يعرف كل لاعبي لعبة الفيديو الاستراتيجية الرائجة Civiliztion أنَّ عليه الضغط على زر الحفظ قبل دخول معركة غزوٍ غبيّ ومحفوف بالمخاطر في دولةٍ أجنبية.
وفي حالة غزو العراق عام 2003، بدا بوضوحٍ بعد الأشهر الأولى من الغزو أنَّ الحرب لا تسير كمَّا تصوَّر مدبروها. لم يكن فشلهم في العثور على أي أسلحةٍ للدمار الشامل إلَّا البداية للكارثة التي حلَّت بعد ذاك من مصالحاتٍ فاشلة، وانهيارٍ للدولة، وانعدامٍ للأهلية التنفيذية، بحسب تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
ماذا لو كنَّا قد ضغطنا زر "حفظ اللعبة" قبل أن نغزو العراق؟ كيف ستبدو خيارات أمريكا الاستراتيجية اليوم؟
في الشرق الأوسط أجبرت واشنطن على تكريس اهتمامها العسكري والسياسي على النفوذ الإيراني في المنطقة
كيف يمكن للولايات المتحدة التعامُل مع دولتين عدوانيتين ومتجاورتين في الوقت ذاته؟ اليوم، يدرك الحُكماء مِنَّا أنَّ سياسة "الاحتواء المزدوج" قد كانت، في أغلب الأمر، حلاً للمشكلة نفسها. إذ كانت العدواة بين حكومة صدام حسين وإيران تعني أنَّ كلتا الدولتين لن تستطيع تحقيق نفوذٍ موسَّع في الخليج.
في أعقاب حرب العراق، تحوَّلت سياسة "الاحتواء المزدوج" إلى سياسة "التعامل مع الدول ذات الحال المتدهور"، فيما لم يعُد العراق طرفاً استراتيجياً ذا أهمية، وازداد النفوذ الإيراني في العراق، وسوريا، ولبنان.
وبينما انتهى القلق الأمريكي من صدام حسين، أُجبِرَت الولايات المتحدة على تكريس اهتمامها العسكري والسياسي لا فقط للإبقاء على حكومة بغداد المتزعزعة، بل لمقاومة السُّلطة الإيرانية في المنطقة.
هل كان لحرب العراق أثر على الربيع العربي؟
تزداد صعوبة استيضاح ذلك، فقد كان مدبِّرو الحرب يأملون أن يحفز تأسيس دولةٍ عراقية ديمقراطية ردود فعلٍ مناهضة لأنظمة الاستبدادية في المنطقة، ومع ذلك فقد أملوا أيضاً ألَّا يطال هذا عملاء الولايات المتحدة (ومن بينهم مصر، والسعودية، ودول الخليج).
وحدث شيءٌ شبيهٌ بذاك التوقُّع بالفعل في عام 2011، لكنَّه لم يكن إلا بعد أن استنتج أغلب مَن في المنطقة أنَّ غزو العراق كان فشلاً كارثياً.
وبالفعل، لم يؤت الربيع العربي سوى ثمار محدودة في أفضل الحالات. تمثُّل تونس أوضَح حالات النجاح بينها، فيما هوَت ليبيا ضحيةً للفوضي، وأعادت القوى الاستبدادية فرض سلطتها من جديد في مصر، وأصبحت سوريا ساحةً لوضع لا ينتهي من العنف والوحشية.
وفي العراق نفسه، يبدو أنَّ الإرث الذي تركه غزو 2003 هوَ عجز أمريكا عن التنصُّل من مسؤولياتها تجاة الحكومة العراقية الجديدة، إذ ما زالت الولايات المتحدة تحل محل القوات الجوية العراقية، وما زالت تعاني في محاولةً تدريب قواتٍ عسكرية عراقية يمكن الاعتماد عليها.
هل كان الاحتواء المزدوج سياسة يمكن التمسُّك بها على المدى الطويل؟
تكلفت الولايات المتحدة دماً ومالاً على مدار عام 2003 أكثر بكثير ممَّا خسرته طوال الفترة بين عامي 1991 إلى 2003، لذا فمن وجهة نظرٍ عسكرية ومالية بحته، الإجابة هي "نعم" بلا شك.
وفيما كانت سياسة الاحتواء المزدوج لتسمح ببقاء نظام صدام حسين في السلطة، إلَّا أنَّها كانت لتتفادى وقوع الأسوأ وهو الحروب الأهلية المختلفة التي ضربت العراق على مدار الأعوام الاثني عشرة الماضية.
هل استغلت روسيا أو الصين الغزو الأمريكي للعراق للدفع بمصالحها الخاصة؟
تتطلَّب الإجابة عن هذا السؤال أن نسأل أولاً: "كيف كان ليتغير السلوك الروسي أو الصيني إذا ما تجنَّبت الولايات المتحدة دخول مستنقع حرب العراق؟"، الأرجح أن تكون الإجابة: "ليس كثيراً".
بالتأكيد شغلت الحملة على العراق انتباه الولايات المتحدة واستنزفت الموارد الأمريكية، لكنَّ حدوث تدخلٍ عسكري أمريكي في حملةٍ تكون روسيا أو الصين من أطرافها كان احتمالاً ضئيلاً في كل الحالات.
إنَّ النزاع الوحيد الذي ربما احتُمِل أن يكون للولايات المتحدة دورٌ فيه هو حرب جنوب أوسيتا عام 2008. عندئذٍ، وبرغم محاولات الجورجيين المستميتة لطلب التدخل الأمريكي، إلَّا أنَّ إدارة بوش تحلَّت بالحكمة وقصرت دعمها لجورجيا على البيانات.
يرجع صعود الصين والعدائية المتزايدة من روسيا لعوامل جيوسياسية أكثر من أن يكون لها صلةٌ محدَّدة بحرب العراق. في أفضل تقدير، قد نجد علاقةً بين ارتفاع أسعار النفط في أعقاب العراق وقوَّة الدولة الروسية (لم تستفد الصين من أسعار النفط المرتفعة. إلَّا أنَّ ارتفاع أسعار النفط بعد عام 2003 يعود الفضل فيه لنمو الاقتصادين الصيني والهندي بقدر ما هوَ ناتجٌ عن قرار غزو العراق).
الأمر المؤكَّد هو أنَّ روسيا والصين تمتَّعتا بمآرب قوةٍ ناعمة إثر الغزو الأمريكي للعراق
فموسكو تردُّ بانتظامٍ على النقد الأمريكي لتجاوزاتها في أوكرانيا بالإشارة إلى غزو عام 2003، إلَّا أنَّها تذكر كذلك حرب كوسوفو والتدخُّل الأمريكي في ليبيا عام 2011.
وكذلك اعتادت بكين التشكُّك في الذرائع الأمريكية لاستغلال بحر الصين الجنوبي، مدفوعةٌ إلى حدٍّ ما باستياءٍ باقٍ من غزو العراق. إلَّا أن الآثار طويلة الأمد لدَفعة القوة الناعمة هذه ما زالت غير واضحة.
غزو العراق أثّر على أفغانستان بطريقتين
الأولى، أنَّه حوَّل مسار موارد الحكومة الأمريكية من أفغانستان إلى العراق في وقتٍ كانت حركة طالبان تتكبد فيه هزيمةً مدمَّرة.
وثانياً، قوَّض الغزو من شرعية الحرب الأمريكية في أفغانستان، إذ عُرِضَت العملية كما لو كانت إحدى خطط غزوٍ عديدة (محتملة) لدولٍ مسلمة، بدلاً من كونها جهداً ضرورياً على نحوٍ استثنائي للقضاء على النظام.
سيكون من المبالغة زعم أنَّ إيلاء مزيدٍ من الاهتمام لأفغانستان في منتصف العقد الفائت كان ليؤدي لتدمير حركة طالبان كلياً، ولإنهاء الحرب.
إنَّ بقاء ونجاة طالبان أمرٌ له جذورٌ أكثر تعقيداً، واجتثاثها أصعب، من مجرَّد تحويلٍ للموارد الأمريكية كما هوَ مُقترَح.
وفي الوقت ذاته، يصعب الجزم بأنَّ الانتباه لأفغانستان لم يكن ليجعلها دولةً أكثر أمناً على الأقل. وتحديداً، كان من شأن التعهُّد بالتزامٍ أمريكي قوي تجاه أفغانستان (وهو أمرٌ صار مستحيلاً بعد حرب العراق) أن يحدُّ من حجم الأذى الذي سعت باكستان لاقترافه في المنطقة.
على الصعيد المحلي الأمريكي كان هناك أثر لحرب العراق
إنَّ أعظم آثار حرب العراق، والقيود الأكثر ديمومة التي تسبَّبت في إرسائها، قد تتمثَّل في أثر النزاع على الجيش الأمريكي، وفي تغييرها موقف الأمريكيين تجاه استخدام القوة.
بالنسبة للأثر الأول (الجيش الأمريكي)، فإنَّ حرب العراق لا شك قد أبطأت سير أبحاث وتطوير أنظمة الأسلحة المتقدمة في وزارة الدفاع الأمريكي.
ودون حرب العراق، على سبيل المثال، ربما امتلكت الولايات المتحدة سرباً أكبر بكثير من طائرات F-22. ربما تلقَّت البحرية الأمريكية عدداً أكبر من المدمرات البحرية فئة زوموالت، وربما عندئذٍ لم يكن برنامج الأنظمة القتالية المستقبلية الأمريكي ليُقضَى عليه بشكلٍ شائن كما حدث.
وبالإضافة للتطوير في مجالاتٍ بعينها، ربما اتَّجهت وزارة الدفاع الأمريكية لتستغلَّ الفرصة في بداية الألفية لبحث عن عدد من اتجاهات التكنولوجيا "المدمرة" كانت لتضمن تقدُّمها على روسيا والصين بفارقٍ كبير عن وضعها الحالي.
إذ قد أعطى رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، أولوية واضحة لمثل هذه الأبحاث، هذا على الأقل قبل أن تُغيِّر حرب العراق خططه بالكامل.
لكن نادراً ما تسيطر التكنولوجيا المتاحة على عملية صُنع القرار الاستراتيجي. كان من شأن عدد أكبر من طائرات F-22 رابتور ومدمرات زوموالت أن يعزِّز حرية التصرُّف الأمريكية على الهوامش، لكنَّه لم يكن بالكاد ليُغيِّر مسار توجُّه النفوذ النسبي في شرق آسيا.
وبالمثل، لم يكن برنامج الأنظمة القتالية المستقبلية ليقدِّم كثيراً للولايات المتحدة في ما يخصُّ خياراتها السياسية لمقاومة التجاوزات الروسية في أوكرانيا.
لكن في المقابل استفادت أمريكا تكنولوجياً من حرب العراق ومعها أفغانستان
ومن الخطأ بوضوح اعتقاد أنَّ المال والاهتمام المبذول في العراق كان ليُحوَّل دون حدوث مشكلات إلى جهة الأبحاث والتطوير إذا ما قرَّرت إدارة بوش عدم التدخُّل في العراق.
والأكثر من ذلك، فإنَّ متطلبات حرب العراق في حد ذاتها (ومعها النزاع في أفغانستان) دفعت قدماً ببعض التقدُّم التكنولوجي. كشفت حرب العراق مشكلاتٍ مهمة في نظرة الجيش والقوَّات الجوية تحديداً لمستقبل الحرب، ما أدَّى لظهور ابتكاراتٍ تكنولوجية ومَذهبية حسَّنت من قُدرات الجيش الأمريكي القتالية.
ربما يتمثَّل التغيُّر الداخلي الأكبر في الولايات المتحدة في موقف الشعب من الحرب. فعلى مدار الأعوام الخمس عشرة التي تلت نهاية الحرب الباردة، أصبح الرأي العام في أمريكا أكثر تسامحاً مع استخدام القوة ممَّا كان عليه في حقبة ما بعد حرب فيتنام.
وغيَّرت حرب العراق هذا الرأي العام وبشكلٍ جذري. واليوم، قلةٌ فقط من المرشَّحين الجادين للمنصب الرئاسي في الولايات المتحدة يساندون دخول حربٍ برية محدودة حتى ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
فاز الرئيس أوباما بالانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية عام 2008 بفضل معارضته حرب العراق عام 2003، وأياً كان موقف المرء تجاه حرب الطائرات بدون طيارات التي شنَّها بعد ذاك، فمن الواضح أنَّ إدارة أوباما فضَّلت تبني سياساتٍ أقل تدخُّلية من سابقيه. ويبدو أنَّ هذا التفضيل يتوافق مع الرأي العام والنخبوي على حدٍّ سواء في ما يخص استخدام القوة.
هل يحدُّ هذا التحفُّظ الذي ظهر في رؤساء أمريكا بعد حرب العراق من خيارات أمريكا الاستراتيجية؟
لقد ساعدت أمريكا كل من فرنسا، والمملكة المتحدة، وقوات المعارضة الليبية على إطاحة نظام القذافي عام 2011، متجاوزةً أي تردُّد في استخدام القوة.
كما أن الولايات المتحدة ما زالت تشنُّ حرباً بطائرات بدون طيار وبالقوات الخاصة ضد القاعدة في مختلف مناطق الشرق الأوسط.
ومع ذلك، فإنَّ التردُّد حيال استخدام القوة ذاك قد لعب بالتأكيد دوراً ما في رد فعل إدارة أوباما تجاه النزاع السوري، الذي استمرَّ اندلاعه طوال الأعوام الأربعة الماضية بأقل تدخلٍ أمريكي ممكن.
التغيُّر الأكبر الذي أحدثه غزو العراق
تملك القوى العظمى رفاهية اقتراف أخطاء فادحة. إذ لم تغيِّر الأرواح العديدة والنفقات التي لا تنتهي التي ضخَّتها الولايات المتحدة في حرب فيتنام كثيراً من مجرى الحرب الباردة، عندما انهار الاقتصاد السوفييتي والمجتمع السوفييتي تحت وطأة ثِقلهما الذاتي.
وفي العصر الإمبراطوري، اقترفت بريطانيا، وفرنسا، روسيا بانتظام أخطاءً استراتيجية شنيعة بدت كارثية في وقتها، لكن كان تأثيرها طفيفاً على المشهد الاستراتيجي الأعم.
تتمثَّل التكلِفة المُزمنة من غزو العراق في آلاف القتلى من الأمريكيين، ومئات الآلاف الضحايا من العراقيين.
ستتوازن كفة أي اختلالٍ تكنولوجي خلقته الحرب بمرور الوقت، إذ لم "تفوِّت" الحرب على الولايات المتحدة أي فرصٍ تكنولوجية حرجة، بل أخَّرتها لا أكثر.
الأرجح أنَّ التغيُّر الأكبر الذي أحدثته الحرب هو في تأكيدها مجدداً على التحفُّظ التقليدي الذي يحمله العامة الأمريكيين تجاه التدخُّل العسكري في دولٍ أجنبية، وهو تحفظ كان قد خفَّ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، لكنَّه عاد الآن ليصبح عاملاً مهماً في صناعة السياسات الخارجية الأمريكية.
وإذا ما حدَّ هذا التحفظ من المرونة الاستراتيجية الأمريكية تجاه اقتراف أخطاءٍ مأساوية لدرجةٍ مروعة، إذن قد يأتي خيرٌ ما من حرب العراق.