"دولة عربية مهددة بالاختفاء" ، لا يمكن وصف التطورات في اليمن إلا بهذه الكلمات، والأسوأ أن تداعيات سيطرة الانفصاليين الجنوبيين على عدن لن تهدد وحدة البلاد فقط، بل قد تؤدي إلى تطورات تؤثر على العالم العربي برمته.
واكتفت السعودية بالتفرج على مشهد القتال في عدن خلال تلك الأيام الأربعة الحاسمة، وبعد أن أكملت قوات المجلس الانتقالي سيطرتها على أهم المرافق الحيوية بالعاصمة اليمنية المؤقتة بما فيها قصر معاشيق الرئاسي في عدن، تدخلت لتدعو أطراف القتال إلى الحوار وتعلن وقفاً للنار وتهدد المخالفين.
فاض الكيل ببعض حلفاء السعودية في اليمن مثل عبد العزيز جباري نائب رئيس البرلمان ليتهمها والإمارات "بذبح الشرعية من الوريد إلى الوريد" وليؤكد أن الحوثي "لم يفعل بالشرعية مثلما فعلتم" .
والتقى العاهل السعودي سلمان بن عبدالعزيز، الأحد 11 أغسطس/آب 2019، الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي ونائبه علي محسن الأحمر، ورئيس الحكومة اليمنية معين عبدالملك، غداة سيطرة القوات الموالية للإمارات على مدينة عدن، العاصمة اليمنية المؤقتة، جنوبي البلاد.
فمن هو المتسبب في انحدار اليمن لهذه الأزمة التي خلقت به أكبر كارثة إنسانية في العالم، وهل يستمر اليمن كدولة موحدة، وما هي طبيعة العلاقة الغامضة بين الإمارات والانفصاليين والحوثيين ولماذا تبدو أجنداتهم متقاربة جداً؟
اليمن في يد الخليج، والحوثيون خدعوا الجميع
ترك العالم الملف اليمني منذ البداية في يد دول الخليج، والتي حاولت حل الأزمة في البداية عبر المبادرة الخليجية عندما كان الشعب يريد تحقيق إصلاحات ديمقراطية وإقالة الرئيس علي عبدالله صالح.
ولكنَّ الحوثيين سرعان ما استغلوا الفراغ الذي خلَّفته التظاهرات ضد صالح للاستيلاء على السلطة.
لم يلعب الحوثيون دوراً كبيراً في الثورة السلمية التي حماها بشكل أساسي حزب الإصلاح اليمني.
أما الحوثيون فقد ارتدوا عباءة التظاهرات والاضطرابات الفئوية الرافضة لرفع الأسعار ليقتحموا العاصمة صنعاء ويستولوا على السلطة متحالفين مع صالح في وقت كان فيه اليمنيون قد تخلصوا للتو منه ويأملون في التحول لحكم ديمقراطي.
أما دول الخليج فكانت دوماً بين نارين في اليمن
فمن ناحية كان السعوديون ومعهم بقية دول الخليج يخشون هيمنة النفوذ الحوثي الموالي لإيران، ومن ناحية أخرى فإنهم يناصبون أكبر الأحزاب اليمنية وهو حزب الإصلاح العداء بسبب توجهاته الإسلامية المعتدلة، ولأنه يضم في صفوفه أعضاء جماعة الإخوان المسلمين.
وفي مواجهة التعصب الطائفي الحوثي لم يكن هناك من هو قادر على لمّ شمل سُنة اليمن بقدر الإصلاح الذي كان الحزب الإسلامي الأقوى في اليمن.
فلجأوا لأسوأ الحلفاء
ولكن أجندة السعودية والإمارات المعادية للإخوان منذ اندلاع الربيع العربي أضعفت هذا الحزب، ولجأ التحالف وخاصة الإمارات للبحث عن أصدقاء آخرين، من بينهم جماعات سلفية متشددة والأسوأ جماعات الانفصاليين الجنوبيين الذين أصبحوا أصدقاء الإماراتيين المفضلين.
ودربت أبوظبي نحو 90 ألفاً من الانفصاليين الجنوبيين والذين تحركوا لإسقاط الحكومة الشرعية في عدن بعد انسحاب أبوظبي، ليضيفوا فصلاً مأساوياً جديداً يعقد أزمة اليمن.
وتقول الباحثة إليزابيث كيندال، من جامعة أوكسفورد لرويترز، إنَّ "الاستعانة بجماعات مسلحة انفصالية من أنحاء الجنوب… كانت دوماً ضرباً من اللعب بالنار. من المثير للدهشة أن تقول الإمارات إن مبعوث الأمم المتحدة الخاص هو الذي يتعين عليه حل المشكلة" .
ولا يعرف الآن هل تحرُّك الانفصاليين تمَّ بأوامر إماراتية أم أن الإمارات غير موافقة على تصرفاتهم.
ولكن التركيبة الأيديولوجية للانفصاليين الجنوبيين تجعل من المحتم أن يحاولوا الانفصال سواء بموافقة الإمارات أو دون رضاها سواء عاجلاً أو آجلاً.
فقد راهنت الإمارات منذ البداية على أخطر عنصر على وحدة اليمن وسلَّحت ميليشيات الانفصاليين ودربتها بشكل جعلها أقوى قوة في الجنوب، وذلك من أجل تأمين مصالحها ولتنفيذ خططها لإنشاء إمبراطورية بحرية، دون أن تكترث كثيراً بوحدة اليمن أو هيمنة الأقلية الحوثية على الأغلبية السنية أو خطر تمددهم نحو باقي الجزيرة العربية.
ولم تكترث الإمارات أيضاً إلى أن جهودها المضنية للقضاء على التيار الإسلامي المعتدل في اليمن والتي تتكامل مع جهود الحوثيين مع الإهانة التي تعرض لها السُّنة في اليمن، وتشجيع الجماعات السلفية المتتشدة هي الوصفة المثالية لخروج تنظيمات مثل داعش.
وهذا ما حدث في العراق وأخرج للعالم الإسلامي بل العالم كله "داعش" أسوأ تنظيم متطرف منذ أيام الحشاشين.
ولا يمكن فصل ما يحدث في اليمن حالياً عن الغزل الإماراتي المستتر لإيران والذي أعقب إعادة أبوظبي لنشر قواتها في اليمن، وإرسال وفد إماراتي لإيران للتفاوض حول قضايا خفر السواحل.
وبعد أن وجهت الإمارات السياسة السعودية في اليمن لسنوات وضغطت عليها لاستبعاد القوة السنية الأكبر على الأرض وهي حزب الإصلاح، فإنها الآن تنأى بنفسها عن السعودية بعدما تفسخت وحدة اليمن، وأصبحت البلاد بين الحوثيين الذي لا يهتمون كثيراً بالجنوب، وبين الانفصاليين الجنوبيين الذين لا يأبهون كثيراً باستعادة صنعاء التي يعتبرونها عاصمة استعمارية للجنوب.
وبصرف النظر عن الإعلانات التي صدرت من بعض الانفصاليين الجنوبيين بأنهم ملتزمون بالتحالف، فالواقع أنهم غير قادرين ولا يريدون أن يحاربوا في جبال الشمال الوعرة لحماية وحدة البلاد.
يبدو الإماراتيون والانفصاليون والحوثيون هم حلفاء الضرورة، الإماراتيون يريدون من اليمن نفوذاً على طول ساحل خليج عدن والمحيط الهندي وتصفية الإسلاميين المعتدلين، والجنوبيون يريدون الانفصال بشكل وبآخر ولا يهمهم الشمال ويريدون القضاء على الإسلاميين المعتدلين لأنهم الضامن لوحدة البلاد التي يريدون تفكيكها، والحوثيون فالجنوب ليس في أولويتهم ويهدفون لتصفية الإصلاح؛ لأنه أكبر قوة سُنية مناوئة لهم.
وهكذا تركت الإمارات السعودية في الوحل اليمني.. الرياض لن تستطيع الخروج حتى لو أرادت
أما السعوديون فيبدون في مأزق حقيقي لأسباب عدة.
العداء الحوثي للسعوديين هو عداء عميق، عداء أيديولوجي نابع من مواقف سلبية موجودة عامة بين الشيعة والوهابية وخاصة بين السعوديين والحوثيين يتداخل فيها المذهبي مع الصراعات المناطقية وإحساس كثير من اليمنيين وبالأخص الزيديين بأن الرياض كانت تتلاعب بمصير بلادهم لعقود بل إنها استقطعت أجزاء من بلادهم.
يريد السعوديون الخروج باتفاق يحفظ ماء وجهم ويضمن لحلفائهم حصة من الحكم، وتأمين حدودهم، ولكن من الواضح تماماً أن الحوثيين رغم انخراطهم أحياناً في عملية التسوية التي تقودها الأمم المتحدة لا يريدون إعطاء الأطراف الأخرى أي شيء.
السيطرة الشيعية في اليمن ستختلف عن نموذجَي العراق ولبنان
يختلف النموذج المستقبلي الذي يخطط له الحوثيون في اليمن عن حالتَي العراق ولبنان.
ففي الحالتين السابقتين يسيطر الشيعة على مفاصل الدولة وخاصة الأمنية والعسكرية، لكن مع توزيع بعض المناصب للسُّنة والأقليات الأخرى، مع تحمُّل المجتمع الدولي عبء الاقتصاد في حالة لبنان، أو الاعتماد على النفط في حالة العراق.
يقوم الوضع في العراق ولبنان على أن الكعكة تسع الجميع مع نصيب أكبر للشيعة، وبدا واضحاً من تصرفات إيران خلال أزمة كركوك ودور قاسم سليماني في عملية نزع الجيش العراقي والحشد الشعبي للسيطرة عليها من الأكراد، أن طهران نفسها هي عراب الوضع في العراق ولبنان الذي يعتمد على هيمنة الشيعة دون إقصاء كامل للآخرين.
فبعد طرد الجيش العراقي والحشد الشعبي للقوات الكردية من المدينة لم تحاول الحكومة العراقية ولا الإيرانيون المبالغة في الحصول على مكاسب أو القضاء على الحكم الذاتي لإقليم كردستان.
في حالة الحوثيين الأمر مختلف، لا يبدو الحوثيون بجرائمهم ضد خصومهم وسلوكياتهم العسكرية والسياسية حريصين على الحفاظ على شعرة معاوية مع أي طرف.
ومنذ كان الحوثيون جماعة صغيرة، لم يتوقفوا عند أي حدود، وكل اتفاق بالنسبة لهم مجرد مرحلة للإعداد لمزيد من التوسع.
الحوثيون قد لا يوقفون القتال حتى لو انسحبت السعودية
الأسوأ أن الحوثيين إذا نالوا انسحاباً سعودياً أو وقفاً لإطلاق النار قد لا يوقفون القتال بدورهم.
لأنهم لن يستطيعوا أن يتولوا إدارة اقتصاد البلاد المنكوبة في حال انسحاب السعوديين والجهات الأممية وتراجع المساعدات الإيرانية، مع وقف الحرب.
وفي الأغلب سيميل الحوثيون لإشعال الصراع مع السعودية لإلهاء الشعب اليمني عن الجوع، وكذلك لابتزاز الرياض.
في لبنان، ترك حزب الله الأقوى سياسياً وعسكرياً السيطرة على الاقتصاد للنخب اللبنانية الأخرى لاسيما السنية والمسيحية وبعض الشيعية؛ لأنها الأقدر على إدارته، وجلب الاستثمارات والمساعدات من الخارج.
وفي العراق لعب النفط الغزير الذي تمتلكه البلاد نفس الدور، ولكن في اليمن الفقير لو سحبت الأمم المتحدة ودول الخليج يدها قد تحدث مجاعة حقيقية، خاصة في ظل الشح التقليدي للحليف الإيراني للحوثيين والذي يعاني بدوره من الحصار.
لم يعُد لهم حلفاء يُذكَرون
وعسكرياً فقد السعوديون أي حليف جدي على الأرض حريص على وحدة اليمن أو تحجيم الحوثيين.
فالحكومة الشرعية تتهاوى قوتها في كل مكان.
ولم يستطِع السعوديون بناء قوة ضاربة كما فعل الإماراتيون في الجنوب.
وفي ظل استبعاد القوى السُّنِّية الحقيقية الأقوى على الأرض ممثلة في حزب الإصلاح لم يبقَ سوى الحوثيين الموالين لإيران، والانفصاليين، والمجموعات المتطرفة التي قد تتحول بين عشية وضحاها لداعش جديد قد تستهدف مَن ربَّاها.
وإذا كانت داعش التي خرجت من بلاد الرافدين السهلية الغنية بالنفط قد أرعبت العالم، فويل للعالم مما قد يخرج من جبال اليمن القاسية في ظل المظلمة الطائفية والمجاعة المحدقة ببلاد العرب التي كانت يوماً سعيدة.