أصدر رئيس الوزراء العراقي، عادل عبدالمهدي، مرسوماً في الأول من يوليو/تموز 2019، يقضي بدمج الميليشيات المسلحة المؤيّدة لإيران إلى حدٍ كبير، والمعروفة باسم "الحشد الشعبي"، بالكامل في القوات المُسلحة العراقية. جاءت هذه الخطوة وسط مخاوف متزايدة بين القادة العراقيين من أن بلادهم قد تتحوّل إلى ساحة معركة بين إيران والولايات المُتحدة الأمريكية. فهل بدأ النفوذ الإيراني في العراق بالتراجع؟
العراق لا يريد حرباً أخرى، نعم
في إشارة إلى التوتّرات المتزايدة بين طهران وواشنطن، قال الرئيس العراقي برهم صالح، يوم 26 يونيو/حزيران الماضي، إن بلاده ليست مُستعدّة للانجرار في نزاع جديد بالمنطقة، مضيفاً: "عاصرنا أربعة عقود من التحديات والاضطرابات. لا نريد أن نجد أنفسنا متورطين في حرب جديدة".
وفي هذه الأثناء، اتّهم مسؤولون أمريكيون إيران بأنها المسؤولة عن هجوم صاروخي على منطقة قريبة من السفارة الأمريكية في بغداد، وباستخدام الأراضي العراقية لشنّ هجمات بطائرات من دون طيّار، استهدفت خط أنابيب النفط السعودي في مايو/أيّار.
وفي أثناء تلك التطورات، فسّر بعض الخبراء والمنابر الإعلامية قرار عبدالمهدي بشأن ميليشيات الحشد الشعبي باعتباره "خطوة على طريق الحدّ من نفوذ إيران وجماعاتها المتحالفة معها في العراق"، ومع ذلك، فإن هذه ليست الطريقة التي يُنظر بها إلى هذه الخطوة وإلى العلاقات مع بغداد بشكلٍ عام في طهران، كما يقول حميد عزيزي، أستاذ الدراسات الإقليمية بجامعة شهيد بهشتي في طهران، بمقالته المنشورة على موقع Al-Monitor الأمريكي.
إيران تريد للحشد الشعبي أن يبقى متشظياً، ولكن..
في الواقع، يُعتقَد أن كون طبيعة وحدات الحشد الشعبي قوات متشظية وغير مركزية هو أحد العوامل الرئيسية التي تمكّن إيران من الحفاظ على نفوذها في العراق من خلال الدعم النشط للفصائل الأكثر تأييداً لإيران بالكيان، مثل حركة حزب الله النجباء أو عصائب أهل الحق، وعلى هذا النحو، فإن توحيد كل هذه الفصائل تحت مظلّة رسمية من شأنه كبح قدرة طهران على المناورة على جبهتهم للحفاظ على مصالحها في البلد المجاور.
ويرى عزيزي، وهو عضو في المجلس العلمي بمعهد دراسات إيران وأوراسيا في طهران، أنه بينما تُضاعف الولايات المُتحدة جهودها لتقييد دور الجماعات الموالية لإيران في العراق من خلال خطوات مثل تصنيفها باعتبارها منظّمات إرهابية، فهناك "تساؤل حول احتمالية إضعاف تلك الجماعات نتيجة للضغط الأمريكي".
وفي هذا السياق، فإن دمج تلك الجماعات تحت مظلّة القوات المسلّحة العراقية "سيصعّب على واشنطن استهدافهم مباشرةً دون خطر تقويض الجهاز العسكري والأمني العراقي ككل".
"هوية مستقلة" للحشد الشعبي
علاوة على ذلك، فإن الفكرة العامة في إيران هي أن مرسوم عبدالمهدي له علاقة بالاعتراف بوحدات الحشد الشعبي جزءاً شرعياً من القوات المسلحة العراقية أكثر من محاولة تقييد دورها، ويعتقد المحلل السياسي المحافظ سعدالله زارعي أن المرسوم سيمنح الحشد الشعبي "هوية مستقلة".
وقال زارعي في مقابلة مع وكالة تسنيم للأنباء، إن "دمج فصائل الحشد الشعبي في هيكل الجيش من شأنه خلق قيودٍ على أنشطة قوات الحشد الشعبي، وبإصدار رئيس الوزراء للمرسوم الجديد، سنشهد تعبئة عسكرية حقيقية في هذا البلد".
ويتّفق سفير إيران السابق في بغداد حسن دانايي فر، مع هذا الرأي، قائلاً إن مرسوم عبدالمهدي يتماشى مع "المسار التدريجي الذي تسلكه وحدات الحشد الشعبي". ووفقاً له، فهذه الخطوة "ستعزز التنسيق وتزيل أوجه التنافر" بين فصائل وحدات الحشد الشعبي.
لكن النتيجة ربما تكون عكسية داخل بنية الجيش العراقي
الأمر الأهم من ذلك بحسب عزيزي، هو أنه بما أن الجيش العراقي كان يهيمن عليه في الغالب "قادة سُنة"، فإن دمج وحدات الحشد الشعبي مع الحفاظ على سلسلة قيادتها الخاصة "سيغير التوازن الداخلي للقوات المسلحة لصالح الشيعة"، وبدوره، هو أمر من شأنه تعزيز نفوذ إيران بينهم.
في السياق، يعتقد مصطفى النجفي، محلل شؤون الشرق الأوسط بجامعة "تربية مدرس" في طهران، أن دمج الحشد الشعبي سيؤدي إلى مزيد من التوجهات الدينية بالجيش العراقي. وقال النجفي في حديث مع موقع Al-Monitor: "سيبعد ذلك الجيش العراقي عن كونه قوة قومية عربية تقليدية".
وبصرف النظر عن النقاط المذكورة أعلاه، توجد بعض التطورات الأخرى في العلاقات بين طهران وبغداد، بإمكانها تقديم برهان إضافي على أن تأثير إيران في العراق لا يمضي على طريق التراجع.
دور إيران لم يتراجع في العراق قط
لقاء في توقيت مهم: ففي اليوم نفسه الذي صدر فيه قرار عبدالمهدي بشأن الحشد الشعبي، التقى الملحق العسكري الإيراني لدى السفارة الايرانية في بغداد، العميد مصطفى مراديان وزيرَ الدفاع العراقي المعين حديثاً نجاح حسن علي الشمري. وخلال اللقاء، أعرب الوزير العراقي عن تقديره لدور إيران في مكافحة الإرهاب بالعراق، ودعا إلى تعميق التعاون الدفاعي والعسكري بين البلدين.
تعاون عسكري: تجدر الإشارة إلى أنه بعد فترة وجيزة من إسقاط الحرس الثوري الإيراني للطائرة الأمريكية من دون طيار في يونيو/حزيران، دعا نائب قائد الجيش العراقي، اللواء طارق عباس إبراهيم عبدالحسين، إلى تعزيز التعاون مع إيران في مجال الدفاع الجوي.
تطورات اقتصادية: وعلى صعيد آخر، شهد الجانب الاقتصادي من العلاقات بين البلدين الجارَين مؤخراً بعض التطورات المهمة أيضاً؛ ففي الثاني من يوليو/تموز، أُعلن أن العراق على وشك الكشف عن آلية مالية خاصة تسمح للبلد بمواصلة استيراد الغاز والكهرباء من إيران على الرغم من العقوبات الأمريكية المفروضة على الجمهورية الإسلامية.
ورأت إيران هذه الخطوة باعتبارها دليلاً على فشل واشنطن في قطع العلاقات بين العراق وإيران بمجال الطاقة، في إطار سياسة "الضغط الأقصى" التي ينتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد طهران.
سكة حديدية: في غضون ذلك، خلال اجتماع ثلاثي شمل مسؤولي النقل الإيرانيين والعراقيين والسوريين بطهران في الأول من يوليو/تموز، أُعلِن أنه من المقرر البدء في بناء خط سكة حديدية يربط بين معبر شلامشة الحدودي في جنوب غربي إيران والبصرة في جنوب العراق خلال ثلاثة أشهر.
وجرى الانتهاء من التفاصيل الأخيرة في اتفاق بناء خط السكك الحديدية، خلال زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لبغداد في مارس/آذار. وبمجرّد انتهاء عملية التشييد، سيربط خط السكك الحديدية شبكة النقل الإيرانية بشبكات النقل في العراق وسوريا، وهو ما يتيح لإيران الوصول برّاً إلى السواحل السورية المطلّة على البحر الأبيض المتوسط، كما أنه سيسهم إلى حدٍ كبير في توسيع علاقات إيران التجارية مع العراق وسوريا.
الخلاصة
كل هذه التطورات تشير إلى أن نفوذ إيران في العراق لا يتضاءل، بل إنه في واقع الأمر يتّخذ شكلاً أكثر رسمية ومؤسسية. وفي هذا السياق، بينما من المتوقع أن تحتفظ إيران بعلاقاتها الوثيقة مع فصائل وحدات الحشد الشعبي حتى بعد اندماجها في الجيش العراقي، لا تزال طهران ترى أن تطوير العلاقات مع بغداد جانب حاسم في استراتيجيتها لتقليل الآثار الاقتصادية والسياسية السلبية الناجمة عن زيادة الضغط الأمريكي.