معه أم عليه؟ يبدو أن اللواء المتقاعد خليفة حفتر لم تكتمل طمأنينته تجاه سلفيي المداخلة، هذا التيار السلفي المنقسم على نفسه والذي لم يحدد لنفسه بعدُ وليَّ أمرٍ يتبعه ويُلقي بكل ثقل ولائه بين يديه.
فتارةً حفتر هو الولي، وتارةً عقيلة صالح هو الشرعي، وتارة ثالثة بين يدي حكومة الوفاق التي اكتسبت شرعيتها من الشارع الليبي قبل الاعتراف الدولي.
انقسام تيار المداخلة السلفي بين عدة فرق، وسعيه لحمل السلاح، وضعا حفتر في موقف المهتز، فلا هو مطمئن لولاء كل التيار، ولا هو مكتفٍ بمن يوالونه منه؛ وهو ما دفعه إلى زيارة عسكرية تبدو لاستقطاب مَن حضر ولإسالة لعاب من لم يحضر، ومفاد الرسالة: "أنا حفتر، أنا ولي الأمر، أنا الأولى بالولاء".
بين رجال المداخلة في "كتيبة طارق بن زياد المقاتلة" التي يقودها نجلاه صدام وخالد، استخدم حفتر خطاباً دينياً غير معتاد عليه، وصفهم بجنود الله المؤمنين المؤيَّدين من الله، لم يستثنِ من المداخلة أحداً رغم ضعف العدد الحاضر والمؤيد، فلماذا يحرص حفتر عليهم ويتنافس الفرقاء في ليبيا على خطب وُد المداخلة؟
على الوجه الآخر يدعم عقيلة صالح تأسيس سرايا الدعوة والإرشاد تجمع المختلفين من المداخلة، فلم تكن زيارة خليفة حفتر لجمع التيار السلفي في بنغازي عابرةً، بل كانت محاولةَ ضمان عدم تخلِّيهم عنه وعن مشروعه السياسي والعسكري بعدما فقد بعض أنصاره من هذا التيار في أبريل/نيسان 2019، إثر إعلان حربه على طرابلس، وسعي عقيلة صالح سحب ما تبقى منهم من تحت سيطرته.
قالت مصادر تابعة لبرلمان طبرق لـ"عربي بوست"، في وقت سابق، إن عقيلة صالح بدأ باستغلال الولاء السلفي له؛ من أجل "خلق قلاقل لحفتر وإزعاجه؛ لإرغامه على العودة إلى بيت الطاعة"، على حد وصف المصادر.
وأكدت المصادر أنَّ صالح دعم تأسيس فصائل عسكرية لتعمل تحت اسم "سرايا الدعوة والإرشاد لمكافحة الفساد"، وهي "تجمع المختلفين مع حفتر من أتباع التيار المدخلي"، على غرار هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية.
وأشارت المصادر إلى أن تأييد المداخلة لحفتر انحسر كثيراً إلى عدد من الشخصيات المقربة منه في المرج وبنغازي فقط، وأكدت أن عدداً من قيادات السلفيين طالبوا حفتر بتحديد موقفه من "وليِّ الأمر الشرعي"، في إشارة إلى عقيلة صالح.
دور المداخلة في ليبيا
لطالما لعب تنظيم "المداخلة في ليبيا" دوراً أساسياً في دعم خليفة حفتر طيلة السنوات الست الماضية، وكانوا يدّعون أنهم من منتسبي العلم والدعوة ويمنحون صفة الحاكم لحفتر بوصفه وليّاً للأمر، ثم يسوقون الناس إلى تأييد حفتر وإنْ جارَ عليهم، ويحثونهم على عدم المجاهرة بإنكار ظلمه مهما أتى من ظلم، ومناجزة كل من يعارضه بالقول أو الفعل أو الفكرة، مستندين في ذلك إلى فتوى تلقَّوها من شيخهم في السعودية "ربيع بن هادي المدخلي".
عُرف أيضاً عن قادة التيار المدخلي تنفيذ عمليات الانتقام من خصوم حفتر، وأشهرهم محمود الورفلي قائد الإعدامات، وقجة الفاجري المسؤول عن مذبحة الأبيار التي راح ضحيتها 36 مدنياً في أكتوبر/تشرين الأول 2017.
القصة منذ البداية
تجسدت هذه الفتوى في شكل كتائب عسكرية مُقاتِلة دعمها حفتر بالمال والعتاد منذ عام 2014، كان أبرزها في كتيبة التوحيد السلفية التي أطلِقَ عليها فيما بعد، كتيبة 210 السلفية بقيادة أشرف الميار؛ ومن ثم تم تشكيل سرايا مقاتلة أخرى تتبع كتيبة طارق بن زياد بقيادة نجل خليفة حفتر، خالد، والتي بدورها ضمت كل منتسبي ذلك التيار تحت إمرتها في كل ربوع ليبيا، تمهيداً لتجنيدهم وتسليحهم.
وعلى الرغم من تماسك كتلة التيار المدخلي في شرق ووسط وغرب ليبيا خلال الحرب التي شنها خليفة حفتر على ثوار بنغازي بحجة محاربة الإرهاب منذ عام 2014، فإنها انقسمت على نفسها في عام 2019، عندما قرر حفتر الهجوم على طرابلس والانقلاب على شرعية المجلس الرئاسي.
فقد اعتبرت قياداتٌ دينية وعسكرية تابعة للتيار المدخلي في مدن غرب ليبيا كطرابلس ومصراتة، أن القتال مع حفتر باطل وأنَّ ولي الأمر هو رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح ورئيس المجلس الرئاسي المعترف به دولياً فايز السراج، مستندين في ذلك إلى فتوى أُخذت من الداعية ربيع بن هادي المدخلي، خصوصاً بعد إبلاغهم إياه وجود مرتزقة روس ملاحدة في صفوف حفتر.
بينما اعتبر طرف آخر في شرق ليبيا أنَّ ولي الأمر هو خليفة حفتر ووجب القتال معه ضد من سمَّوهم الميليشيات والإخوان والخوارج، وانقسمت المنطقة الوسطى بين مؤيد للقتال في صفوف حفتر ورافض؛ وهو ما أتاح المجال لحفتر للسيطرة على المدينة.
بعد ذلك شهدت كتلة المداخلة في المنطقة الشرقية انقساماً جديداً، بعدما طلب حفتر تفويضه لرئاسة البلاد والانقلاب على اتفاق الصخيرات والأجسام المنبثقة عنه ومبادرة رئيس برلمان طبرق تعديل الاتفاق السياسي ووقف الحرب على طرابلس، حيث انقسم المداخلة في شرق ليبيا حول ولاة الأمر في البلاد، بين مؤيد لعقيلة صالح ورافض لحفتر والعكس.
"المداخلة" مع حكومة الوفاق
عمر التهامي، المحلل السياسي، أكد أن منتسبي تيار المداخلة في ليبيا انتشروا بشكل كبير بالمنطقة الشرقية والمنطقة الغربية، خصوصاً في مدن "بنغازي والبيضاء والمرج ومناطق طوق بنغازي وأجدابيا وسرت وطرابلس وصبراتة وصرمان والعجيلات وترهونة وزوارة والخمس ـومصراتة".
وتابع التهامي أن تنظيم المداخلة قد استطاع أن يؤسس قاعدة قوية في شرق ليبيا ووسطها وغربها، تقدَّر بالآلاف، استطاعت الاستيلاء على كل المنابر في المساجد بشرق ليبيا ووسطها، وأغلبها في غربها، وانخرطوا في التجارة بشكل لافت للانتباه في مدن غرب ليبيا.
وهو ما يوحي بحصولهم على دعم مادي قوي، إضافة إلى انضمامهم لأجهزة الدولة العسكرية والأمنية في غرب ليبيا؛ كقوة الردع الخاصة التابعة لحكومة الوفاق، وجهاز المباحث الجنائية بصبراتة، وقوة الردع الخمس، وكتيبة باب تاجوراء في طرابلس، وجهاز المباحث الجنائية في مصراتة.
وأضاف التهامي أن أبرز العوامل الذاتية التي يسَّرت عملية توظيف المداخلة في الصراع المُسلح، هي الغلو في مسألة "طاعة ولي الأمر".
ويُغالي التيار المدخلي في ليبيا على وجه العموم، من تعظيم خليفة حفتر منذ إعلان الحرب على الثوار في بنغازي 2014، ويُوجب طاعته على الدوام، مهما بلغ الفجور أو المظالم وإيراد البلاد للمهالك.
فالحاكم لا يُحاسَب عند المداخلة، وإنما تجب طاعته والدعاء له في العلن ونصحه في السر دون تحريض الناس عليه، وإن وصل به الأمر لقتل ثُلثي شعبه من أجل مصلحة يراها فلا يُنكَر عليه.
على الوجه الآخر قال العميد طيار عادل عبدالكافي، لـ"عربي بوست"، إن تنظيم المداخلة استطاع طيلة الفترة الماضية، الحصول على كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وتخزينها، مشيراً إلى أن خليفة حفتر يخشى انقلاب المداخلة في المنطقة الشرقية بعد الجدل الحاصل بينهم في موضوع ولي الأمر.
وأضاف عبدالكافي أن عناصر التنظيم الموالين لحفتر أصبحوا يقدمون الخدمات اللوجيستية كافة للمرتزقة الروس والأفارقة في المنطقة الوسطى والجنوبية والموانئ النفطية، موضحاً أنهم العنصر الأساسي لتقديم الدعم للمرتزقة.
وتابع أنَّ مغازلة حفتر تأتي في سياق محاولة طمس تصريحات أحد قيادات "الكرامة" في الفترة الماضية، بأن الحرب على التشكيلات المسلحة المؤدلجة والمتمثلة في تنظيم المداخلة قادمة لا محالة، مؤكداً أن خليفة حفتر كان يعد في السابق لنزع السلاح من الكتائب والسرايا التابعة لتنظيم المداخلة، وإعلان الحرب عليهم عقب انتهاء الحرب على طرابلس.
وأشار عبدالكافي إلى أن حفتر بعد فشله في حربه على طرابلس، يحاول كسب ودهم في ظل الانقسامات التي يشهدها التنظيم؛ لما كان له من دور أساسي في تهيئة الرأي العام ودعم انقلابه واستخدامهم ضد خصومه، خصوصاً الجدد، وعلى رأسهم رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح.
شيطنة المعارضين
تعد فكرة "شيطنة المخالفين" وعدم الالتقاء معهم في منتصف الطريق، ثاني أهم مميزات المداخلة في ليبيا بعد غلوهم في طاعة ولاة الأمور، ومن هذا المنطلق يُوصف المخالفون السياسيون لحفتر وعقيلة صالح بمصطلحات شرعية مثل البدعة والفسق والخوارج.
كل ذلك دون اعتبار أو تفرقة لأصناف المعارضين أنفسهم أو لأنواع المظالم التي يطلب الناس بإسقاطها عن كاهلهم، مع تقديم هذه الأفكار كمُسلَّمات عقدية.
البيئة الليبية بعد ثورة فبراير
طبيعة البيئة الليبية بعد الثورة، التي مالت إلى استعمال السلاح وفرض السيطرة، وتحقيق المكاسب بلغة القوة، كانت عاملاً قوياً جعل المداخلة على هذا القدر من العنف والإجرام.
فقد ساهم هذا المناخ في تشجيع المداخلة على استخدام القوة، وقد تمثل ابتداءً في إجبار بعض الأئمة والخطباء على ترك جداولهم في الخطابة المحددة بالأوقاف، لصالح خطباء آخرين يعيّنهم المداخلة، وهو ما حذَّرت منه دار الإفتاء الليبية وعلى رأسها مفتي الديار الليبية، الشيخ الصادق الغرياني.
واعتبر الغرياني أن هذا لون من ألوان العبث بالدولة وعدم الثقة بأهل الدِّين، وهذه الحالة من فرض السيطرة بالقوة ستتطور لاحقاً لإسكات الخصوم بقوة السلاح كذلك، ولن يجرؤ أحد على إظهار مخالفتهم علناً.
وتابع: "إن انقسامات شيوخ السلفية بالسعودية انعكست على تيار السلفية المدخلية في ليبيا؛ وهو ما أدى إلى انشقاقات أطاحت بجزء أساسي في قوات خليفة حفتر المتمثل بالكتائب السلفية، وإن أساس الخلاف مبنيٌّ على موقف ليبيا من مفهوم ولي الأمر الشرعي".
ويرى الغرياني أن الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية ودار الإفتاء، التابعتين لحكومة برلمان طبرق غير معترف بها دولياً، ومن أتباع ربيع بن هادي المدخلي في السعودية، في شرق ليبيا، تصفان رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح، بأنه ولي الأمر الشرعي.
ويرى شيوخ المداخلة في المرج، وهُم من أتباع محمد المدخلي، أنَّ حفتر هو ولي الأمر باعتباره المتغلب بالقوة والمحارِب بالسلاح للخوارج، وهو خلاف ديني قائم على الخلافات السياسية المتزايدة بين عقيلة وحفتر، في الفترة الماضية.
في المقابل قال أشرف الميار، آمر الكتيبة 210 السلفية، لـ"عربي بوست": "الحاكم الشرعي في هذه البلاد هو مجلس النواب المتمثل في المستشار عقيلة صالح، وكل من أراد أن يخرج عن مجلس النواب، فإنه يُعتبر من الخوارج ويجب قتاله"، في إشارة إلى خروج حفتر على مجلس نواب برلمان طبرق.
"لم أفتِ بالقتال في صفوف حفتر"
قال القيادي في التيار السلفي ربيع المدخلي، إنه لم يُصدر فتوى بمشروعية شن حفتر هجوماً على العاصمة طرابلس، ولم يدعُ إلى الوقوف معه أوالالتفاف حوله.
واستنكر المدخلي، في لقائه مع رئيس الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية بحكومة الوفاق المعترف بها دولياً، محمد العباني، استعانة حفتر بالمرتزقة الروس للقتال معه في عدوانه على طرابلس.
ونشر العباني سؤاله للمدخلي، قائلاً: "هل أنت حقاً أفتيت بدخول حفتر إلى طرابلس؟"، لافتاً إلى أن أتباعه يقاتلون ويدعون إلى القتال، مستندين إلى فتواه، ونقل جوابه الذي قال فيه: "والله، ما أذكر وما أدري"، ودعا إلى توجيه الأسئلة لهيئة كبار العلماء.