أكمل فلاديمير بوتين، رجل روسيا القوي، عقدين كاملين في قيادته للقطب الثاني في العالم أثناء الحرب الباردة، ورغم أنه سيظل رئيساً بحكم الدستور حتى عام 2024، إلا أنَّ شخصية الرجل وتاريخه لا يوحيان أبداً أنه سيقبل أن يُطلق عليه لقب الرئيس السابق، فما هي القصة؟
شبكة سي إن إن الأمريكية رصدت مسيرة بوتين في تقرير لها، بمناسبة مرور 20 عاماً على وجوده على رأس السلطة في الكرملين، بعنوان: "سيطر فلاديمير بوتين على أمور الحكم في روسيا لمدة 20 عاماً، فهل سيتنحَّى عنها يوماً؟"
اليوم الذي غيَّر تاريخ روسيا
تغيّر التاريخ الروسي إلى الأبد منذ يوم 9 أغسطس/آب 1999، عندما عين بوريس يلتسين رئيس روسيا آنذاك فلاديمير بوتين، رئيس المخابرات الداخلية السابق، في منصب القائم بأعمال رئيس الوزراء.
كان على ما يبدو تكليفاً قصير الأمد؛ إذ لم يمكث سلف بوتين سوى بضعة أشهر في هذا المنصب، وقد غيّر يلتسين ثلاثة رؤساء لديوان وزارته واحداً تلو الآخر، بعد الانهيار المالي في أغسطس/آب 1998.
لم يكن لدى بوتين وقتها شيء من تلك الهالة التي يتمتّع بها زعماء العالم. فقبل انضمامه إلى إدارة الرئيس يلتسين، كان لديه تاريخ مهني، كله خلف الكواليس، بوصفه مستشاراً لأناتولي سوبتشاك، عمدة مدينة سان بطرسبرغ. وانتقل بعد ذلك إلى موسكو للعمل في قسم إدارة ممتلكات هيئة الرئاسة، وهي نقطة انطلاق نحو مكتب الرئاسة لم تكن في الحسبان.
ولكن في غضون أقلّ من ستة أشهر من توليه منصب رئيس الوزراء، سلم يلتسين رئاسة الدولة إلى بوتين، على نحو غير متوقع في 1999، عشية ليلة رأس السنة، وهذه المفاجأة التاريخية أطلقت العنان لبداية صعود نجم بوتين ليصبح زعيم روسيا بلا منازع.
صعود صاروخي في زمن قياسي
لا يوجد دليل أصدق من الأرقام. ففي أغسطس/آب عام 1999، عندما صار رئيساً للوزراء، أظهر مركز ليفادا استطلاعاً مستقلاً للرأي، يفيد بأن نسبة قبول بوتين تصل إلى 31%.
وبحلول شهر يناير/كانون الثاني من عام 2000، بعد توليه منصب الرئاسة، ارتفعت هذه النسبة لتصبح 84%. بحسب مركز ليفادا، لم تنخفض هذه النسبة أبداً إلى أقل من 60% منذ ذلك الحين.
فما هو سبب ارتفاع شعبية بوتين في الأشهر الأولى الحاسمة؟
كان هناك عامل واضح متمثل في ردّ فعل بوتين القوي على الإرهاب الداخلي. في سبتمبر/أيلول من عام 1999، أسفرت سلسلة من التفجيرات الغامضة داخل عدد من الوحدات السكنية عن مقتل مئات الأشخاص في عدة مدن في جميع أنحاء روسيا، وأصابت تلك الأحداث البلاد بحالة من الشلل نتيجة للخوف.
كانت لحظة صعبة على الروس، على غرار أحداث 11 سبتمبر/أيلول بالنسبة للأمريكيين، وتشبه كثيراً ما فعله الرئيس جورج دبليو بوش، الذي وعد بالانتقام من تنظيم القاعدة في خطابه الذي وجَّهه إلى رجال الإنقاذ عبر مكبر الصوت في منطقة "جراوند زيرو" بنيويورك، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. فقد ألقى بوتين هذا النوع من الخطابات النارية التي أراد الكثير من الروس سماعها.
تعهَّد بوتين قائلاً: "سنلاحق الإرهابيين في كل مكان"، فيما قصفت القوات الروسية عاصمة جمهورية الشيشان الانفصالية. وقال: "إذا كانوا في المطار، ففي المطار. هذا يعني -عفواً للألفاظ التي أقولها- أنهم إذا كانوا في قلب المراحيض فسندفعهم بها خارجاً إلى المجاري" .
نظرية الخوف حرفياً
وخلص المحققون الروس إلى أنَّ المعلومات التي توفَّرت لهم تفيد بأنَّ الهجمات ارتكبها متطرفون إسلاميون، لكنَّ خصوم بوتين، وأشهرهم رجل الأعمال المنفي بوريس بيريزوفسكي، والجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو، واصلوا الترويج لنظرية المؤامرة المظلمة، التي تشير إلى أنَّ أجهزة الأمن الروسية كان لها يد في تنفيذ تلك التفجيرات، بغرض إثارة الوضع العام، من أجل تنفيذ عمل عسكري ضد الشيشان.
عُثر على بيريزوفسكي ميتاً داخل قصره في المملكة المتحدة في عام 2013، فيما بدا أنه انتحار. وتوفي ليتفينينكو بعد تسمّمه بمادة البولونيوم 210 في العاصمة لندن، وهي جريمة قتل، استنتجت تحقيقات رجال الأمن في بريطانيا أنَّها على الأرجح بتكليف من بوتين.
وبغضِّ النظر عن مرتكب الجريمة، مثلت التفجيرات نقطة تحول في مسيرة بوتين: فجعلت الأمة تقف خلفه، وحشدت الدعم الشعبي لحكمه.
وبنفس القدر من الأهمية، صورَّت القوى داخل الكرملين بوتين على أنه قائد مغوار، ثم تعرَّض الروس في عام 1999 لصدمة رهيبة، بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي والتحول إلى الاقتصاد الحُر. وقُدِّم حسم بوتين على أنه النقيض من حكم يلتسين المضطرب.
وبعد مدة وجيزة من توليه منصب الرئاسة، سافر بوتين إلى مدينة غروزني، عاصمة الشيشان، على متن طائرة مقاتلة من نوع سو-27، وأشارت نشرة أخبار الكرملين في ذلك الوقت إلى أنه قاد الطائرة بنفسه في مرحلة ما من الرحلة.
عملت آلة صنع الأساطير بلا كلل خلال العقدين القادمين، لتحسين صورة بوتين بوصفه رجل أفعال لا أقوال.
وصارت الحملة العسكرية عام 1999 في الشيشان نموذجاً يظهر أسلوب بوتين في الحرب؛ إذ سوّت القوات الروسية مباني العاصمة غروزني بالأرض، وتبدو صور المدينة المدمرة شبيهة إلى حدٍّ كبير بالمدن السورية المحاصرة مثل حلب، التي تعرَّضت لقصف مكثف من قبل الطائرات الحربية الروسية، بعد أن تدخل بوتين عسكرياً هناك عام 2015.
مساعدة تاريخية
وجدت حرب بوتين على الإرهاب -على الأقل في البداية- أرضاً مشتركة مع الغرب في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، كان بوتين أول من اتَّصل ببوش من زعماء العالم. ووافقت الحكومة الروسية على الوجود العسكري الأمريكي في آسيا الوسطى لدعم غزو أفغانستان؛ وسمحت بعد ذلك للقوات والمعدات الأمريكية المتَّجهة إلى أفغانستان بعبور المجال الجوي الروسي، وهو ما لم يكن متصوراً إبان عهد الحرب الباردة.
كان قائد الكرملين متخوفاً رغم ذلك من نوايا الولايات المتحدة الأمريكية، إذ انتقد توسع حلف الناتو، وعارض خطط الولايات المتحدة لتطوير منظومة الدفاع الصاروخية للصواريخ الباليستية، واستولى على شبه جزيرة القرم في عام 2014، فيما صار معلماً لعلاقات روسيا مع العالم.
كان لضمّ القرم تكلفته: إذ تعرَّضت روسيا للعقوبات الاقتصادية من جانب الولايات المتحدة وحلفائها. وأثرت هذه العقوبات على الوضع المالي للروس العاديين، لكنها لم تقلل من مكانة بوتين. تمسّك بوتين أيضاً بسياسة الانضباط المالي الصارم: في وقت سابق من هذا الصيف، أكد البنك المركزي الروسي أن احتياطيات العملات الأجنبية تجاوزت 500 مليار دولار.
على عكس الوضع عام 1999، أصبحت قبضة الكرملين على وسائل الإعلام الروسية أكثر تشدداً اليوم. إذ إنَّ اتخاذ إجراءات صارمة ضد حريات الصحافة خلال ولاية بوتين يعني وجود تغطية ناقدة محدودة للغاية لسياساته، أو على الأقل محلياً.
سيطرة صارمة
لم تفعل وسائل الإعلام الحكومية الروسية شيئاً يُذكر للاحتفال بذكرى مرور عقدين على حكم بوتين. ولكن بعد 20 عاماً في منصبه، بدأت بعض الشقوق تظهر في صورة القائد المغوار، فعلى الرغم من أن بوتين لا يزال يتمتع بنسب قبول عالية، لا تقترب هذه النسب بأي حال من المستوى الذي شوهد بعد أن أثيرت موجة من المشاعر الوطنية، في أعقاب ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود من حوزة أوكرانيا في عام 2014.
في الأسابيع الأخيرة، شكَّلت موجة جديدة من المظاهرات في الشوارع بشأن الانتخابات البلدية تحدياً جديداً للكرملين. وبينما لا تشكل الاحتجاجات أي تهديد مباشر لاحتكار بوتين للسلطة، غير أن المعارضة الروسية الصغيرة والمشتتة استخدمت مسيراتها للتعبير عن الاستياء من رئيس طال بقاؤه في منصبه، بحسب ما يرون، فضلاً عن الاستياء من النخبة الحاكمة التي استنفدت أفكارها المبتكرة على ما يبدو.
لا يوجد حتى شبح خليفة
وأول ما يطرأ على أذهان الطبقة السياسية في روسيا هو حقيقة أنه لم يظهر بعد خليفة واضح لبوتين. بموجب القانون، يجب على بوتين التنحي بعد انتهاء ولايته القادمة في عام 2024. لكن العديد من المراقبين يتوقعون أن يبتكر بوتين طريقة لإبقاء نفسه في منصبه، على غرار الرئيس الصيني شي جين بينغ، أو مثلما فعل نورسلطان نزارباييف، الرئيس السابق لكازاخستان، الذي تنحى رسمياً، ولكنه لا يزال يحمل مقاليد السلطة الرسمية.
في مهرجان غير مرخص لفنّ الشارع أقيم في مدينة يكاترينبورغ في وقت سابق من هذا العام، رسم فنان شارع يدعى فيليب كوزلوف، المعروف على مواقع التواصل الاجتماعي باسم فيليبينزو، لوحة غرافيتي لمجموعة من راقصات الباليه يرقصن باليه بحيرة البجع، وهي إشارة إلى عرض الباليه الشائع الذي أُذيع خلال الانقلاب على الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، في أغسطس/آب عام 1991.
وفي إشارة واضحة إلى حكم بوتين الذي استمرّ عقدين، رافق لوحة الغرافيتي تعليق محرض على التمرد يقول: "منذ عشرين سنة طويلة، ونحن في انتظار الباليه بكل أمل" .