ظهر أفضل مثال على عدم توازن استراتيجية إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه إيران، الأسبوع الماضي، في بيان صحفي للبيت الأبيض.
جاء في البيان: "ليس لدينا شك في أنَّ إيران كانت ستنتهك شروط الاتفاق النووي قبل وجوده"، لكن لم يوضح البيت الأبيض لاحقاً كيف يمكن لبلد ما أن ينتهك شروط أي اتفاق، قبل وجود ذلك الاتفاق على أرض الواقع، بحسب ما نشرته صحيفة The Washington Post الأمريكية.
ترامب غير صادق في تصريحاته
ليس هذا هو المثال الوحيد على تشوش تلك الاستراتيجية، فعندما أعلن الرئيس ترامب، الشهر الماضي، أنَّه ألغى الضربات العسكرية ضد إيران، قال إنَّ السبب في ذلك هو علمه بأنَّ ما يقدر بنحو 150 إيرانياً كانوا سيلقون حتفهم في تلك الهجمات. وبدلاً من ذلك، شدَّد العقوبات الاقتصادية ضد إيران.
وقال جيفري ساكس، الاقتصادي الذي درس آثار مثل هذه العقوبات، إنَّ العقوبات التي يجري فرضها لها تأثير "هائل وخانق" على البلاد، مضيفاً: "من المعروف أنَّ مثل هذه العقوبات تسبب ارتفاعاً ملحوظاً في معدل الوفيات، وبالنظر إلى حجم سكان إيران، البالغ حوالي 81 مليون نسمة، فمن المؤكد أن تكون هناك ضحايا أكبر بكثير من مجرد 150 حالة وفاة".
تقول الصحيفة الأمريكية: "علينا أن نضع في الاعتبار أنَّ الأشخاص الذين كانوا سيموتون في الضربات العسكرية ربما كانوا جنوداً إيرانيين، بينما أولئك الذين يموتون الآن بسبب العقوبات هم من الأطفال حديثي الولادة، والأمهات، وكبار السن، والمرضى".
تشير دراسة أكاديمية إلى أنَّ العقوبات تسبب نقصاً واسع النطاق في العقاقير، وأنَّ الذين يعانون أكثر من غيرهم هم "مرضى السرطان والتصلب المتعدد واضطرابات الدم وحالات خطيرة أخرى".
استراتيجية غائبة
خلقت إدارة ترامب أزمة إنسانية في إيران، وأزمة جيوسياسية في الشرق الأوسط، دون امتلاكها استراتيجية لحلّ أي منهما. لقد أجبر الاتفاق الإيراني طهران على الالتزام بألا تطور مطلقاً أسلحة نووية، ونقل 98% من اليورانيوم المخصب خارج البلاد، وتدمير مفاعل البلوتونيوم الخاص بها، وقبولها بعمليات تفتيش دولية صارمة، غير مقيدة بحدود زمنية لمدة 10 إلى 25 عاماً.
وأكد المفتشون الدوليون، وكذلك وكالات الاستخبارات التابعة للقوى العظمى، التزام إيران بالاتفاق.
وبالانسحاب من الاتفاق النووي، سمحت إدارة ترامب لإيران بالبدء في الابتعاد عن هذه الحدود. على سبيل المثال، وافقت طهران على أنَّها لن تطوّر أكثر من 300 كيلوغرام من اليورانيوم منخفض التخصيب حتى عام 2030، وقد احتفظت به ضمن تلك المعايير منذ عام 2015.
إلا أنَّ إيران تجاوزت هذا الحد الأسبوع الماضي، مبررةً تحركها بالإشارة إلى أنَّ الولايات المتحدة نفسها ألغت الاتفاق.
أمريكا خلقت تصدعاً في الموقف الدولي من إيران
أيضاً، خلقت تصرفات الولايات المتحدة تجاه إيران صدعاً داخل التحالف الغربي، لطالما دعمت أوروبا بقوة سياسة واشنطن تجاه إيران، ونجح ضغطهم المشترك في الوصول بطهران إلى طاولة المفاوضات، إلا أنَّ الأوروبيين الآن في ثورة علنية ضد تصرفات واشنطن أحادية الجانب، وبذلوا جهوداً لإنشاء آلية دفع بديلة للدولار مقابل التجارة مع إيران.
تشعر دول أخرى في الشرق الأوسط بضعف إيران، وتتحرك لاستغلال الوضع، فقد صرَّح مسؤولون إسرائيليون سراً لدبلوماسيين غربيين أنَّهم قد يقررون ضرب المنشآت النووية الإيرانية الحالية في المستقبل القريب.
أما السعودية فقد احتفت بحملة الضغط الأمريكية القصوى على إيران، بينما تنتهج من جانبها سياسة واسعة لمناهضتها على عدة جبهات.
ومع تشديد الخناق على إيران، كانت طهران ترد بإجراءات تدريجية عن طريق جيشها، أو في أكثر الأحيان عن طريق ميليشيات تابعة لها، انطلاقاً من اليمن، وصولاً إلى الخليج. نتج عن كلٍّ من هذه التصرفات ردود فعل لاحقة، سواء من السعودية أو الولايات المتحدة.
بمعنى آخر، زاد ترامب من حدة التوترات الإقليمية، دون امتلاكه لخطة جيدة لتخفيف وطئتها.
تأمل إدارة ترامب في استسلام الإيرانيين، وأن يعودوا إلى طاولة المفاوضات ويقبلوا باتفاق أكثر إجهاداً بكثير من الذي وقعوا عليه في عام 2015. من المحتمل أن يحدث هذا، ولكن على الأرجح هذه الحرب الإقليمية الباردة ستزداد توتراً، وستزداد معها احتمالية الحسابات الخاطئة أو الحرب العرضية.
حتى لو كان هناك نوع من التنازلات الإيرانية المؤقتة، من منطلق اليأس، فلن تدوم بالتأكيد. فدائماً ما تجد القوى الجريحة الناقمة طريقة للعودة مع الانتقام. يبدو أنَّ إدارة ترامب تناست أنَّ الحضارة الإيرانية كانت لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط منذ آلاف السنين. ويبلغ عدد سكانها أكثر من ضعف حجم سكان العراق، وتتمتع بموقع أكثر استراتيجية. فضلاً عن تمتعها بحس قومي قوي، وحنكة بإدارة شؤون الدولة، وتاريخ معروف في مقاومة الهيمنة الأجنبية.
الخلاصة: وبحسب الصحيفة الأمريكية فإن هذا الطريق الذي تسلكه إدارة ترامب المتمثل في خنق إيران، لن يؤدي إلى الاستقرار في الشرق الأوسط، كما لن يؤدي هذا إلا إلى زرع بذور الاستياء والانتقام، مما يخلق منطقة أكثر زعزعة ستجد الولايات المتحدة نفسها غارقة فيها لعقود. وللأسف، هذا هو الطريق الذي وجدنا أنفسنا نسير فيه.