حملة كبيرة وغير مسبوقة تشنها مصر والإمارات والسعودية ضد حركة النهضة التونسية ورئيسها راشد الغنوشي خلال الأيام القليلة الماضية، وهو ما أثار تساؤلات حول أهداف هذا الهجوم المنظم في هذا التوقيت بالتحديد.
ويبدو أن الأمر لا يتعلق بالشأن الداخلي التونسي فقط هذه المرة، بل يأتي على خلفية الانتصارات المتكررة التي حققتها حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً، ضد قوات اللواء خليفة حفتر الذي تدعمه هذه الدول عسكرياً وسياسياً.
واستنكرت حركة النهضة حملة التشويه والتحريض الممنهجة التي يتعرض لها عدد من قياداتها، وعلى رأسهم الغنوشي، وهو ما استدعى إصدار الحركة بياناً شديد اللهجة مساء الثلاثاء 19 مايو/أيار، أكدت فيه أنها ستتابع قضائياً كل الأطراف المتورطة في هذه الحملة التي وصفتها بالدنيئة والمغرضة.
البيان وإن لم يشر إلى هذه الأطراف، فقد أوضح أن هذه الحملة غير مسبوقة ومؤشر جدي على انزعاج هذه الأطراف من نجاح تونس في الحفاظ على استقرارها.
حملات مدعومة من الإمارات والسعودية ومصر تعتمد على نشطاء مزعومين
وأكد عضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة، محمد خليل برعومي، لـ"عربي بوست"، أن الحركة لاحظت خلال الفترة الماضية حملات منظَّمة ومموَّلة على شبكات التواصل الاجتماعي، تستهدف قيادات النهضة ورئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي.
وأشار إلى أن ما يثير الريبة هو أن هذه الحملات لم تكتفِ بنشر أخبار زائفة وإطلاق دعوات تحريضية على هذه المنصات الافتراضية، بل تجاوزتها إلى وسائل إعلام وقنوات مصرية وسعودية (قناة العربية) وإماراتية (قناة سكاي نيوز عربية).
وأوضح برعومي أن هذه القنوات تعمدت استضافة "محرِّضين على العنف، أطلقت عليهم صفة نشطاء في المجتمع المدني، أو مسؤولين في جبهة إنقاذ لا وجود لها على أرض الواقع"، على حد تعبيره.
وبرأيه أن هؤلاء الأشخاص يخدمون هذه الحملات من خلال الحديث عن عريضة للتدقيق في مكاسب رئيس البرلمان، واتهامه بالاستثراء والكسب غير المشروع، رغم أن الجميع يعلم بأن تونس تمتلك مؤسسات رقابية في هذا المجال، من بينها هيئة مكافحة الفساد ودائرة المحاسبات، وبأن الشيخ راشد الغنوشي كان قد بادر قبل تولي مهامه في البرلمان، بالكشف عن كل أمواله.
واستغرب برعومي من "تحوُّل بعض التونسيين إلى أدوات وأسلحة ضمن حملات خارجية تسيء إلى صورة البلاد، وتستهدف سيادة تونس وتجربتها الديمقراطية وواحدة من أهم مؤسسات الدولة بعد ثورة الكرامة (مجلس نواب الشعب)"، على حد تعبيره.
ارتدادات التطورات في ليبيا
الحملة الواسعة النطاق التي تُظهر مقدار التداخل الهائل بين وسائل الإعلام في البلدان الثلاثة، والذي تقوم فيه الإمارات في الأغلب بدور الموجة في الأغلب، جاءت بعد انسحاب قوات حفتر من قاعدة الوطية، وبعد الإعلان عن قيام الغنوشي بتهنئة رئيس المجلس الرئاسي للحكومة الليبية فائز السراج، أمس الثلاثاء، على استعادة القاعدة العسكرية القريبة من حدود تونس.
وكان رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، قد أجرى مساء الثلاثاء 19 مايو/أيار، اتصالاً هاتفياً مع رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج، بارك فيها استعادة السيطرة على قاعدة الوطية الاستراتيجية.
الغنوشي أكد أهمية عودة هذه القاعدة القريبة من الحدود التونسية إلى الشرعية، وفق ما ذكره بيان لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا.
ولم يخفِ عضو المكتب التنفيذي في حركة النهضة شكوكه في أن يكون لهذه الحملات ارتباط وعلاقة بتطورات الأوضاع في ليبيا، بعد الانتصارات التي حققتها حكومة الوفاق على قوات حفتر، وآخرها السيطرة على قاعدة الوطية الاستراتيجية.
وأوضح برعومي: "يبدو أن هذه الدول والجهات التي عملت منذ الثورة، على عرقلة المسار والتجربة الديمقراطية في تونس، والإساءة إلى صورتها، والتدخل في شؤونها الداخلية، أصابها الارتباك بسبب سياق التحولات والتطورات في ليبيا، لذلك وجهت هجماتها العنيفة لتونس ولرئيس برلمانها".
ويوافق المحلل السياسي علي القاسمي، على هذه الشكوك، موضحاً أن هذه الحملات يمكن أن تكون محاولة لقطع الطريق أمام التقارب التونسي مع الشرعية في ليبيا، وتخلّيها عن مبدأ الحياد المعلن، خاصة بعد مباركة الغنوشي للسراج باستعادة قاعدة الوطية.
وتابع القاسمي أنه لا يمكن أن تُعزل هذه الحملات عن الخسائر التي مُني بها المحور الداعم لخليفة حفتر في ليبيا.
ومن المعروف أن حفتر وأنصاره لا يُخفون عداءهم لتونس، رغم إعلانها الحياد تجاه الأزمة الليبية.
ويبدو أن التحرك الإماراتي السعودي المصري المنسق والمرتبط بحلفاء داخليين في تونس يحاول إشغال الغنوشي في معركة جانبية حول ثروته المزعومة، لإضعاف أي دور له من شأنه إعادة توجيه السياسة التونسية لتصبح أكثر تقارباً مع حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، وخصوصاً أن تونس وحكومة الوفاق كلاهما مستهدف من الثلاثي مصر والسعودية والإمارات، إضافة إلى خليفة حفتر، مهما حاولت تونس البقاء على الحياد.
ولم يخفِ برعومي خشيته من خطورة هذه الحملات التي تحاول ضرب الاستقرار السياسي والاجتماعي في تونس، وتحويل انتباه التونسيين عن مشاغلهم الحقيقية إلى مسائل ومزاعم لا أساس لها من الصحة، خاصة في الوقت الذي تكثف فيه البلاد جهودها على محاربة الأزمة الصحية المرتبطة بتفشي فيروس كورونا.
قلق داخل النهضة
وبالعودة إلى بيان حركة النهضة، فقد فسره المحلل السياسي بسام حمدي بأنه يكشف انزعاج النهضة من الضغوط السياسية والاجتماعية التي تمارَس منذ أشهر على زعيمها راشد الغنوشي، خاصة بعد اعتلائه منصب رئاسة البرلمان.
وأوضح أن النهضة تحاول عبر بيانات رسمية، تخفيف وطأة هذه الضغوط على الغنوشي، وتحريك أنصارها في مواقع التواصل الاجتماعي للدفاع عنه، وشن حملات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد كل من ينتقده.
وأضاف أنه يبدو أن الحملة الشعبية التي أطلقها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي "من أين لك هذا؟"، والتي تدعو إلى المطالبة بالكشف عن مصادر ثروة راشد الغنوشي، قد فاقمت القلق في صلب هياكل الحركة باعتبار أن هناك محاولة لحشد انتقادات وتلميحات بالفساد ضد زعيم الحركة.
هذا يمثل تهديداً صريحاً للحركة، ويضعها في قفص اتهامات تخص ارتكاب جرائم فساد مالي، وهو أمر لا تقبله بالطبع، على حد تعبيره.
وتزامنت هذه الحملات مع محاولات إثارة الفوضى في البرلمان من قبل النائبة عبير موسى، رئيسة الحزب الدستوري الحر، المحسوبة على دولة الإمارات العربية.
وتثير النائبة عبير موسى، بحسب معارضيها، الفوضى بسعيها الدائم لطرح مواضيع غير مدرجة على جدول أعمال جلسات البرلمان، تتعلق جميعها باتهامات توجهها لرئيسه الغنوشي، بسبب اتصالات يجريها مع مسؤولين سياسيين في تركيا وليبيا. وردّ عليها الشيخ راشد في آخر محاولة لها لإثارة الموضوع بمطالبتها "بضرورة احترام النظام الداخلي، وجدول أعمال الجلسة الذي سبق الإعلان عنه"، واعتبر تمسكها بعرض طلب كتلتها على التصويت إصراراً على الفوضى.
وتأتي التحركات الأخيرة ضد البرلمان ورئيسه بعد أيام من تصريحات مثيرة للجدل للرئيس التونسي قيس سعيد، وجّه فيها اتهامات لأعضاء البرلمان، وطالب بالتفريق بين ما سمّاه "الشرعية" و"المشروعية"، ولوّح بنزع الشرعية عمن انتخبهم الشعب بالقول إن "الشعب قادر على سحب الوكالة ممّن خان الأمانة والوكالة".
وجاء خطاب الرئيس "التصعيدي" في ظل أجواء متوترة تشوب علاقات الرئاسة بالبرلمان، وفي ظل تصاعد دعوات مجموعات أطلقت على نفسها اسم "أنصار الرئيس قيس سعيد" للخروج إلى الشارع، مطلع يونيو/حزيران المقبل، في تظاهرات أُطلق عليها ثورة الجياع، تضع على رأس أهدافها حل البرلمان، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة، وتشكيل المحكمة الدستورية.