تعتبر الاحتجاجات على مقتل فلويد هي أعمال الشغب الأخطر في أمريكا منذ أكثر من نصف قرن، فلماذا انجرفت الاحتجاجات إلى العنف بهذا الشكل؟
واضطرت السلطات إلى فرض حظر التجوال في مدن عديدة بالولايات المتحدة، من جراء اضطرابات واحتجاجات انتشرت في جميع أنحاء البلاد؛ اعتراضاً على مقتل جورج فلويد الأمريكي من أصول إفريقية، بعد أن ألقت الشرطة القبض عليه.
بدأت معظم الاحتجاجات سلمية، وظل عديد منها سلمياً. ومع ذلك، ففي عدد كبير منها، اشتبك المتظاهرون مع قوات الشرطة، وأضرموا النار في سياراتها، وعمد بعضهم إلى تخريب الممتلكات وآخرون إلى نهب المتاجر؛ وهو ما دفع الحرس الوطني إلى استدعاء 5 آلاف من أفراده في 15 ولاية، إلى جانب واشنطن العاصمة، حسبما ورد في تقرير لموقع شبكة BBC البريطانية.
والسؤال هنا، هو: كيف تنتشر الاحتجاجات بهذه السرعة، ولماذا يصبح بعضها عنيفاً؟
الاحتجاجات على مقتل فلويد تنتشر بسبب شعور الهوية المحتجين بهوية مشتركة
يقول البروفيسور كليفورد ستوت، وهو خبير في أنماط السلوك الجماهيري وشرطة النظام العام بجامعة كيل البريطانية، إن حوادث مثل مقتل فلويد يمكن أن "تصبح شرارة إطلاق، لأنها ترمز إلى تجربةٍ أوسع نطاقاً، بين عدد أكبر من الناس، فيما يتعلق بالعلاقة بين الشرطة ومجتمع السود".
ويضيف البروفيسور ستوت، أن المواجهات تتصاعد احتمالاتها، خاصةً عندما تكون هناك مظالم هيكلية.
درس البروفيسور ستوت أعمال الشغب في إنجلترا عام 2011 على نحو مكثف، وتبين له أن أعمال الشغب انتشرت آنذاك، لأن المتظاهرين في مدن مختلفة شعروا بتشابه بينهم؛ إما بسبب العرق وإما بسبب الاشتراك في كراهية الشرطة وممارساتها.
ما مدى أهمية تعامل الشرطة مع الأمور؟
يقول خبراء إن الاحتجاجات العنيفة تقل احتمالاتها عندما تكون للشرطة علاقة جيدة مع المجتمع المحلي، ومع ذلك فإنَّ رد فعلها الأوّلي على الاحتجاجات يكون مهماً أيضاً.
ويقول البروفيسور ستوت: "أعمال الشغب هي مجموع نتاج تفاعلات مختلفة، ترجع إلى حد كبير إلى طبيعة الطريقة التي تعامل بها الشرطة الحشود".
ويوضح ستوت بالقول، إن "الشرطة غالباً ما تتفاعل مع الحشود ككل دون تفرقة"، وإذا شعر الناس بأن استخدام الشرطة للقوة ضدهم أمر غير مبرر، يفضي هذا إلى مزيد من عقلية "نحن في مقابل هم".
ويشير إلى أن هذا "يمكن أن يغير الطريقة التي يشعر بها الناس حيال العنف وتصعيد المواجهة، وعلى سبيل المثال، قد يبدأون في الشعور بأن العنف مشروع في ظل هذه الظروف".
القنابل المسيلة للدموع تستفز المتظاهرين
ويعتقد دارنيل هنت، عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة كاليفورنيا، أن الشرطة "صعّدت من عدوانيتها" خلال عطلة نهاية الأسبوع.
إذ تشكل أمور، مثل "نشر الحرس الوطني، واستخدام الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل، مجموعةً من أساليب الشرطة التي يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الوضع المتوتر بالفعل".
يسلط الخبراء الضوء على سلسلة من تكتيكات الشرطة التي يُنظر إليها على أنها متشددة، والتي تضم إطلاق كميات كبيرة من الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين الشباب، بوصفها خطوات تشعل غضب المتظاهرين وتجعلهم أكثر حدة واستعداداً للمواجهة.
ويجادل البروفيسور ستوت بأن قوات الشرطة التي تستثمر في التدرب على كيفية تخفيف التصعيد، من المرجح أن تتجنب تحوُّل الاحتجاجات إلى العنف.
ويستدل على ذلك بالاحتجاجات التي تمكنت الشرطة من الإبقاء عليها سلميةً خلال عطلة نهاية الأسبوع، مثل الاحتجاجات التي شهدتها مدينة كامدن بولاية نيوجيرسي الأمريكية، والتي انضم فيها ضباط الشرطة إلى السكان في مسيرة ضد العنصرية.
كما تعتمد حدّة المظاهرات على طبيعة المسألة المطروحة ودور وسائل التواصل الاجتماعي
علم النفس الأخلاقي يمكن أن يكون له دور في تفسير سبب تحوُّل بعض الاحتجاجات إلى العنف، حسبما يقول مارلون موجيمان، وهو أستاذ مساعد متخصص بعلوم السلوك التنظيمي في جامعة رايس الأمريكية.
وقال موجيمان إن حساسية الشخص الأخلاقية أمر محوري في كيفية رؤيته لنفسه، لذا "عندما نرى شيئاً ما على أنه أمر غير أخلاقي، فإن ذلك يخلق مشاعر قوية فينا، لأننا نشعر بأننا مطالَبين بحماية مفاهيمنا الأخلاقية".
"وهذا الشعور القوي يمكن أن يجعل الناس يتجاوزون مخاوف أخرى لديهم بشأن الحفاظ على السلام مثلاً"، لأنه "عندما يسيطر عليك اعتقاد بأن المنظومة بها خلل ما، فإنك تريد أن تتخذ تصرفاً صارماً؛ لإظهار أن ذلك أمر غير مقبول بالنسبة إليك".
ويضيف موجيمان أن الدراسات تشير إلى أنَّ تردد الآراء وتبادلها عبر منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن يجعلا الأشخاص أكثر نزوعاً إلى تأييد العنف، طالما يعتقدون أن أقراناً لهم لديهم الآراء الأخلاقية ذاتها.
أعمال النهب والتخريب يمكن أن تكون أكثر تنظيمية مما تعتقد
تضررت مئات الشركات، وكانت هناك أعمال نهب واسعة النطاق في لوس أنجلوس ومينيابولس خلال عطلة نهاية الأسبوع.
ومع ذلك، يحذّر البروفيسور ستوت من أنه في حين أن الأسهل افتراض أن أعمال الشغب والحشد تلك، كانت "لا عقلانية وفوضوية، فإن ذلك غير صحيح، حيث إن الواقع أنها في غاية التنظيم وذات مغزى للأشخاص المشاركين فيها".
"إلى حد ما، تعد أعمال نهب تعبيراً عن ممارسة القوة، إذ ربما شعر المواطنون السود بالعجز أو الافتقار إلى القوة في مواجهة الشرطة، لكن في سياق أعمال الشعب، يصبح المشاغبون أقوى من الشرطة ولو للحظات".
وتُظهر دراسات لأعمال شغب سابقة، أن الأماكن التي تُنهب غالباً ما تكون مرتبطة بشركات كبرى، وأن النهب "غالباً ما يتصل بشعور عدم المساواة المرتبط بالعيش في الاقتصادات الرأسمالية، بحسب البروفيسور ستوت.
ومع ذلك يحذّر خبراء من أن أعمال النهب غالباً ما تكون معقدة، خاصة مع مشاركة كثير من الأشخاص بدوافع مختلفة، فمنهم أشخاص يعانون من الفقر، ومنهم مجرمون منظمون.
في احتجاجات هونغ كونغ الأخيرة على سبيل المثال، حطم المتظاهرون نوافذ المتاجر، وألقوا قنابل حارقة على الشرطة، وازدروا الشعارات الوطنية المعبرة عن انتماء الإقليم إلى الصين، ومع ذلك لم تكن هناك أعمال نهب.
ويعتقد لورانس هو، وهو متخصص بالعلوم الشرطية وإدارة النظام العام في جامعة هونغ كونغ للتربية، أن هذا يرجع إلى أن تلك الاحتجاجات كانت مدفوعة بتطورات سياسية وحالة سخط على الشرطة، وليس بسبب التمييز أو مسائل متعلقة بعدم المساواة الاجتماعية.
كيف يمكن الحيلولة دون تحوُّل الاحتجاجات السلمية إلى العنف؟
يقول خبراء النظام العام، إن الأمر يتعلق في المقام الأول بالنظر إلى الشرطة على أنها قوات شرعية وقادرة على إشراك المتظاهرين في حوار متبادل.
ويقول البروفيسور ستوت: "إن القيادة الحكيمة للشرطة تحاول تجنب عقلية (نحن) و(هُم)، وتحاول أيضاً تجنُّب الشعور بأن الشرطة يمكن أن تتصرف بطرق يرى الناس أنها غير شرعية".
كما يعتقد البروفيسور لورانس هو، أن التفاوض أفضل طريقة لحل الأمور، لكنه يشير إلى أن "أحد أصعب الأمور اليوم هو أن كثيراً من تلك الاحتجاجات بلا قيادة. إذا لم تتمكن من العثور على قائد للمحتجين، لا يصبح بإمكانك التفاوض معهم".
وأشار "هو" إلى أن السياسيين يمكنهم جعل الأمور أفضل أو أسوأ، بناءً على نهجهم في الحوار، وما إذا كانوا يستخدمون تشريعات الطوارئ.
ومع ذلك، في نهاية المطاف، يمكن أن تكون أعمال الشغب أعراضاً لتوترات عميقة وقضايا معقدة لا حلول سهلة لها.
ويقول البروفيسور دارنيل هانت، إن أعمال الشغب التي شهدتها الولايات المتحدة هذا الأسبوع هي الأخطر منذ عام 1968، بعد اغتيال مارتن لوثر كينغ.
ويذهب هانت إلى أن "قضية جورج فلويد لم تكن هي السبب، فهي أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير. يمكنك القول حتى، إنّ قتل الشرطة عرَضٌ لأمراض أساسية، هي نزعة التفوق الأبيض والعنصرية، ومشكلات أخرى لم تحاول الولايات المتحدة معالجتها جذرياً".