التاريخ المعقد للإسلاميين بالسودان.. من انشقاق الترابي عن الإخوان وتحالفه مع العسكر إلى التمرد على البشير

عربي بوست
تم النشر: 2019/06/12 الساعة 13:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/12 الساعة 17:33 بتوقيت غرينتش
الترابي تم اعتقاله في عهد البشير/

يبدو تاريخ الحركات الإسلامية في السودان مختلفاً كثيراً عن باقي البلدان العربية، كما أن خريطة الإسلام السياسي في السودان معقدة ومتداخلة بالتركيبة الاجتماعية للبلاد، ويصعب اختزالها في شخصيات مثل الرئيس المعزول عمر البشير أو المفكر الإسلامي الراحل حسن الترابي.

ففي معظم البلدان العربية ارتبط الحكم العسكري بالقوى الاشتراكية والقومية العربية، وأحياناً بالتيار العلمانية المتأثرة بالليبرالية الاجتماعية والاقتصادية، ولكن دائماً كان هناك شقة بين العسكر والإسلاميين.

ومحاولات التحالف القليلة بينهما انتهت في الأغلب بانقلاب الضباط على الحركات الإسلامية مثلما حدث في مصر بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين.

ولكن تاريخ الحركة الإسلامية في السودان مختلف نسبياً، والسبب في ذلك يعود لرجل أثار الجدل في  صفوف الإسلاميين وخصومهم على السواء، وهو المفكر الإسلامي الراحل الدكتور حسن الترابي، الذي تحالف مع العميد عمر حسن البشير لينقلبا على النظام الديمقراطي الذي كان الترابي عضواً فيه ويؤسس النظام العسكري الإسلامي الوحيد في العالم العربي وأطول حكم استبدادي عمراً في السودان.

خريطة الإسلام السياسي في السودان معقدة بتعقيد تاريخه

الأحزاب الإسلامية التقليدية.. إسلاميون قبل أن يعرف العالم الإسلام السياسي

 اختلاف تاريخ الحركات الإسلامية في السودان لايقتصر على علاقتها بالعسكر، بل بأمور عدة أبرزها ما يتعلق بتعريف الأحزاب والحركات الإسلامية نفسها.

فعلى عكس معظم الدول العربية أيضاً تصنف الأحزاب التقليدية القديمة في السودان على أنها أحزاب إسلامية، وبالتحديد الحزبين الأعرق والأشهر في البلاد حزب الأمة والحزب الاتحادي.

هذان الحزبان لديهما مرجعية إسلامية قديمة نشأت قبل ظهور الإسلام السياسي الحديث في مصر عبر جماعة الإخوان المسلمين، ولكنها مرجعية تختلط بالطائفية والقبلية والعائلية والمناطقية.

وأحياناً ما كانت هذه الأحزاب بمثابة عامل مسهل للحركات الإسلامية الحديثة لدخول السودان وأحياناً أخرى كانت منافساً لها.

الأمة: حزب عريق، لديه مشكلة مع الإخوان ليس لأنهم إسلاميون بل لكونهم مصريين

حزب الأمة القومي يتخذ من تجربة الثورة ثم الدولة المهدية التي قامت في القرن التاسع عشر ضد حكم أسرة محمد علي للسودان منطلقاً فكرياً.

 ومع بداية دخول تأثيرات الإخوان المسلمين إلى السودان، كانت المشكلة لدى أعضاء حزب الأمة في العلاقة مع الإخوان ليس كونهم إسلاميين بل بسبب كون الإخوان المسلمين حركة مصرية المنشأ، لأن الثورة المهدية التي نشبت ضد حكم أسرة محمد علي لمصر كان دوماً لديها حساسية تجاه الهيمنة المصرية على السودان.

وأثر الأمة في المشهد السياسي السوداني باكراً عندما انحاز مثقفون أسسوا مؤتمر الخريجين لفكرة السيد عبد الرحمن المهدى بل وصار الرقم الانتخابي الأول في تجربة الديمقراطية الثانية عندما فاز بأغلبية في الانتخابات التي أعقبت ثورة أكتوبر/تشرين الأول  1964 كما فاز في عام 1986 بأعلى مقاعد البرلمان التي مكنت الصادق المهدى من أن يصبح رئيساً للوزراء في الحكومة التي سقطت بانقلاب عسكري قاده العميد وقتها عمر حسن البشير المدعوم من الحركة الإسلامية بقيادة حسن الترابي في ذلك الوقت.

خريطة الإسلام السياسي في السودان
زعيم حزب الأمة الصادق المهدي/Reuters

وبعد تولي البشير والترابي الحكم، انتقل الأمة إلى خانة المعارضة بل وكون مع بعض فصائل المعارضة التجمع الوطني الذي اتخذ من العاصمة الإرتيرية مقراً له منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي قبل أن يعقد مصالحة مع النظام في جيبوتي عام 1999 عاد إثرها الصادق المهدى ورفقاؤه إلى السودان ليمارسوا نشاطهم من الداخل، حسب ما قاله الدكتور عبدالله فتحي أستاذ الإعلام في الجامعات السودانية الذى رأى أن حزب الأمة له تجربة تاريخية معتبرة  في النضال وله تأثير كبير على الواقع الحالي، حسب قوله.

والآن هو يتهم بأنه مهادن للعسكريين.. وهو يقول إنه مجرد احترام

بقدر ما يعتبر حزب الأمة شريكاً لقوى إعلان الحرية والتغيير ذات الغلبة اليسارية في التكوين، إلا أنه يحتفظ بمساحة من الاحترام بينه والمجلس العسكري الانتقالي الحاكم.

إذ يرى الحزب المجلس العسكري شريكاً في التغيير الذي حدث في السودان؛ لأن انحيازه للثورة ساعد في إسقاط نظام البشير حسب النائب البرلماني السابق الأغبش مصطفى.

ويقول الأغبش مصطفى لـ "عربي بوست": "الأمة القومي يرى في المجلس العسكري شريكاً في التغيير، وبالتالي كان يدعو لاحترامه والابتعاد عن استفزاز العسكريين".

هل ما زال لديه نفس الشعبية الكبيرة؟

حزب الأمة القومي يتمتع بوجود جماهيري كبير على مستوى الولايات، لكون قياداته ظلت جاهزة بمعارضتها لحكم البشير، حسبما يقول الأغبش مصطفى.

إلا أن البروفيسور حسن الساعوري، أستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين يخالفه الرأي على اعتبار أن جماهيرية حزب الأمة تراجعت وبات تأثيره ضعيفاً بعد أن فشل في عملية المجايلة كما أثرت عليه خلافات الإمام الهادي المهدى وابن أخيه الصادق المهدي في ستينيات القرن الماضي.

الحزب الاتحادي.. سر قربه للإخوان المسلمين

على غرار حزب الأمة، يمكن وصف الحزب الاتحاد بحزب إسلامي تقليدي، مع العلم أنه كان أقرب للحركات الإسلامية الحديثة مثل الإخوان المسلمين من حزب الأمة.

ولا يعود ذلك فقط إلى إسلامية الحزب ذات الجذور الصوفية بل أيضاً بسبب علاقة الحزب الحميمية تجاه مصر الذي تظهر في اسمه الاتحادي من الوحدة مع مصر، الأمر الذي جعل الحزب لا يعاني نفس حساسية الأمة تجاه كل ما هو مصري.

ويتخذ حزب الاتحادي الديمقراطي الذي يتخذ من طائفة الختمية ذات البعد الصوفي مرجعية.

وبعدما كان الحزب الأول تراجع إثر سيطرة الشيوخ عليه

ويشير تاريخ الاتحادي إلى أن الحزب كان الرقم الانتخابي الأول فور جلاء المستعمر عن السودان، لكن مع مرور الوقت بدأ يلعب دور الحزب الثاني في الساحة بعد حزب الأمة.

ويقول عنه بروفيسور الساعوري إن دوره تراجع ولم يعد له وجود إلا في الولايات الشرقية وأجزاء من مناطق الشمال، معتبراً أن معظم قياداته من كبار السن وهو ما أفقده التأثير على المشهد السياسي بسبب الانقسامات في داخله.

ويقول الساعوري لـ "عربي بوست" إن الحزب الاتحادي لم يعد إسلامياً بالمعنى الحرفي، لافتاً إلى تدهور أوضاع الطائفة الختمية الصوفية في أوسط السودانيين بعد ما كان لها تأثير على  جيل الخمسينات والستينات"، معتبراً أن الطائفة الآن لم تعد قادرة على مخاطبة الجيل الجديد.

ويتفق مع ذلك الدكتور عبدالله فتحي، ولكنه يرى أسباباً أخرى وراء ضعف الحزب، منها أن مشاركة الحزب الاتحادي في السلطة ضمن حكومة البشير أضعفت بريقه وهو ما يفسر اختفاءه عقب سقوط نظام البشير.

ولكنَّ المنشقين عوضوا ضعفه الناتج عن تحالفه مع البشير

اللافت أن الفصائل المنشقة عن الحزب الاتحادي نجحت في كسب أراضٍ جديدة خاصة أنها تقوم على قواعد وقيادات شابة نجحت في الخروج من ثوب أبو هاشم (زعيم طائفة الختمية محمد عثمان الميرغني).

بل كانت أكثر جرأة عبر التجمع الاتحادي الذي يعد أحد مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير التي أسقطت نظام البشير مؤخراً ويضم أكثر من عشرة فصائل أبرزها الوطني الاتحادي الموحد، الحزب الاتحادي الديمقراطي العهد الثاني والاتحاديين الأحرار.

الأحزاب الإسلامية الحركية، تاريخها وعلاقتها بالإخوان المسلمين

في مقابل الأحزاب الإسلامية التقليدية، عرف السودان منذ قبل  الاستقلال ما يمكن أن نسميه الأحزاب الإسلامية الحركية أو الحديثة التي تعد جزءاً من ظاهرة الإسلام السياسي الحديث التي نشأت في القرن العشرين وتأثر كثيراً منها بالإخوان المسلمين، وليس امتداداً لحركات وطرق صوفية قديمة.

ولكن في الحالة السودانية تداخلت مسيرة الأحزاب الإسلامية التقليدية مع الحركية.

نشأة الإخوان المسلمين المتعددة في السودان

تعددت الحركات المنسوبة للإخوان المسلمين في السودان، كما اتسمت دوماً بأزمة علاقتها مع الحركة الأم مع مصر، في  ضوء اختلاف السودانيين أنفسهم حول الموقف من هذا البلد الجار الذي كان السودان تابعاً له من الناحية الرسمية على الأقل حتى جلاء الاستعمار.

وظلت الحركة المحسوبة على الإخوان المسلمين في السودان تعاني الانشقاقات والخلافات والضعف إلى أن ظهرت قيادة الدكتور حسن الترابي مطلع عام 1964، حين عاد من فترة دراسية في باريس وتولى عمادة كلية الحقوق في جامعة الخرطوم، ثم ما لبث أن لمع نجمه بسبب دوره البارز في انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1964 التي أطاحت بالحكم العسكري. وقد رشحته هذه المؤهلات لقيادة الحركة.

الانشقاق الأول بين الإسلاميين.. صراع المفكر والمرشد

ورغم تزايد قوة الحركة النسبي تحت قيادة الترابي، إلا أنها عانت من الخلافات بسبب نهج الترابي الذي رآه كثيرون مخالفاً لنهج الإخوان التقليدي، وعده آخرون يتضمن اجتهادات مخالفة للإسلام.

ولذا برز خلاف بين تيارين، الأول عرف بتيار التربية وكان أقرب إلى نهج الإخوان التقليدي الذي يدعو إلى التركيز على تزكية الأعضاء ووضع شروط قاسية للعضوية، وبين التيار السياسي الذي يميل إلى الاستكثار من الأنصار ويركز على النتائج.

وقد تصاعدت الخلافات حتى بلغت مرحلة الانشقاق بعد فشل المدرسة التقليدية في إزاحة الترابي من القيادة في مؤتمر عُقد في أبريل/نيسان عام 1969.

وتسبب  انتخاب الترابي أميناً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين في انشقاق ضم محمد صالح عمر، الشيخ مدني سبال، والشيخ برات، والشيخ علي جاويش.

ولكن الانشقاق تأجل بسبب قيام انقلاب مايو/أيار عام 1969، الذي جاء بحكومة يسارية معادية للإسلاميين زجت بهم في السجون ودخلوا معها في معارك استمرت حتى عام 1977، حين عقدت المعارضة صفقة المصالحة الوطنية مع حكومة الرئيس جعفر النميري، وشارك الإسلاميون في السلطة.

الانشقاق الثاني: التنظيم الدولي مقابل البراغماتية

فجَّرت هذه الصفقة الخلافات داخل الحركة مجدداً، وانتهت في عام 1980 بإعلان انشقاق مجموعة أطلقت على نفسها حركة الإخوان المسلمين، وتبنَّت النهج الإخواني في التربية وانضمت رسمياً للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

وقد كان من أبرز زعماء هذا التيار صادق عبد الله عبد الماجد، أحد أبرز زعماء الحركة، وقد كان أيضاً يتولى تحرير صحيفة التنظيم في الخمسينات والستينات، والحبر يوسف نور الدائم، وهو محاضر لغة عربية في جامعة الخرطوم.

وقد انتقد هؤلاء نهح الترابي في القيادة، وخاصة البراغماتية التي تميز بها، والتي رأى فيها هؤلاء ضرباً من الانتهازية، ودعوا إلى التركيز على انتقاء الأعضاء وتربيتهم وسلوك الطريق الشاق الطويل إلى الإصلاح.

وقد مثل انضمام هذه المجموعة إلى التنظيم الدولي خطوة رمزية جسدت الانقلاب على نهج الترابي الذي لم يكن يكتفي فقط برفض الانضمام إلى ذلك التشكيل، بل كان أيضاً لا يخفي طموحه لقيادة تنظيم بديل يكون إطاراً أفضل للعمل الإسلامي في المجال الدولي.

وكان موقف الإخوان المسلمين مؤيداً للثورة ضد البشير،  فقبل عزل الأخير، زار المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في السودان عوض الله حسن المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، وظهر في صور وهو يخطُّ بيديه لافتات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين، مما يعني مشاركة هذا التيار الإسلامي في الثورة على نظام البشير.

 وبعد عزله، أصدرت الأمانة السياسية للإخوان المسلمين بياناً رحبت فيه بتلك الخطوة، مؤكدة أن "هذه الثورة المباركة لا تستطيع جهة أو حزب احتكارها أو توجيهها، بل الكل مشارك فيها دون إقصاء إلا من يدان قضائيًا".

إسلاميو الترابي.. تجديد فقهي وتحالف مع الاستبداد

بعد الانشقاق بين الترابي والفصيل الأكثر قرباً لطرق الإخوان المسلمين التقليدية، ازدادت قوة جناح الترابي الذي أصبح حليفاً للدكتاتور جعفر النميري.

في المقابل، اعتبر كثير من الإسلاميين لاسيما الإخوان مواقف الترابي دعماً لنظام استبدادي غير إسلامي، مما كان يتناقض حتى مع مواقف الترابي المعلنة المؤيدة للديمقراطية (والتي أثارت بدورها جدلاً في الأوساط الإسلامية).

وقد دافع الترابي وقتها عن موقفه بالاحتجاج بأن الحركة كانت تحتاج إلى التقاط أنفاسها وتطبيق استراتيجيتها طويلة المدى لتدعيم وضعها في المجتمع، كما أنه نوَّه بتوجهات النميري الإسلامية التي بلغت مداها بإعلان تطبيق الشريعة الإسلامية في سبتمبر/أيلول من عام 1983.

وقد رأى الترابي وأنصاره في هذا التوجه، وفي المكاسب السياسية التي حققتها الحركة، نتيجة لتحالفها مع النميري، تأكيداً لصواب منهجها، خاصة في ظل الفشل الكبير للجناح المنشق الموالي للتنظيم الدولي في تحقيق أي حضور سياسي ذي بال على الساحة السودانية.

جزء من الحركة الإسلامية السودانية انضم للبشير وآخر للترابي/Reuters

وقد انتهى تحالف الترابي مع النميري بعد أن تم إيداعه وطائفة من كبار أنصاره السجن في عام 1985 قبل أقل من شهر من سقوط نظام النميري في أبريل/نيسان 1985.

ومرة ثانية يعلو نجم الترابي الذي تحول من حليف للمستبد إلى زعيم ثالث قوة سياسية في البلاد خلال فترة الديمقراطية التي وُلدت بعد رحيل النميري.

ورغم أن موقف قيادة الإخوان التقليدية ظل على ارتيابه في مناهج الترابي وتوجهاته الفكرية، إلا أن عناصر الشباب في الحركة الأم وفروعها ضغطت لتغيير هذا الموقف، حيث رأت في النجاح السياسي الذي حققته الحركة التي يقودها الترابي دليلاً على أن موقفها أسلم من الموقف التقليدي الحذر الذي جعل الحركات الأخرى تعاني من الركود وتعجز عن ترجمة سندها الشعبي إلى نتائج عملية.

وإضافة إلى المرونة السياسية فإن الحركة السودانية بقيادة الترابي انتهجت نهجاً تجديدياً في مجالات عدة، من بينها السعي إلى إعطاء المرأة دوراً أكبر في الحركة والمجتمع، وتبني الدعوة إلى الديمقراطية (وهو تصور تراجعت عنه بعد وصولها إلى الحكم) وتطوير أفكار جديدة حول موقف الإسلام من الفنون. إضافة إلى ذلك فإن الحركة لعبت دوراً ريادياً في مجالات الاقتصاد الإسلامي والنشاط الخيري والاجتماعي.

ما تفعله مخالف للإسلام ويشبه ما فعله بنا العلمانيون

وقد أثارت كثير من أفكار الترابي لغطاً في الأوساط الإسلامية، واعتبر بعضها (مثل التوقف في حد الردة والقول بجواز زواج المسلمة من كتابي) مخالفة للإسلام.

ولكن المفارقة هي أن دور الترابي كان أيضاً سبب الانتكاسة التي واجهتها الحركة وقيادة الترابي لها شخصياً. وتحديداً فإن تجربة الحكم العسكري في حكومة الإنقاذ التي رأسها البشير كانت لها محصلة سلبية على الحركة الإسلامية والعمل الإسلامي عموماً، وعلى الحركة السودانية خصوصاً، والأهم ما تسببت هذه التجربة من مآس للسودان.

 فقد شابت التجربة ممارسات تعسفية من النوع الذي كان الإسلاميون ومازالوا يشكون من وقوع مثله من الحكومات التي يصفونها بالعلمانية، بما في ذلك إقصاء الخصوم وانتهاكات حقوق الإنسان ورفض النهج الديمقراطي.

وكانت هذه الممارسات من الحكم الإسلامي في السودان تحدث في وقت تشكو فيه أكثر الحركات الإسلامية في البلدان العربية الأخرى من المطاردة والتهميش ما أثر سلباً من حيث إنه منح خصوم هذه الحركات حجة ضدها.

الأهم أن الترابي سرعان ما ذاق من البشير ما أذاقه لخصومه.

التحالف الأول من نوعه في العالم العربي.. العسكر مع الإسلاميين

شكَّل حسن الترابي الجبهة الإسلامية القومية، وهو التنظيم الذي جرى الخلط بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين رغم الانفصال بينهما.

الترابي حاول بناء الجبهة كتنظيم عصري، يدعم حق المرأة في التصويت والترشيح، ويهدف لأسلمة المجتمع وإقامة حكم الشريعة الإسلامية، وتمكنت الجبهة من تحقيق نفوذ كبير في أجهزة وهيئات ومؤسسات الدولة السياسية والأمنية والمالية.

ثم  قامت الحركة بتدبير انقلاب في يونيو/حزيران 1989 استولت بعده على السلطة، حيث أصبحت بذلك أول حركة إسلامية حديثة تتولى السلطة في العالم، وبدا أنه حقق مراده بل حاول أن يصبح زعيماً للحركة الإسلامية في العالم الإسلامي برمته.

الانشقاق بين الإسلاميين والعسكريين.. صراع المفكر والجنرال

تأسَّس حزب المؤتمر الوطني السوداني عام 1998 بعد حلِّ الجبهة الإسلامية القومية.

ولكن شهدت الحركة الإسلامية السودانية في العام التالي 1999 التصدع الأكبر في تاريخها أو ما يطلق عليه المفاصلة بعدما أطاح البشير بمعلمه حسن الترابي من السلطة لينفرد بالحكم اعتماداً على حزب المؤتمر  الوطني.

وخرج الترابي غاضباً منشئاً حزب المؤتمر الشعبي الذي ظل يناضل منذ ذلك التاريخ لإزاحة البشير عن منصبه.

هذا الخلاف نشب على خلفية توجُّه الترابي لسنِّ تشريعات تحدُّ من صلاحيات رئيس الدولة.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير/Reuters

ومنذ بداية تشكُّل المؤتمر الوطني بقيادة البشير بدت خصائصه الشمولية، عندما اتجه إلى السيطرة على أبرز المنظمات والاتحادات، على غرار اتحاد العمَّال واتحاد المزارعين ونقابة المحامين.

وبعد الإطاحة بالبشير من السلطة رفض الحزب هذه الخطوة وعدها غير شرعية، في المقابل أصدر المجلس العسكري الانتقالي قرارات بعدم السماح لحزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً بالمشاركة في الحكومة الانتقالية المرتقبة، وتشكيل لجنة لاستلام دُور وأصول حزب المؤتمر الوطني.

المؤتمر الشعبي العام.. حزب الترابي والشباب

بعد الخلاف مع البشير، التفَّ جزء من الإسلاميين حول الترابي باعتباره يمثِّل استمراريةً للمشروعية التاريخية للحركة الإسلامية، ولكن حكومة عمر البشير قد حاصرت هذه الحركة، وقد اعتمدت الحركة بشكل كبير على السمة القيادية للترابي الذي تمتَّع بعلاقاتٍ دولية وإقليمية كبيرة.

وسرعان ما أسَّس حسن الترابي حزب المؤتمر الشعبي عام 2001، وظلَّ الحزب في مقاعد المعارضة حتى العام 2017.

ولكنه قبِل – بعد وفاة الترابي – بالمشاركة في حكومة الوفاق الوطني، حيث شارك في عدَّة مناصب وزارية ومنصب مساعد رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى عضوية البرلمان القومي والمجالس التشريعية المحلية.

في الوقت الراهن يعمل على التقارب مع حالة التغيير السياسي، ويشهد حالةً من الاختلافات الجيلية بين النخبة القيادية والشباب؛ حيث يميلون إلى الاندماج السياسي خارج الإطار الحزبي.

وشارك العديد من شباب حزب الترابي في الاحتجاجات ضد البشير، وكثير منهم أبدى غضبه على واقعة قتل أحد كوادر حزبهم المعلم أحمد الخير بمدينة كسلا على يد قوات الأمن في هذه الاحتجاجات.

ويصف المحلل السياسي الساعورى حزب الترابي (المؤتمر الشعبي) بـ "الحزب الشبابي المتحمس"، وقال لـ "عربي بوست" : إنه حزب شاب منظم جداً ويمتلك قاعدة جماهيرية كبيرة ".

انشقاق ما قبل الثورة.. الخلاف حول استمرار البشير

رغم أنه كان حزب الرئيس، فقد شهد حزب المؤتمر الوطني انقساماً في عام 2013، عندما لم تقبل السلطة مقترحات القيادي غازي صلاح الدين بضرورة إجراء إصلاحاتٍ سياسية وعدم ترشُّح البشير مرةً أخرى وتهيئة المناخ للتنافسية السياسية.

وعلى إثر هذه المقترحات، تم طرد غازي صلاح الدين ومؤيديه من حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية؛ ولذلك اتجهت هذه المجموعة إلى تكوين حركة "الإصلاح الآن".

وكان غازي صلاح الدين -الذي يرأس ائتلاف "الجبهة الوطنية للتغيير" المشكَّل من أحزاب عدة حاضرا بقوة في الثورة، ومن خلفه بالتأكيد الكثير من أنصاره من الشباب الإسلاميين.

وتتمركز شعبية الحركة في العاصمة وبعض أجزاء الوسط دون تمدد ملموس في الولايات وفقاً لما يقوله الساعوري الذي يرى: "غازي ورفاقه لم يستطيعوا أن يؤسسوا حزباً إسلامياً من الشباب والشيب والنساء لعموم السودان".

الانشقاق المسلح.. قصة العدل والمساواة الحزب المتمرد الذي كاد يُسقط البشير

من أغرب الانشقاقات التي وقعت في صفوف الإسلاميين السودانيين، هو حركة العدل والمساواة التي قادت التمرد في دارفور، والذي يُعتقد وفقاً مصادر سودانية أن انشقاقها ورفعها السلاح ضد البشير تم على الأقل في المرحلة الأولى بناء على تحريض سري من الترابي.

وتوصف حركة العدل والمساواة بزعامة الدكتور جبريل إبراهيم بأنها الجناح المسلح الوحيد للإسلاميين.

غير أن  الساعوري يرى أن العدل والمساواة لم تعد تنتهج نهج الإسلام السياسي كما كانت في بداية نشأتها على يد خليل إبراهيم الإسلامي المخضرم وأحد كوادر الإسلاميين الفاعلين قبل المفاصلة، والذي اغتيل في غارة جوية بعد غزو قواته الجريئة لمدينة أم درمان في عام 2008م.

انشقاق ما بعد الثورة.. تيارات إسلامية ظهرت بعد الإطاحة بالبشير

مع  الإطاحة بنظام البشير برزت تيارات إسلامية جديدة لم تكن معروفة بشكل واسع سابقاً وأبرزها تيار نصرة الشريعة ودولة القانون بزعامة الدكتور محمد علي الجزولي والذي أعلن رفضه القاطع لأي اتفاق بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير لا يتضمن إشراك جميع القوى السياسية في البلاد والتأكيد على قضية الشريعة كمصدر أساسي للتشريع في البلاد.

 وقد نظم هذا التيار عدة مواكب دعماً للشريعة في مواجهة المد اليساري الذي تمثله قوى الحرية والتغيير بحسب تيار نصرة الشريعة.


محمد علي الجزولي القيادي بنصرة الشريعة وعبدالله علي إبراهيم القيادي السابق بالحزب الشيوعي/عربي بوست

غير أن ذات التيار ما لبث وشهد انشقاقاً هو الآخر بعدما اتهم الجزولي عدداً من شركائه في التحالف بالسعي لتثبيت سلطة المجلس العسكري وإعادة إحياء النظام السابق.

وتحول الجزولي بوجهته ليدعو قوى إعلان الحرية والتغيير للتوافق على أرضية مشتركة في مواجهة السلطة العسكرية.

في حين آثر آخرون مثل الدكتور عبد الحي يوسف الذي يعد أحد المشايخ الذي كان يتلقى الدعم من قِبل تيار الصحوة السعودي في فترة من الفترات عدم الخروج بأي تعليق والبقاء متمرسين خلف موقفهم السابق برفض قيادة الحرية والتغيير للمرحلة المقبلة بوصفها قوى علمانية تسعى لتغيير الهوية الإسلامية لأهل السودان.

لماذا يريد الحراك استبعاد الإسلاميين؟

 منذ سقوط البشير تجري محاولات متعددة من قِبل المعارضة السودانية لاستبعاد الإسلاميين من ساحة المنافسة على الانتخابات، كما تسعى قوى الحرية والتغيير إلى تأجيل إجراء الانتخابات حتى إنه طالب بفترة انتقالية لمدة أربع سنوات.

"فالانتخابات قد تكون مدخلاً لعودة الإسلاميين للحكم، وهذا ما يخشاه الحراك السوداني"، حسبما يقول  القيادي بحركة "الإصلاح الآن" أسامة توفيق.

ويصف توفيق هذا الموقف من قِبل الحراك السوداني بـ "الحالة النادرة" في عالم السياسية.

إذ يقول توفيق لـ "عربي بوست": "من النوادر التي لا تحدث إلا في السودان، أن العسكر يهددون الأحزاب السياسية بإجراء انتخابات مبكرة وذلك لأن 90% من الأحزاب لا وجود لها على أرض الواقع"، حسب قوله.

وأوضح أن 80% من الأحزاب السياسية السودانية الحالية لم تعقد مؤتمرها العام منذ زمن طويل، وهو ما يحاول المجلس العسكري استغلاله بالضغط عليها للقبول بالوضع الجديد.

هل مازال للإسلاميين شعبية في السودان؟

الآن يجد الإسلاميون أنفسهم في وضع حرج بعد سقوط حكومة البشير وعدم قبولهم من قبل كثير من المتظاهرين، رغم تسجيلهم حضوراً في الاحتجاجات التي قادت لعزل البشير.

ولكنَّ آخرين يرون أنه بعد كل هذه السنوات ولدت الحركة الإسلامية عدداً من الأحزاب التي لا تزال تحتفظ بشيء من تأثيرها على عامة الناس في السودان حسبما يرى الأغبش مصطفى بما فيها حزب المؤتمر الوطني والذي لا يزال يمتلك قواعد في الولايات.

"ويمكن أن يجد الإسلاميون الفرصة للعودة"، إذا أُجريت انتخابات، حسبما يرى توفيق.

لكن استدرك قائلاً: "لكنهم لن يكونوا في المرتبة الأولى"، بل ربما في المرتبة الثانية أو الثالثة على أسوأ تقدير؛ إذ من المحتمل أن تحوز القوى المنضوية تحت لواء قوى إعلان الحرية والتغيير على النصيب الأكبر وإن لم يكن الكثير من السودانيين على قناعة بمشروعها لكنهم سيصوتون لها نكاية في المؤتمر الوطني"، حسب قوله.

أما إذا أجريت الانتخابات متأخرة، فيقول أسامة توفيق: "إنني على يقين بفوز الإسلاميين بالمرتبة الأولى؛ لأن الإنقاذ ستكون قد مُحيت من أذهان السودانيين"، حسب قوله.

بينما يخالف الدكتور الساعوري هذا الرأي، معتبراً أن الحركة الإسلامية لم يعُد لها تأثير تنظيمي واضح.

إذ يقول: "نجم الحركة الإسلامية قد أفل بعدما فشلوا في توحيد أنفسهم وبالتالي فشلوا في ما دون ذلك".

وهل هم حلفاء للعسكريين حقاً؟

عن علاقة المجلس العسكري بالمؤتمر الوطني..  يقول الساعوري: "أتصور أن أغلب أعضاء المجلس مقربون من المؤتمر الوطني الذي لم يعد له وجود فهو مثل حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يرأسه الرئيس الراحل جعفر نميري".

بدوره يرى الدكتور عبدالله فتحي أن العلاقة بين الأحزاب الإسلامية والمجلس العسكري تبدو ودية وينتظر أن تقود الطرفين إلى توافق يسمح بإدارة فترة انتقالية  قادمة  بصورة تضمن استقرار البلاد وفق رؤية إسلامية في المقام الأول.

وإن كانت الأحزاب إسلامية قد توارت عن الأنظار بسبب الانشقاقات داخلها، تراجع دورها وقدرتها على التأثير في الواقع، ولكن وفقاً للخبراء فإنها لاتزال موجودة داخله كجزء من قوى التغيير، فضلاً عن العلاقة المميزة التي يسودها الود مع المجلس العسكري ستفتح الباب أمام فرصة الاتفاق بين الطرفين للعودة، بل والمشاركة  مع المجلس العسكري في إدارة الفترة الانتقالية.

ولكن تركيبة المجلس العسكري الذي يبرز فيها قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، حليف الإمارات والسعودية، تشكك في فرضية أن المجلس حليف للإسلاميين، خاصة أن دقلوا لم يأت من خلفية عسكرية ولا إسلامية، بل هو تاجر أثبت قدرة ماهرة في عقد الصفقات التي يتخلى فيها عن أقاربه مثلما فعل مع عمه موسى هلال زعيم الجنجاويد أو سيده السابق البشير الذي لقبه ب"حميدتي".

وتاريخ مصر الجارة يُظهر أن العسكريين لمَّحوا تارة إلى أنهم يتقبلون الإسلاميين وتارة أنهم حلفاء للقوى الليبرالية والمدنية، وانتهى الأمر بالانفراد بالسلطة.

تحميل المزيد