائل الإعلام الروسية الآن أن السرعة الأكثر قابلية للتصديق تتراوح بين 56 و70 عقدة.
كما لا يتوفق التسلل الصوتي كثيراً مع السرعة التي يسير بها داخل المحيط والتي تفوق ميل في الدقيقة. أحد الاحتمالات أن Poseidon مصمم للسير ببطء وتسلل، ثم يتسارع إلى سرعات عالية خلال المرحلة الأخيرة عند اقترابه من أهدافه. ولكن على أي حال، سوف تجعل السباحة على عمق كيلومتر كامل بسرعة 50-70 عقدة عملية الاعتراض في غاية الصعوبة باستخدام الأنظمة المتاحة حالياً لدى حلف الناتو، لذا، التسلل الصوتي قد لا يكون الأولوية الأهم عند التصميم.
طوربيد قادر على تدمير مدن كاملة.. بموجات التسونامي
كما أشارت مزاعم في البداية إلى إمكانية حمل طوربيد Poseidon لرأس حربي ضخم يبلغ وزنه 100 ميغاطن، أو قنبلة من كلوريد الكوبالت الثنائي مصممة للقضاء على مدن كاملة من خلال موجة تسونامي ذات نشاط إشعاعي. ولكن تراجعت وسائل الإعلام الروسية بعد ذلك واعترفت بأن الحمولة تبلغ 2 ميغاطن فقط وتستخدم آليات قتالية تقليدية تماماً.
والسؤال الآخر: ما مدى آلية واستقلالية Poseidon؟ مصطلح "غير مأهول" يقتضي وجود آليات توجيه عن بعد، والتي عادة ما تكون مرغوب بها في أنظمة الأسلحة الإستراتيجية. ولكن يظل من الصعب أن يتمكن طوربيد يسبح في قاع البحار من المحافظة على اتصالاته قائمة بقواعد التحكم الخارجية، لذا من المرجح أن يكون مجهّزاً بدرجة أعلى من الاستقلالية والتحكم الذاتي.
ما هو الغرض من طوربيد Poseidon؟
ما الذي تفعله قذائف الطوربيد غير المأهولة من طراز Khabarovsk لصالح روسيا ولا يمكن أن تفعله الغواصات النووية على نحو أفضل؟ فبعد كل شيء، بإمكان الصواريخ الباليستية ضرب الولايات المتحدة خلال نصف ساعة بينما قد تحتاج الطوربيدات غير المأهولة إلى أيام للوصول إلى أهدافها عبر المحيط.
وفي رسالة إلكترونية عام 2018، كتب كوفمان يقول إن Poseidon كانت بمثابة سلاح انتقامي لأغراض "الضربة الثالثة"، يضمن إبادة المدن الساحلية للخصم، حتى لو أبيدت القوات النووية الروسية في الضربة الأولى.
قد تعتبر موسكو Poseidon خط دفاعي في مواجهة الصواريخ الباليستية الأمريكية. ويمكن بالحسابات البسيطة التوصل إلى أن أنظمة الدفاع الأرضية لاعتراض الصواريخ الباليستية التي نشرتها الولايات المتحدة لا يمكنها إيقاف مخزون روسيا البالغ 1,500 صاروخ نووي، ولكن كوفان يقول إن روسيا ربما تخشى من دقة الضربة الأمريكية الأولى وقدرتها على تدمير ما يكفي من الأسلحة النووية الروسية بحيث يمكن "التصدي" لما يتبقى منها باستخدام الأسلحة العادية المضادة للصواريخ الباليستية.
يتطلب الدفاع ضد Poseidon أنظمة باهظة التكلفة، تتضمن التوسع لمراقبة قاع البحار وأسلحة جديدة مضادة للغواصات يمكنها اعتراض الأهداف العميقة والسريعة. وذكر منشور سوتون عدد من التقنيات المضادة المحتملة، وتتضمن توربيدات مضادة للتوربيدات خفيفة الوزن؛ وشبكات سونار بحرية أكثر كثافة، وأجهزة سونار تسقطها الطائرات متصلة بالأسلاك أو عبر شبكات لاسلكية، وصواريخ أسرع من الصوت تستخدم لنشر آليات اعتراض التوربيدات بسرعة.
أسلحة نووية تكتيكية غير مسبوقة
ولكن إذا كان Poseidon له حقاً نطاق غير محدود، لماذا يحتاج إلى غواصات باهظة التكلفة لإطلاقه في البحر بدلاً من رصيف أو منصة إطلاق ساحلية؟ في الواقع، هناك إصدار "محوّر" من Poseidon مصمم للتركيب والإطلاق من قاع البحر.
وركّز عرض بوتين على إمكانية استخدام Poseidon من الناحية التكتيكية للقضاء على حاملة طائرات. إلا أن حاملات الطائرات تتحرك بسرعة 30 عقدة ولديها دفاعات قوية ومكثفة مضادة للغواصات، على عكس المدن الساحلية. وتعتبر الإشارة إلى أهداف متحركة للصواريخ، مثل الصواريخ الصينية من طراز DF-21D التي يمكنها الانتقال بسرعات أعلى من سرعة الصوت، مهمة في غاية الصعوبة. ولكن الأصعب بفارق كبير، محاولة تنفيذ نفس العملية باستخدام غواصة تحت المياه تسير بسرعة 50-100 عقدة، بخطوط اتصال أضعف.
ولكن يظل بإمكان قذائف التوربيد غير مأهولة تخفيف وطأة الاشتباكات عن طريق إطلاق Poseidon نحو أقرب حاملة طائرات. ويُعتقد أن Poseidon يمتلك سونار نشط في مقدمته، يمكن استخدامه لتخطيط قاع المحيط للتنقل بسهولة، ولكنه قد يكون مفيداً أيضاً في الاشتباكات.
بالرغم من صعوبة تنفيذ استخدامات Poseidon التكتيكية، فإنها تشير إلى مشكلات مقلقة حول إمكانية تصعيد روسيا واستخدامها لأسلحة نووية تكتيكية دون أن تدرك إنها تحفّز بذلك تبادلاً نووياً إستراتيجياً على نطاق أوسع.
تقول المجلة الأمريكية، إن "طوربيد Poseidon لن يغير من موازين القوى الأساسية، ولا يمتلك التأثير المدمر والمروّع للحروب النووية، ولكنه يُظهر ميل الإنسانية للاستمرار في الابتكار والإبداع لتطوير أسلحة جديدة للدمار الشامل زائدة عن الحاجة" .