يبدو أن الإيرانيين والأمريكيين في مأزق، فكلاهما يقوم بالتصعيد، وكلاهما لا يريد الحرب، فهل هناك تسوية بين أمريكا وإيران يمكن أن تحفظ ماء وجه البلدين وتمنع وصول الأمور لحرب لا يريدها أحد؟
في مواجهة احتمالات فشل خطة الضغط الأمريكي على إيران، عرض تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية مقترح حل وسط بين ترامب وإيران من شأنه إنهاء الأزمة دون خسائر كبيرة لأي منهما.
احتمالات المواجهة العسكرية بدأت كبيرة ثم تراجعت
في أوائل شهر مايو/أيار السابق، خرج مسؤولون من إيران والولايات المتحدة بخطاباتٍ شديدة اللهجة، وبدا أنَّ الخصمين اللدودَين على وشك الاشتباك في مواجهةٍ عسكريةٍ.
فقررت إدارة دونالد ترامب عدم تجديد التنازلات التي منحتها مسبقاً إلى بضع دولٍ لتسمح لها باستيراد النفط من إيران، وردَّت طهران بتعطيل بعض الالتزامات المفروضة عليها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، أو ما يُعرف بالاتفاق النووي.
علاوةً على ذلك، وُجِّهَت للجمهورية الإسلامية اتهاماتٌ بمسؤوليتها عن تنفيذ هجماتٍ غامضةٍ على أربع ناقلات نفط، وعملية قصفٍ جويٍّ على خط أنابيب نفطٍ سعوديٍّ. واتُّهمت أيضاً بالتخطيط لمهاجمة القوات الأمريكية في العراق وسوريا (وفقاً لصحيفة The New York Times). وردَّت الولايات المتحدة بإرسال حاملة طائراتٍ إلى الخليج العربي، وإعلان تخطيطها إرسال مزيدٍ من القوات إلى المنطقة.
وبحلول أوائل يونيو/حزيران الجاري، بدا أنَّ احتمالات نشوب مواجهةٍ عسكريةٍ قد تلاشت.
والآن ترامب يستبعد تغيير النظام، وروحاني مستعد للمفاوضات
فقد صرَّح الرئيس دونالد ترامب بأنَّ إدارته لا تسعى إلى تغيير النظام في طهران، فيما اقترح نظيره الإيراني حسن روحاني إمكانية عقد مباحثاتٍ في حال أبدت الولايات المتحدة احتراماً لدولته.
وفي أثناء ذلك، أعرب رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي عن اهتمامه بالتوسُّط في الأزمة بين طهران وواشنطن. وبعد التقاء وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بنظيره السويسري إغنازيو كاسيس، أعلن بومبيو أنَّ الولايات المتحدة على استعدادٍ للتحاور مع إيران دون أية شروطٍ مسبقةٍ. كل هذه التطورات تطرح ثلاثة أسئلةٍ: هل يمكن الوصول إلى تسويةٍ تحفظ ماء وجه الطرفين؟ وما شكل هذه التسوية؟ وكيف يمكن للوفاق بين طهران وواشنطن أن يُسهم في إرساء بنيةٍ أمنيةٍ جديدةٍ في الشرق الأوسط؟
ما هو سر قوة إيران؟
منذ توليه مقاليد الحكم، سعى الرئيس دونالد ترامب نحو إعادة القوات الأمريكية إلى الديار وتجنُّب المواجهات العسكرية.
وقد حذَّر عديدٌ من المحلِّلين السياسيين من المواجهة ضد إيران، وهي دولةٌ يزيد تعدادها السكانيُّ عن 80 مليوناً، وتملك شبكةً واسعةً من الأذرع المسلَّحة والحلفاء، ومركزاً أساسياً في سوق الطاقة العالمية.
وعلى الجانب الآخر، رغم خضوعها لعقوباتٍ اقتصاديةٍ غير مسبوقةٍ واستهداف الولايات المتحدة لها بـ "الضغط الأقصى"، فإن طهران تمارس ما يسمِّيه قادتها "الصبر الاستراتيجي". إذ صرَّح آية الله الخميني، والرئيس روحاني، وقادةٌ إيرانيون آخرون، مراراً وتكراراً، بأنَّ دولتهم لا ترغب في الحرب.
وأخيراً، يمكن القول إنَّ القوى الإقليمية الآخرى لا تريد حرباً بين طهران وواشنطن، نظراً لأنَّ حرباً كهذه من شأنها زعزعة استقرار المنطقة بأسرها. وإنما من المرجَّح أن القادة الإقليميين يحبِّذون أن يروا واشنطن تحتوي خصمتهم اللدودة طهران؛ لأنَّ احتواءها على المدى الطويل سيضمن فرض قيودٍ على التطلُّعات الاقتصادية والتنموية العسكرية في إيران.
الاستراتيجية التي يستخدمها القادة الإيرانيون للتعامل مع عدو متفوق عنهم بشكل ساحق
وإلى جانب الافتقار إلى الإرادة السياسية للاشتباك في مواجهةٍ عسكريةٍ، فقد طوَّر الاستراتيجيون الإيرانيون استراتيجيةً قائمةً على حربٍ غير متكافئةٍ وتبنُّوها.
وحسب تعريف وزارة الدفاع الأمريكية، فإن هذا النوع من الحروب يعني "تطبيق استراتيجياتٍ وتكتيكاتٍ وقدراتٍ ووسائل متباينةٍ للتحايل على نقاط قوة الخصم أو إبطالها، واستغلال نقاط ضعفه في الوقت نفسه".
وفي هذا السياق، فإنَّ طهران قد طوَّرت قدراتٍ لا يُستهان بها من القوة البحرية وتكتيكات الحرب السيبرانية والصواريخ الباليستية. وتبعث هذه القدرات برسالة واضحة مفادها أنَّ المواجهة العسكرية مع طهران (سواءٌ كانت اجتياحاً كاملاً أم عمليةً دقيقةً أم شيئاً آخر) ستكلِّف صاحبها ثمناً باهظاً. وأخيراً، فإنَّ الحربَين في أفغانستان (البادئة عام 2001) وفي العراق (البادئة عام 2003) تُبيِّنان أنَّ المواجهات العسكرية تخرج عن نطاق السيطرة، وتُثبتان مدى صعوبة الوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ لإنهاء الحرب.
بعبارة موجزة، فإنَّ الدرس المهم من هاتين الحربَين هو أنَّ دخول الحرب أسهل من الخروج منها. وجديرٌ بالذكر أنَّ أفغانستان والعراق هما دولتان صغيرتان من ناحية عدد السكان، ولا تتمتعان بهويةٍ قومية بقوة هوية إيران.
في ظل هذا كله، يبدو أنَّ القادة السياسيين والعسكريين في كلٍّ من طهران وواشنطن قد خَلصوا إلى أنَّ نجاح تطبيق الخيارات العسكرية لمعالجة خلافاتهما الاستراتيجية هو أمرٌ بعيد المنال. فمن شأن الطرفين أن يدفعا الثمن غالياً، ولسوف تعاني المنطقة بأسرها من المزيد من الفوضى السياسية والاقتصادية.
فعلامَ تشتمل التسوية إذاً؟
هل يمكن وضع تسوية بين أمريكا وإيران ؟ ثلاثة خلافات يمكن حل أحدها فقط
لقد أعربت إدارة ترامب عن اعتراضها الشديد على ثلاث سياساتٍ إيرانيةٍ أساسيةٍ: أولاً، دعم طهران للميليشيات والحلفاء في الصراعات الإقليمية؛ وثانياً، برنامجها للصواريخ الباليستية؛ وثالثاً والأهم هو برنامجها النووي.
وبتدقيق النظر في سياسات طهران نجد أنَّ الجمهورية الإسلامية ليس من المرجَّح أن تبدِّل موقفها من مسألتَي الصواريخ والصراعات الإقليمية، وبغض النظر عن الخطاب السياسي، فهي ستقبل الوصول إلى تسويةٍ بشأن الاتفاق النووي.
لأنها دولة شيعية فارسية في محيط عربي سُني، فهي لن تتخلى عن هؤلاء
إيران هي دولةٌ فارسيةٌ وشيعيةٌ في شرقٍ أوسط يتألَّف معظمه من العرب والسنِّيين، لذا فهي تُعدُّ أقليةً وسط جيرانها.
لكن تتمتع طهران بعلاقاتٍ تاريخيةٍ مع مجتمعاتٍ عرقيةٍ وطائفيةٍ في عددٍ من الدول المجاورة. وهذه العلاقات الوثيقة مع حزب الله في لبنان، ونظام الأسد في سوريا، والميليشيات الشيعية في العراق تُعتَبَر مسألة أمنٍ قوميٍّ في طهران.
إذ إنَّ حزب الله يوفِّر أمام طهران الخيار للقصاص في حال هجمت إسرائيل. أما الميليشيات الشيعية والأحزاب السياسية في العراق فتضمن عدم وجود حكومةٍ معاديةٍ في بغداد مثل الحكومات التي كانت موجودةً قبل 2003.
والصواريخ الباليستية تعتبر وسيلة لمعالجة أبرز نقاط ضعفها
وبالمثل، فإنَّ الصواريخ الباليستية تُعطي طهران القدرة على سدِّ الفجوة بين قواتها الجوية الضعيفة والقوات الجوية الخاصة بالولايات المتحدة وحلفائها. إذ تعني الصواريخ قدرة إيران على القصاص بعد أي تصعيدٍ عسكريٍّ.
ومنذ الثمانينيات، استثمرت الجمهورية الإسلامية بقوةٍ في تطوير برنامج صواريخ باليستيةٍ محليٍّ. ونتيجةً لذلك، أصبحت الدولة تملك برامج صواريخ متنوعة يمكنها الوصول إلى أي مكانٍ تقريباً في الشرق الأوسط.
ويرى القادة الإيرانيون استعداداتهم الصاروخية باعتبارها فرصةً للبقاء. وقد قبلوا بالفعل عدم زيادة مدى صواريخهم الموجودة، لكن من المؤكَّد أنَّهم سيواصلون العمل على تحسين دقتها، وليس من المرجَّح أن يقبلوا أي قيودٍ على اختبار ترسانتهم وتطويرها.
الحل إذاً موجود في البرنامج النووي الإيراني
على العكس من السياسات الإقليمية والصواريخ الباليستية، يُفسح البرنامج النووي المجال لطهران وواشنطن للوصول إلى أرضيةٍ مشتركةٍ.
وقد أصرَّ القادة الإيرانيون على أنَّهم غير مهتمِّين بتصنيع أسلحةٍ نوويةٍ.
ويزعمون أنَّه لا توجد أغراضٌ عسكريةٌ من وراء البرنامج، وأنَّه مخصَّصٌ لأغراضٍ مدنيةٍ فقط. وأثناء المباحثات التي أدَّت إلى توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة في يوليو/تموز 2015، رفض الإيرانيون فرض أية قيودٍ على استعداداتهم الصاروخية، لكنَّهم قبلوا فرض قيودٍ مؤقتةٍ على برنامجهم النووي.
لذا فيمكن للتسوية أن تشتمل على تمديد القيود التي قبلتها طهران مسبقاً في مقابل رفع جميع العقوبات (المرتبطة بالبرنامج النووي وكذلك المرتبطة بالإرهاب وحقوق الإنسان).
ويمكن لمجلس الشيوخ الأمريكي التصديق على هذا الاتفاق المعدَّل، ويمكن للرئيس ترامب أن يزعم بأنَّه وصل بالتفاوض إلى اتفاقٍ أفضل من الذي وصل إليه سلفه باراك أوباما.
كيف يمكن للتسوية الإسهام في إرساء بنية أمنية إقليمية جديدة؟
المهم هو طمأنة شركاء أمريكا الآخرين بالمنطقة وإنشاء بنية أمنية شاملة
لا شك في أنَّ استراتيجية "الضغط الأقصى" تصعِّب الحياة على حكومة طهران وأغلبية الشعب الإيراني.
ومع ذلك، فمن المُستبعَد أن يؤدِّي هذا الضغط إلى تحوُّلٍ جذريٍّ في السياسة. إذ إنَّ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 كانت تقودها بنسبةٍ كبيرةٍ العداوة ضد تغلغل أمريكا في الحكومة والمجتمع الإيرانيَّين.
ولأجيالٍ، اعتبر الإيرانيون دولتهم ضحيةً لتدخُّل القوى الدولية، بما فيها روسيا وبريطانيا والآن الولايات المتحدة. ويؤمنون بأنَّ هذه القوى الدولية قد حرمت إيران من الزعامة الإقليمية التي تستحقها. والعقوبات الاقتصادية تعزِّز هذا الشعور بدور الضحية، ومن غير المرجَّح أن تؤدي إلى تحوُّلٍ كبيرٍ في السياسة.
لا ينبغي لأي اتفاقٍ معدَّل مع إيران يشمل تنازلاتٍ من جميع الأطراف أن يأتي على حساب قوى إقليميةٍ أخرى، كإسرائيل والسعودية والإمارات. وقد اقترحت طهران في الأسابيع الماضية توقيع معاهدة عدم اعتداءٍ مع جيرانها العرب، لكن رفضت الرياض وأبوظبي هذه المبادرة. ومع ذلك، يمكن التخفيف من حدة التوترات بين دول الشرق الأوسط إذا تحسَّنت علاقة إيران مع جيرانها.
لا يجب على الدول العربية أن ترى إيران عدواً مشتركاً لكي تتعاون في ما بينها. ولكن ما على دول الشرق الأوسط الكبرى إلا أن تتَّفق على بنيةٍ أمنية إقليمية شاملة. فمن شأن هذا أن يكون اقتراحاً يُفيد الجميع ويمهِّد الطريق نحو السلام العالمي.