هل يوجد شيء حقاً اسمه صفقة القرن، وهل تستحق الجدل الذي أثير حولها، وما هي حقيقة صفقة القرن المزعومة.
جيمس زغبي مؤسس ورئيس المعهد العربي الأمريكي ومدير مؤسسة زغبي للأبحاث، انتقد مقال نشره في موقع Lobe Log الأمريكي الاهتمام المبالغ به بصفقة القرن، طارحاً وجهة نظر غريبة فيما يتعلق بالتعامل مع الصفقة المزعومة.
على خطى هنري كيسنجر
يقول زغبي الأمريكي ذو الأصول اللبنانية "أعتقد أنَّ هنري كيسنجر هو مَن وصف نهجه لإدارة المفاوضات العربية-الإسرائيلية بأنَّه خلق وهم الزخم من أجل تعويض غياب الزخم، لم يكن الهدف هو النتيجة، بل إبقاء الجميع مشاركاً في العملية".
وتولى كسينجر وزارة الخارجية الأمريكية خلال حقبة حساسة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث عاصر انتصار العرب في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وبداية التفاوض بين العرب وإسرائيل.
و "قادت" الأجيال المتعاقبة من الدبلوماسيين الأمريكيين، المتمسكين بهذه القاعدة، عملية سلامٍ لذاتها أكثر من كونها تهدف لإقامة سلامٍ عادل ودائم. لقد كان لدينا طوال عقود ما قد يصفه الفلسطينيون بأنَّه "عملية فقط، ولا سلام".
صفقة حقيقية أم وهم صفقة
ويبدو أنَّ إدارة ترامب دفعت هذا النهج إلى الأمام خطوة، فبدلاً من إضاعة الوقت في محاولة خلق وهم مفاوضات بين حكومة إسرائيلية مُتعنِّتة أيديولوجياً وسلطة فلسطينية ضعيفة وغير فعالة، تعهَّد فريق ترامب بالقيام بالمهمة بأنفسهم، من خلال إعداد "صفقة القرن".
ونحن بانتظار الكشف عن هذه "الصفقة" منذ ما يقرب من عامين، وقِيل لنا بصورة منتظمة إنَّها قادمة قريباً "في غضون أسابيع أو أشهر". ومن وجهة نظري، فإنَّ فريق كوشنر-غرينبلات-فريدمان ربما وجدوا سبيلاً لخلق "برهان بنقض الحُجة" لقاعدة كيسنجر، عن طريق خلق وهم صفقة لتعويض غياب صفقة.
التسريبات تشير إلى مقترحات مرفوضة من الفلسطينيين
فخلال العامين الماضيين، وبهدف مواصلة زيادة التشويق بشأن ما يمكن أن تحويه الصفقة بالضبط، كانت هناك تسريبات من مصادر (عربية، وإسرائيلية، وأمريكية) "رسمية". لكنَّ فريق ترامب نفى على استحياء كلاً من هذه التسريبات مع استخدام الملاحظة التحذيرية بأنَّ مساعيهم لا تزال عملاً في طور التنفيذ، ولن يُكشَف عنها إلا حين تكتمل ويكون الوقت ملائماً.
وبما أنَّ معظم التسريبات أشارت إلى مقترحات مرفوضة تماماً من جانب الفلسطينيين، أرفق فريق ترامب نفيهم بتحذيرٍ من أنَّ الفلسطينيين لا يجب أن يرفضوا "الصفقة" حتى يروها، متعهِّدين بأنَّها ستتضمَّن مقترحات من شأنها تحسين حياتهم.
تأتي هذه الملاحظات التحذيرية غالباً في صورة تغريدات من جيسون غرينبلات، الذي لجأ على ما يبدو إلى التهكم على القيادات الفلسطينية، وحتى على المسؤولين منخفضي المستوى، من خلال تقديم النصائح و/أو التوبيخ الوقح.
والنتيجة.. أصبحت لدينا صناعة كاملة من التخمين بشأن صفقة القرن
وبالتالي تُرِكنا أمام أسئلة وفيرة بشأن مضمون الصفقة، وأصبحت لعبة التخمين بحدِّ ذاتها تُمثِّل صناعة بصورةٍ ما، تقريباً كما كان الحال مع التحقيقات اللاهوتية بشأن الطبيعة الإلهية في العصور الوسطى.
فباتت المقالات تُكتَب، والنقاشات تُعقَد، وحروب تويتر تندلع. وترفض الإدارة الأمريكية في كل مناسبة تخمينات وتوبيخات المُخمِّنين -تماماً كما يمكن أن تكون الهيراركية الكَنَسية في العصور الوسطى قد فعلت- مع تنبيهٍ بأنَّه ينبغي أن نهدأ ونتحلَّى بالثقة، لأنَّ الغموض سينجلي في الوقت الملائم.
وأصبحتُ أنظر إلى هذا "التحلّي بالثقة" على أنَّه مجرد حيلة استخفافية لشراء الوقت.
ماذا لو كان لا وجود لصفقة القرن أصلاً؟
يقول زغبي: "نتيجة لذلك، دُفِعتُ إلى التساؤل: "ماذا لو أنّه كان لا توجد صفقة قرن؟"، وماذا لو أنَّ هذا المشروع برُمَّته، مثلما أشرتُ، مجرد "خلق وهم صفقة" بهدف إبقاء الفلسطينيين هادئين، وضبط العرب وإيقافهم، ودفع بقيتنا إلى مواصلة التخمين.
وما يزيد استخفافي هو حقيقة أنَّه في نفس فترة العامين التي كان من المُفتَرَض أنَّ "الصفقة" تُحضَّر خلالهما، كانت إدارة ترامب وحكومة نتنياهو منهمكتين للغاية في اتخاذ خطوات لإيضاح نواياهما تجاه الفلسطينيين.
فلا يوجد أصلاً شيء للتفاوض بشأنه
إذ أبعد ترامب، على حد وصفه "القدس من على الطاولة"، واعترف بها عاصمةً لإسرائيل. وبإغلاق القنصلية الأمريكية ووقف المساعدات الأمريكية للمؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، يكون ترامب بذلك قد وضع هذا المجتمع الفلسطيني الأسير بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية.
وبالمثل، حاولت إدارة ترامب إبعاد قضية اللاجئين الفلسطينيين "من على الطاولة"، من خلال إيقاف كل المساعدات لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وإيضاح أنَّ الإدارة لا تعتبر أحفاد أولئك الذين أُجبِروا على الخروج إلى المنفى عام 1948 لاجئين.
وفي الوقت نفسه، قَبِلَت إدارة ترامب، من خلال صمتها، التحركات الإسرائيلية الأحادية التي حدَّدت مسبقاً مستقبل وحقوق الأراضي الفلسطينية. فتوسَّعت المستوطنات الإسرائيلية، وشُرعِنَت بؤر الاستيطان غير القانونية، وتسارع الهدم الإسرائيلي للمنازل الفلسطينية واستغلال الموارد والأراضي الفلسطينية بوتيرة مقلقة.
أضِف إلى ذلك إيقاف الإدارة كل المساعدات للفلسطينيين، وقبولها بـ "قانون الدولة القومية اليهودية" الإسرائيلي، وعدم انتقادها لرفض إسرائيل رد أموال ضريبة القيمة المضافة الفلسطينية، ودعم الأعمال الإسرائيلية الأخرى التي شلَّت السلطة الفلسطينية، بينما تُعزِّز الانقسامات بين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، واتخاذ خطوات لحماية إسرائيل من المحكمة الجنائية الدولية، وجهود لتجريم الدعم لحركة مقاطعة إسرائيل، وكل هذا ساهم في تعزيز العجز الفلسطيني وشعور إسرائيل بالإفلات من العقاب.
وحتى لو كانت هناك صفقة، فماذا ستقدم للفلسطينيين؟
ومع وضع هذا في الاعتبار، أقترح أن تنتهي لعبة التخمينات. فحتى لو كانت هناك "صفقة قرن" (وأنا مازلتُ غير متأكد بشأن هذه المسألة)، فيمكننا أن نكون متأكدين من أنَّها لن تنهي احتلال الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها في حرب 1967، ولن تخلق سيادة فلسطينية حقيقية وسيطرة على أراضيها ومواردها، ولن تمنح الفلسطينيين الفرصة لممارسة التجارة بحرية واستقلالية مع العالم الخارجي، ولن تعترف بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، ولن تفعل أي شيء لإعادة المناطق التي تُسمَّى الآن "القدس الشرقية" إلى السيطرة الفلسطينية.
وأخيراً، يُمثِّل "التلميح" بأنَّ الصفقة ستُغدِق بالمال على الفلسطينيين لـ "جعل حياتهم أفضل" إهانة، تماماً بقدر عبثيته، لكنَّني لستُ متأكداً حتى من أنَّ هذا حقيقي.
نصيحتي هي أن نتوقف عن المسايرة، وأن نترك لفريق ترامب لعبة "الحزورات" القاسية التي يلعبها.