كنز الجزائر الأكبر.. كيف أضعف تنافس النخب الحاكمة شركة سوناطراك النفطية الثرية؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2019/06/09 الساعة 22:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/06/10 الساعة 06:59 بتوقيت غرينتش
شركة سوناطراك النفطية المملوكة للدولة في الجزائر - رويترز

كانت الجزائر توصف دائماً بأنَّها بلدٌ تتحكم في نظامه السياسي بدرجةٍ كبيرة مجموعة قليلة متنافسة من أصحاب المصالح، وفي قلب هذا النظام توجد شركة سوناطراك النفطية التابعة للدولة، التي هي شريان الحياة لقطاع البترول والغاز في الجزائر، الذي يُمثل 40% من إيرادات الحكومة وأكثر من 95% من صادراتها.

ومثلها مثل كثيرٍ من شركات النفط الدولية الأخرى ذات التاريخ الطويل والدور السياسي المتضخم، تُوصف الشركة بأنَّها دولة داخل الدولة، وذلك لنفوذها السياسي وسيطرتها المتأصلين على شبكات المحسوبية التي تعتمد الحكومة الجزائرية عليها في إيراداتها، حسبما ورد في تقرير لمركز Stratfor الأمريكي.

تطوُّر قطاع النفط في الجزائر كان متداخلاً للغاية مع تاريخها السياسي ما بعد الاستعمار. والعديد من الأحداث التي ساعدت في تشكيل ماضيها لا تزال تشكل مستقبلها.

ومن المهم أن نفهم ذلك التاريخ، ودور "سوناطراك" في إطاره، من أجل أن نفهم إلى أي درجة يمكن تطبيق إصلاحاتٍ مستقبلية في هيكل قطاع النفط في الجزائر، بعد عزل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي طالت فترة حكمه.

فرنسا تحاول الهروب من الهيمنة الأمريكية عبر نفط الجزائر

المشكلات الحالية التي يعاني منها اقتصاد البلد وقطاع النفط فيه تعود إلى الاستعمار الفرنسي، مثل معظم المشكلات السياسية المعقدة الأخرى في الجزائر.

إذ كان قطاع النفط العالمي خلال النصف الأول من القرن العشرين واقعاً تحت سيطرة بعض الشركات من الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة، وفي ذلك الوقت لم تكن  القارة الأوروبية تملك الكثير من الموارد الطبيعية؛ ما أجبر فرنسا على الاعتماد على الولايات المتحدة ثم على الشرق الأوسط في النهاية للحصول على النفط. هذا الافتقار إلى الأمن في مجال النفط جعل باريس تؤسس شركة البترول الفرنسية (CFP) عام 1924، التي أصبحت اليوم شركة "توتال" العملاقة.

ثم سعت فرنسا جاهدةً للعثور على بدائل، وفي مستعمراتها تحديداً. وعلى الرغم من أنَّه لم يكن قد عُثر إلا على كمياتٍ ضئيلة من النفط في شمال الجزائر في ذلك الوقت، ساد اعتقادٌ خلال فترة العشرينيات بأنَّ الصحراء الكبرى كانت موطناً لكمياتٍ هائلة من المواد الهيدروكربونية.

وأسست فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية مكتب البحث عن النفط (BRP)؛ وهو مكتب تشريعي لمراقبة عملية استكشاف النفط في أراضيها. ومن أجل دعم هذه المجهودات، أسست حكومة الاستعمار الفرنسي في الجزائر شركة نفط وطنية في عام 1945، تديرها المؤسستان، سُميت الشركة الوطنية للبحث واستغلال بترول الجزائر (SN REPAL). ثم أبرمت تلك الشركة اتفاقاتٍ مع شركة البترول الفرنسية لإجراء عمليات تنقيب، تُوّجت باكتشاف حقلي حاسي مسعود وحاسي الرمل عام 1956، ما جعل فرنسا منتجاً رئيسياً للبترول بين ليلة وضحاها.

وحاولت فرنسا فصل الصحراء عن الجزائر

اندلعت حرب استقلال الجزائر في ذلك الوقت. وكي تضمن فرنسا أمن مصالحها، بغض النظر عن علاقتها مع الجزائر مستقبلاً، فصلت الجزء الواقع في الصحراء الكبرى في الجزائر (حيث يقع حقلا حاسي مسعود وحاسي الرمل) وأدخلته ضمن ممتلكاتها الأخرى في المنطقة؛ وأسست المنظمة المُشتركة للمناطق الصحراوية (OCRS) عام 1957.

وكانت فرنسا تأمل بذلك أن تقتصر الجزائر في حالة استقلالها على منطقة ساحل البحر الأبيض المتوسط، وألَّا تشمل الصحراء الكبرى. واتخذت فرنسا أيضاً خطواتٍ لحماية احتكارها لإنتاج الغاز والبترول الجزائري من خلال اعتماد قانون البترول الصحراوي عام 1958، والذي قيَّد الاستثمار الأجنبي داخل مناطق المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية (OCRS)، ملقياً بذور ما سيصير لاحقاً نزعةً قومية في قطاع الطاقة الجزائري.

وبالفعل أبرمت باريس معاهدة ظالمة مع الجزائر

وكان من بين الأهداف الرئيسية لفرنسا خلال المفاوضات المؤدية إلى استقلال الجزائر أن تستمر في حماية إنتاجها من البترول. وقد حققت ذلك الغرض اتفاقيات "إيفيان"، وهي الهدنة التي أنهت الحرب بين فرنسا والجزائر. إذ وعدت الجزائر في مقابل حصولها على الاستقلال أن تُقر بالامتيازات الفرنسية في قطاع الغاز والبترول.

وكان ذلك مكسباً كبيراً لباريس، وأصاب الحكومة الجزائرية الوليدة بضربةٍ شديدة نسبياً. إذ بموجب الأحكام التي وضعتها فرنسا، صارت إيرادات الجزائر من النفط ضعيفةً مقارنةً بالدول المنتجة الرئيسية في الشرق الأوسط؛ وهي حقيقة ستُسارع جزائر ما بعد الاستعمار في تداركها من خلال تطبيقٍ سياسات أكثر قومية.

ولكن الجزائر ردت بإلغاء الاتفاقية وإنشاء سوناطراك

أنشأت الجزائر "سوناطراك" بعد سنةٍ واحدة من حصولها على الاستقلال عام 1962. وكانت هي شركة البترول التابعة للدولة، وكانت وظيفتها الأوّلية بناء خط أنابيب أساسي لنقل وتسويق المواد النفطية في البلاد. عقب ذلك بعامين، تفاوضت الجزائر وفرنسا على اتفاقيةٍ أخرى تحل محل إتفاقيات "إيفيان"، التي كانت بشكلٍ عام ترسخ قانون البترول الصحراوي.

إلا أنَّ "سوناطراك" استحوذت هذه المرة على 50% من حصة الشركة الوطنية للبحث واستغلال بترول الجزائر (SN REPAL)، التي ورثتها الجزائر من حكومة الاستعمار الفرنسي.

احالة ملف شكيب خليل للمحكة
وزير الطاقة الجزائري السابق شكيب خليل/ رويترز

وبالنسبة لباريس، كانت مكاسب "سوناطراك" أول علامة على تهاوي قبضتها على قطاع الطاقة الجزائري، بصرف النظر عن الاتفاقات المُوقعة على الورق؛ وهو خوفٌ سيتأكد بعد ستة أعوامٍ فقط عندما تفقد باريس جميع حيازاتها في قطاع النفط في البلاد.

إذ استولى هواري بومدين على السلطة عام 1965 بعد انقلابٍ غير دموي. وفي الحال تقريباً وجَّه القائد الجديد ضرية إلى سيطرة الأجانب على قطاع الطاقة الجزائري.

ففي عام 1967، أمّم جميع حيازات البترول والغاز غير الفرنسية تقريباً ومنحها لشركة "سوناطراك"، قبل أن يؤمم القطاع بأكمله في عام 1971، مستحوذاً على 51% من الأسهم ومانحاً الشركة سلطة إدارة موارد القطاع بأكملها.

وأصبحت الشركة بمثابة دولة داخل دولة

وعلى مدار العقد التالي، توطدت مكانة "سوناطراك" كدولةٍ داخل الدولة.

إذ كانت الجزائر قد شرعت بالفعل في استراتيجية اقتصادية على الطراز السوفييتي، تستغل إيرادات البترول التي تولدها كلها شركة "سوناطراك" لتمويل المشروعات التنموية، ما جعل الشركة وشبكات المصالح التابعة لها بالأساس بالغة الأهمية لجميع الأطراف السياسية في الجزائر تقريباً.

ونتيجةً لذلك، سرعان ما صارت الشركة هي اللاعب الرئيسي في قطاع الطاقة الجزائري، والمشرف على المراحل الأولية في إنتاج البترول والغاز، والمواد البتروكيميائية، وتوزيع الوقود وعملية التكرير، بالإضافة إلى عددٍ من المهام الرقابية الأخرى.

وفي ثماني سنواتٍ فقط، تحولت "سوناطراك" من كونها تجربةً جزائرية إلى واحدةٍ من أهم شركات الطاقة في الشرق الأوسط.

الجزائر بعد تأميم البترول

حين توفي بومدين عام 1978، كانت "سوناطراك" قد عززت سيطرتها على كامل قطاع الطاقة في الجزائر، بما في ذلك جميع الأصول المتبقية التي كانت تمتلكها فرنسا.

إلا أنَّ حجم الشركة ونطاقها ونفوذها أدى أيضاً إلى فسادٍ منهجي، وسوء في الإدارة وقصور لا يزال موجوداً بطريقةٍ ما إلى يومنا هذا.

ثم كانت هناك سلسلة من الإصلاحات خلال الثمانينيات والتسعينيات تهدف إلى مراجعة بعض نقاط القوة لدى الشركة، وذلك ضمن التحول العام في الجزائر إلى الاقتصاد الحر، والذي شمل تحويل المؤسسات الجزائرية التابعة للدولة إلى مؤسسات ذات توجه سوقي.

وعلى مر العقدين التاليين، تحولت الجزائر من دولة اشتراكية قائمة على حزبٍ واحد تسيطر عليها العلاقات الوثيقة بين "سوناطراك" وجبهة التحرير الوطني الجزائرية إلى دولةٍ متعددة الأحزاب، بها مجموعة متنوعة من أصحاب المصالح الذين يوجهون السياسة.

وعادت الشركات الأجنبية إلى البلاد مرة أخرى

في هذه الأثناء كانت الجزائر تعاني من تراجعٍ في إنتاج البترول، بلغ ذروته بتدني الأسعار إلى أقل من 10 دولارات للبرميل في عام 1986. ولتوقها إلى الإيرادات، سنَّت الجزائر العاصمة قانوناً خاصاً بالمواد الهيدروكربونية، أعاد فتح قطاع الطاقة الجزائري بصورةٍ أكبر أمام شركات البترول الدولية (وذلك على الرغم من صعوبة شروط الاستثمار). إلا أنَّ التغييرات الاقتصادية والسياسية لم تمس نفوذ شركة "سوناطراك" ودورها في ذلك القطاع بالغ الأهمية من الناحية المالية.

والواقع أنَّ نفوذها قد توطد بشكلٍ من الأشكال خلال تلك الفترة، إذ كانت إصلاحات النفط تتطلب تعاون الشركات الأجنبية معها؛ ما رسخ مكانتها كحارس لبوابة قطاع البترول والغاز في الجزائر.

وبهذا فإنَّ انخفاض أسعار البترول، إلى جانب دوامة التدهور الاقتصادي التي أصابت الجزائر في الثمانينيات، كل هذا أجبر البلاد على النظر في طرقٍ لفتح اقتصادها بحثاً عن حلٍ للأزمة. لكنَّ تجربة البلد مع التحرر، والتي شملت قانون المواد الهيدروكربونية عام 1986، فشلت سريعاً.

وفي عام 1988، وعدت الحكومة بإجراء انتخاباتٍ تعددية، وذلك رداً على الاحتجاجات العارمة التي اندلعت وقتها. إلا أنَّه بعد مرور أربعة أعوامٍ فقط، منع الجيش استكمال تلك الانتخابات بعد فوز الإسلاميين بمرحلتها الأولى، مفُسحاً الطريق أمام حقبة التسعينيات الكارثية، التي شهدت حرباً أهلية دامت عقداً كاملاً، وبرنامجيّ استقرارٍ مضنيين قدمهما صندوق النقد الدولي.

سوناطراك في عهد بوتفليقة.. محطة تنافس بين نخب متعددة

كانت هذه الفترة المظلمة حافزاً جديداً للحكومة الجزائرية لتحقيق التنمية والاستقرار الاقتصاديين، واللذين استطاع بوتفليقة بعد أن أمسك بزمام السلطة عام 1999 تحقيقهما بدرجةٍ كبيرة؛ ويرجع الفضل في نجاحه إلى الزيادة في أسعار البترول، الذي ارتفع متوسط سعره سريعاً من 18 دولاراً للبرميل عام 1999 إلى 111 دولاراً عام 2011.

وكانت عملية وضع السياسات والإدارة الاقتصادية والسياسية تحت حكم بوتفليقة إلى حدٍ كبير نتاجاً للمنافسة بين مجموعة من المؤسسات التي تُشكل "السلطة" في الجزائر، المعروفة باسم "لو بوفوار"، والتي شملت بوتفليقة وحلفاءه السياسيين، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ودائرة الاستعلام والأمن (دائرة المخابرات الجزائرية التي تُعرف باختصارها الفرنسي DRS)، والجيش، و"سوناطراك"، وعدداً من منظمات المجتمع المدني (مثل النقابات).

وقد سعى بوتفليقة إلى تحقيق التحرر الاقتصادي، ورأى في جلب نخبة رجال الأعمال في الجزائر إلى المقدمة وسيلةً لمقاومة هيمنة دائرة الاستعلام والأمن.

وللقيام بذلك، عيّن شكيب خليل -الذي درس هندسة البترول في جامعة "تكساس إيه أن إم"، وكان قد قضى العقدين السابقين في البنك الدولي- وزيراً للبترول ليُطبق إصلاحاتٍ هامة في قطاع الطاقة.

ولاحقاً، وضع خليل قانون المواد الهيدروكربونية عام 2005، الذي جرَّد "سوناطراك" من مهامها الرقابية، ومنحها لمؤسسةٍ أخرى كانت قد أُنشئت مؤخراً.

سمح القانون بحصول شركات البترول والغاز الدولية على كامل ملكية المشروعات التي تُنفذها داخل البلاد، ما أجبر "سوناطراك" على منافسة تلك الشركات من أجل الحصول على التعاقدات. إلا أنَّ تلك الإصلاحات هددت بكشف وإقصاء شبكات المصالح التي كانت تستند إلى الدور السياسي المهيمن للشركة، والتي كانت مصدراً أساسياً لإيرادات الحكومة.

ومن ثم، كانت حماية نصيب "سوناطراك" من الكعكة أمراً بالغ الأهمية لجماعة بوتفليقة، وكذلك لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي لم تكن لديها وسائل أخرى كثيرة لملء خزائنها.

ولذلك لم يعش قانون المواد الهيدروكربونية طويلاً، والذي كان يُمكِّن شركات البترول والغاز الدولية من إقامة مشروعات البترول والغاز بصورةٍ مستقلة لأول مرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ففي عام 2006، تراجع بوتفليقة عن تلك الإصلاحات، قائلاً إنَّ شركات البترول والغاز والدولية لا يمكنها ممارسة الأنشطة الاستكشافية والإنتاجية إلا بمشاركة "سوناطراك"، التي ستحصل على حصةٍ من الأسهم تبلغ 51%. ومنذ ذلك الحين ظل قانون المواد الهيدروكربونية على حاله بشكلٍ أو بآخر.

ثم ردت المخابرات على بوتفليقة باستهداف قيادات الشركة

وفي النهاية صارت محاولات خليل لإصلاح قطاع الطاقة، إلى جانب مجهودات بوتفليقة الأوسع للانفتاح، وشبكات مصالح "سوناطراك" نفسها، هدفاً لدائرة الاستعلام والأمن (DRS) لتقويض نفوذ بوتفليقة.

بدأت دائرة المخابرات عام 2010 تحقيقاً استهدف أعلى القيادات في الشركة؛ واعتقلت رئيسها التنفيذي على إثر تهمٍ بالفساد أدت في النهاية إلى استقالة خليل. وبينما تففكت دائرة الاستعلام والأمن منذ ذلك الحين، إلا أنَّ هاتين الفضيحتين في "سوناطراك"، أو "تحقيقات سوناطراك" كما سُميت، توضح السُبُل التي يتنافس بها نخبة السياسيين الجزائريين على السلطة والنفوذ من خلال "سوناطراك" وقطاع الطاقة.   

ونتيجة كل هذا معاناة قطاع النفط التي نشهدها اليوم

استمرت هذه المنافسة السياسية على إدارة "سوناطراك" في الأعوام الأخيرة في تشكيل عبءٍ على قطاع الطاقة الجزائري، وذلك من خلال إبطاء محاولات تنفيذ الإصلاحات التي يحتاجها القطاع بشدة.

ولم تُنفَّذ الإصلاحات التي تحتاجها الجزائر لمعالجة أزماتها الاقتصادية في خضم الأزمات السياسية الكثيرة التي أصابتها على مر السنوات الخمس الماضية.

عندما ترتفع أسعار البترول، أي تزيد عن 100 دولار تقريباً، كما كانت بين عامي 2010 و2013، يغطي ذلك سوء الإدارة وقلة الكفاءة اللذين يسودان الاقتصاد السياسي الجزائري وقطاع الطاقة من خلال الأرباح الاستثنائية. بينما عندما تقل الأسعار عن 100 دولار، وهو تقريباً السعر الذي تحتاجه الجزائر من أجل تحقيق التوازن في ميزانيتها، سرعان ما تصير تلك المشكلات ظاهرةً للعيان.

وفي معاناته بسبب انعدام الإصلاحات والاستثمارات، تراجع إنتاج البترول من الذروة التي وصل إليها عام 2007، والتي بلغ فيها الإنتاج 1.99 مليون برميل يومياً، إلى 1.54 مليون برميل فقط يومياً عام 2017.

وفي حين تعافى إنتاج الغاز الطبيعي في الجزائر ووصل إلى 91.2 مليار متر مكعب سنوياً منذ انحدر إلى القاع عام 2009، إلا أنَّه لم يعد مرةً أخرى إلى ذروته التي كان قد وصل إليها عام 2003، حينما بلغ الإنتاج 93.9 متر مكعب سنوياً.

تدرك "سوناطراك" ومعها وزارة الطاقة والمناجم بوضوح التحديات التي تواجه قطاع الطاقة الجزائري، وكانتا ولا تزالان تحاولان مواجهتها من خلال تمرير تحديثٍ جديد لقانون المواد الهيدروكربونية في البلاد.

ففي يناير/كانون الثاني الماضي، قيل إنَّ الرئيس التنفيذي السابق للشركة، وهو عبدالمؤمن ولد قدور، وضع صيغةً نهائية لإصلاحاتٍ تهدف إلى تحسين الشروط المالية القاسية التي فرضتها الجزائر على شركات البترول والغاز الدولية.

لكنَّ حركة الاحتجاجات الجزائرية، متبوعةً بعزل بوتفليقة في أبريل/نيسان 2019، والمسار الغامض للمرحلة الانتقالية بعده، أوقفت مواصلة هذه المجهودات.

وربما كان الأهم من ذلك الضغط المنهجي من جانب قائد الجيش أحمد قايد صالح والسلطة القضائية لملاحقة الفساد بين رجال الأعمال وفي "سوناطراك"، الذين يعد كثيرون منهم من المقربين من بوتفليقة.

فمنذ أبريل/نيسان 2019، دعا صالح إلى إعادة فتح التحقيقات بشأن الشركة، وإلى الآن يشمل ذلك ولد قدور (الذي فقد وظيفته في سوناطراك في أبريل) وخليل (وزير الطاقة السابق الذي يخضع حالياً للتحقيقات).

وفي حال كانت هذه هي الحملة الثالثة التي تُشن على "سوناطراك"، فالراجح أنَّها ستكون قضية متعمقة وطويلة، وفي تلك الحالة ستُؤجَّل أي إصلاحاتٍ جوهرية في قطاع النفط إلى العام المقبل على أقل تقدير.

مستقبل غامض أمام سوناطراك

بمجرد تشكيل حكومةٍ جديدة، سيستمر من يصل إلى السلطة في محاولة إيقاف ذلك التراجع في إنتاج النفط الجزائري، بالإضافة إلى محاولة زيادة إنتاج الغاز من خلال تطبيق الإصلاحات، إذ يظل قطاع الطاقة (وسوناطراك) هو المصدر الرئيسي للثروة الاقتصادية وشبكات المصالح التي ستحتاجها القيادة الجديدة لتوطيد سلطتها.

لكن بصرف النظر عمن سيتولى القيادة، فإنَّ إمكانية تطور هيكل المشهد السياسي في الجزائر ما زالت محدودة. وبينما يمكن أن تهيمن فصائل السلطة المختلفة على المشهد بصفةٍ دورية، إلا أنَّ النظام سيبقى كما هو على الأرجح، وبالتبعية سيستمر الدور الذي تلعبه "سوناطراك" فيه.

ولهذا السبب، فإنَّ أي إصلاحاتٍ جديدة تطرحها الحكومة الجزائرية الجديدة ستكون مجرد جهودٍ محدودة للغاية، ولن تكون الإصلاحات الشاملة المطلوبة من أجل إعادة قطاع البترول واقتصاد البلاد إلى قوته.

وقد أعلن وزير الطاقة الجزائري الجديد بالفعل أنَّ الإصلاحات المُقترحة حالياً لن تلغي حصة سوناطراك (51% من حصة المشروعات الأجنبية) المنصوص عليها سابقاً.

فبالإضافة إلى نفوذها السياسي وقوتها الاقتصادية، تستغل "سوناطراك" نزعةً وطنية تعمل على تخفيف الضغط من أجل زيادة الممتلكات الأجنبية في قطاع البترول والغاز الجزائري.

فعندما أمم بومدين قطاع البترول الجزائري عام 1971، بشَّر في البداية بهذه الخطوة باعتبارها آخر حبل يربط الجزائر بفرنسا، مصوراً توطيد "سوناطراك" سلطتها كجزءٍ رئيسي في المرحلة الانتقالية لجزائر ما بعد الثورة. إذ كانت الجزائر بالأساس دولة ثورية، وكانت سوناطراك هي رمز حماسها الثوري.

وقد منح ذلك شركة البترول بريقاً أيديولوجياً لا تزال تتمتع به إلى يومنا هذا، تجلى من خلال إعراب الجزائر مؤخراً عن نيتها تعطيل اقتراح كان من شأنه أن يجعل الشركة الفرنسية الضخمة "توتال" أكبر منتج أجنبي للبترول في البلاد.

وفي الواقع، لا تزال "سوناطراك" بالنسبة إلى العديد من الجزائريين تذكيراً حياً بالكفاح الثوري الذي شهدته، وخوفها من سرقة ثرواتها النفطية وإرسالها خارج البلاد.

علامات:
تحميل المزيد