بينما يتخوف الجميع من اندلاع حرب بين أمريكا وإيران، فإن الحرب الأهلية المنسيَّة في سوريا تدخل فصلاً غير مسبوق في تاريخها، حيث تصمد رقعة صغيرة أمام قوات الأسد وروسيا، فما سرُّ صمود إدلب أمام الأسد حتى الآن؟
وفي وقت تمارس الولايات المتحدة وإيران لعبة "من يجبُن أولاً"، التي قد تؤدي إلى اندلاع حرب شعواء بينهما، لا تزال حربهما بالوكالة مشتعلة في سوريا ضمن حروب متعددة بهذا البلد المنكوب.
وقد انتصر حليف إيران، الرئيس السوري بشار الأسد، في الحرب قبل عامين، غير أن نصره لم يكن مكتملاً، بسبب إدلب تحديداً، حسبما ورد في تقرير لموقع Stratfor الأمريكي.
منطقتان خارج سيطرة الأسد
صحيح أن الأسد نجح في تأمين كرسي الحكم، لكن رقعتين شاسعتين من البلاد ما زالتا بعيدتين عن سيطرته.
إذ يسيطر الجيش التركي وقوات المعارضة على منطقة الشمال الغربي. وتحتل قوات سوريا الديمقراطية، التي يتألف معظمها من الأكراد والمدعومة بأعداد صغيرة ولكن غير محددة من القوات الخاصة الأمريكية والبريطانية والفرنسية، المنطقة الواقعة شمال شرقي نهر الفرات بالقرب من المثلث الحدودي بين سوريا وتركيا والعراق.
وقال الأسد إنه لن يتوقف عن القتال حتى يستعيد سيطرته على هاتين المنطقتين. والجزء الآخر الوحيد من البلاد الواقع تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي هو مرتفعات الجولان، لكن الأسد ليس في وضع يمكّنه من طرد الإسرائيليين منها.
روسيا تشارك بقواتها البرية في الهجوم على إدلب
ويحتدم القتال على أطراف محافظة إدلب في شمال غربي سوريا، حيث فقد مئات من المدنيين أرواحهم وفرَّ ما يصل إلى 300 ألف شخص إلى مناطق آمنة نسبياً، وإن لم تكن مريحة، منذ أن شنَّ الجيش السوري هجومه الأخير قبل شهرين.
وقال قادة قوات المعارضة، لوكالة Reuters، إن قوات روسيّة خاصة تقاتل إلى جانب القوات السورية، رغم أن روسيا لم تعلق بعدُ على هذه المزاعم. وما هو معروف أن الطائرات الحربية الروسية المنطلقة من قاعدة حميميم الجوية قصفت بلدات في المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة.
أما على جانب هذه القوات، فقد كان اعتمادها على حماية الجيش التركي، وإمداداته اللوجيستية، واتصالاته، وذخيرته وغير ذلك من الإمدادات التي تُقدَّم لموازنة الكفةّ أمام المساعدات التي تقدمها روسيا إلى الأسد.
وقد طرد الأتراك الميليشيات الكردية التي تدعمها الولايات المتحدة، ووحدات حماية الشعب والمدنيين الأكراد، من مدينة عفرين بالقرب من إدلب، العام الماضي. وتسبب ذلك في وقوع منطقة كبيرة متاخمة للمناطق التي تسيطر عليها الحكومة حول حلب وحماة واللاذقية تحت السيطرة التركية إلى جانب مقاتلين محليين وأجانب، وهو الأمر يشكل ضغطاً على قوات الأسد.
من يسيطر على إدلب حالياً؟
هناك ما يقدَّر بنحو ثلاثة ملايين شخص -نصفهم تقريباً نزحوا من مناطق أخرى في سوريا- يسكنون المنطقة التي تدعمها القوات التركية. ويُضاف إلى هذا العدد 60 ألف فرد من قوات المعارضة، وفقاً لتشارلز ليستر، الذي تتبَّع مسار المعارضة السورية منذ بداية الحرب، لمصلحة معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
وكتب ليستر: "قرابة نصف هذا العدد يدين بالولاء لفصائل تنتمي إلى طيف المعارضة الرئيسي العريض، والنصف الآخر ينتمي إلى جماعات جهادية، بعضها موالٍ للقاعدة".
وتعد هيئة تحرير الشام، التي تشكلت من اندماج جبهة فتح الشام، المعروفة سابقاً باسم جبهة النصرة، ومجموعة من الجماعات المسلحة عام 2017، من أهم الجماعات الموالية لتنظيم القاعدة.
وتفرض هيئة تحرير الشام سيطرتها المماثلة لسيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في مناطقها، حيث تُتَّهم بارتكاب جرائم قتل واغتصاب وتعذيب وجرائم أخرى في حق الأرمن والمسيحيين الآخرين والإيزيديين والأكراد. لكن عديداً من المسلمين السُّنة العرب تكيَّفوا مع سيطرة الجماعات الجهادية ولا يرحبون بعودة جيش الأسد، حسب التقرير.
سرُّ صمود إدلب أمام الأسد.. لا مكان آخر يمكن الذهاب إليه
ولا يستطيع الأسد تكرار النهج الذي اتبعه لطرد الجهاديين وغيرهم من المقاتلين من حلب وحمص وضواحي دمشق بين عامي 2016 و2018، لطردهم من آخر معاقلهم في سوريا.
ففي تلك المواجهات، حاصرت الحكومة السورية المسلحين وعرضت عليهم ما سمَّته "المصالحة".
وكان ذلك يعني خيار المرور الآمن إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة، أو نقلهم إلى مخيمات النازحين، أو تسليم أسلحتهم والبقاء في مدنهم. وفضَّل عشرات الآلاف منهم ركوب الحافلات مع عائلاتهم، تحت رقابة الأمم المتحدة والقوات الروسية للتأكد من سلامتهم، والذهاب إلى إدلب.
ولأنه لم يتبقَّ لهم سوى إدلب والمناطق المحيطة بها، لم يكن أمامهم مكان آخر يمكنهم الذهاب إليه.
ولا تريد تركيا، رغم أنها مكَّنتهم من عبور حدود مناطقها بسوريا في السنوات الماضية، عودتهم إليها هذه المرة (بعد أن تزايدت أعداد اللاجئين إليها).
وقال مصدر أمني سوري لموقع Stratfor الأمريكي : "لا فائدة لهم خارج ساحة المعركة، والآن يضيق عليهم الخناق". وهذا لا يترك أمامهم خياراً سوى القتال أو الموت ما لم تخرج تركيا وروسيا بحلٍّ مبتكر.
ورغم تحسُّن العلاقات بين القوتين اللتين كانتا عدوَّتين في السابق بعد صفقة بيع صواريخ الدفاع الجوي الروسية S-400 إلى تركيا، لم تقتربا من التوصل إلى حل في سوريا.
والأسد والأكراد يتعايشان
بالنسبة لمنطقة الشمال الشرقي، ناقش الأسد مع الأكراد استعادة سيادة الحكومة عليها سلمياً، لكنهما لم يتوصلا إلى اتفاق. وقد حرص هو والأكراد على تجنُّب مهاجمة بعضهما بعضاً، ويعود ذلك -بلا شك- إلى اعتقادهما أن الجيش السوري سيعود يوماً ما دون قتال.
ولا يزال الأكراد يعتمدون على الضمانات الأمريكية للحفاظ على الحكم الذاتي الذي يتمتعون به من دمشق، والحماية من هجوم تشنه تركيا لطرد الأكراد من منطقة الشمال الشرقي مثلما طردتهم من عفرين.
وتناقش الولايات المتحدة إمكانية إنشاء منطقة عازلة بين تركيا والأكراد، رغم غضبها من شراء تركيا الأسلحة الروسية، وهي عضوة في حلف الناتو، وردّها الانتقامي بإلغاء صفقة بيع الطائرات الشبح طراز F-35 إلى تركيا.
وفي الوقت نفسه، يخشى المراقبون الأمريكيون من أن تعبئة تركيا لقواتها بالقرب من مدينتَي تل أبيض ورأس العين في سوريا تُنذر بشن هجوم على حلفاء الأمريكيين من الأكراد، وهو ما يتعين على الولايات المتحدة إما تجاهله وإما معارضته.
سياسة الولايات المتحدة المتخبطة
ينسق أربعة مسؤولين أمريكيين اكتسبوا ألقاباً جديدة -وهم جيمس جيفري وجويل ريبيرن وويليام روبوك وديفيد شينكر- السياسة الأمريكية في سوريا. لكن هذه السياسة لم تتضح معالمها بعد.
وكتب مايكل روبن، مستشار وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) السابق والباحث بمعهد American Enterprise والمؤيد للحرب مع إيران في مقال بمجلة Washington Examiner: "خلاصة القول، إن السياسة الأمريكية في سوريا متخبطة، لكن انتشار الدبلوماسيين الذين يتولون مسؤوليتها لا يزيد الطين إلا بلّة".
ويؤكد روبن أن الأكراد السوريين الذين يتفاوضون مع عدد كبير من الدبلوماسيين الأمريكيين ليست لديهم فكرة عمن يتولى زمام الأمور أو عن الخطة الأمريكية.
وها هو حزب الله يسحب قواته ليؤدي مهمة أخرى لصالح إيران
ويعيد حزب الله، الذي كان بديل إيران في الحرب السورية، نشر بعض قواته الهجومية في بلده لبنان. وقال زعيم الحزب حسن نصر الله على قناة المنار التلفزيونية: "نحن موجودون في كل الأماكن التي كنا فيها، ما زلنا فيها ولكن لا داعي للوجود هناك بأعداد كبيرة طالما ليست هناك ضرورات عملية لذلك". لكن الفكرة غير المعلنة هي أنه قد تكون ثمة حاجة لانتشار مقاتلي حزب الله المتمرسين في لبنان لدعم إيران، عن طريق تهديد إسرائيل بمخزونها من الصواريخ الأرض-أرض، في حال اندلاع صراع بين الولايات المتحدة وإيران.
وهكذا، تستمر الحرب بسوريا، ويستمر معها حرمان المدنيين السوريين من السلام، وتربُّص الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران بعضها ببعض. ومن المنطقي أن نسأل ما إذا كان يتعين على هذه البلدان أن تُنهي حرباً قبل أن تُشعل أخرى جديدة، أو ربما تتفادى الحرب كلياً؟ إذا كان ثمة من يعتقد أن الحروب التي اندلعت -بدءاً من عام 2003 بالعراق، وبدءاً من عام 2011 في سوريا- كانت حروباً كارثية، فما عليهم سوى الانتظار ليروا ما سيسفر عنه فشل إيران المحقَّق.