يتجنبون الفحص خشية على سمعتهم.. ثقافة العيب تعرقل مواجهة كورونا في العراق

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/04/15 الساعة 17:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/04/15 الساعة 17:14 بتوقيت غرينتش
حجاج شيعة يشقون طريقهم إلى الكاظمية للاحتفال بوفاة الإمام موسى الكاظم خلال حظر التجول المفروض لمنع انتشار مرض التاجي (COVID-19) ، في بغداد ، العراق ، 18 مارس 2020/ رويترز

توقّف الطبيب مليّاً قبل أن يطرق البوابة الأمامية، إذ أومأ إلى رفاقه الذين كانوا يرتدون بذلات وقائية كاملة، وأقنعة، ونظارات حماية، وقفازات كي يبتعدوا حتّى لا يصيروا أوّل شيء تقع عليه أبصار سكّان المنزل.

يقول الطبيب وسام كونا، الذي يتعاون مع إدارة الصحّة الإقليمية بمدينة النجف الواقعة جنوب العراق لصحيفة The New York Times الأمريكية: "إنه أمّر حساس للغاية". ويقضي وسام حالياً أيّامه في فحص العائلات التي عادت مؤخّراً من إيران، ذاك البلد الذي عانى أحد أعنف تفشيات فيروس كورونا في العالم.

قال وسام، إن الوالد في هذا المنزل قد توسّل إليه كي لا يعود مع مجموعة من العاملين في القطاع الصحّي، قائلاً: "رجاءً، لا توقفوا سياراتكم أمام منزلنا، إنني أشعر بالخزي أمام الجيران. وهذا أمر عسير بالنسبة لسُمعتي". 

يتجنبون الفحص "خشية على سمعتهم"

بالنسبة للعراق فإن إحدى أكبر العقبات التي تواجه مسؤولي الصحّة العامة الذين يحاربون فيروس كورونا تتمثّل في الوصمة المرتبطة بالمرض والعزل. إنه لأمر عميق أن يتجنّب الناس الخضوع للفحوص، ويمنعون أفراد العائلة الذين يريدون الفحص من إتمام ذاك الإجراء، ويؤخّرون طلب المساعدة الطبّية إلى أن يصير المرضى في حالة كارثية.

يقول الكثير من الأطباء العراقيين إن النفور من الحجر الصحّي والتردد في حجز المرضى به قد يساعد في تفسير الضآلة النسبية لعدد حالات الإصابة المؤكّدة. ففي العراق الذي يبلغ عدد سكّانه 38 مليون نسمة، لم تُسجّل سوى 1400 حالة إصابة مؤكّدة بفيروس كورونا المستجد، حتّى يوم الأربعاء 15  أبريل/نيسان 2020.

وعلى النقيض، في إيران المجاورة، التي يبلغ عدد سكانها ضعف نظيره في العراق، كان العدد الرسمي المسجّل لحالات الإصابة يتخطّى 71.000 حالة. وفي المملكة العربية السعودية المجاورة أيضاً، تلك التي يقل عدد سكانها عن نظيره في العراق، هناك أكثر من ثلاثة أضعاف الحالات التي سجلها العراق.

حالات مختبئة

يقول الطبيب حازم الجميلي، نائب وزير الصحّة الذي يقود استجابة البلاد لأزمة الفيروس: "إنه لأمر صحيح أن لدينا حالات مختبئة، وذلك لأن الناس لا يريدون الكشف عن إصاباتهم، ويخافون من الحجر الصحّي ومن العزل".

إن الوصمة المرتبطة بالمرض والحجر الصحي في العراق وبعض بلدان الشرق الأوسط الأخرى تعكس -إلى حد كبير- معتقدات ثقافية واجتماعية، ولكنّها أيضاً تنطوي على عدم ثقة متأصّلة في الحكومة، وخبرة على مرّ التاريخ، وخوف من من الذهاب إلى المستشفى، بالنظر إلى تردّي منظومة الرعاية الصحّية في العراق قد يكون أمراً مميتاً.

أظهر مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع مؤخّراً، أن النساء المريضات في الحجر الصحي بأحد مستشفيات البصرة يستلقين إلى جوار بعضهن البعض دون أقنعة، ويَسعلن، ويستغثن بعدما ماتت إحداهنّ.

يقول الطبيب عماد عبدالرزّاق، استشاري الصحة النفسية لدى وزارة الصحّة بالعراق إن "البعض يعتقدون أن الفيروس هو غضب من الله، أو ربما يكون عقاباً على ذنبٍ اقترفوه، لذا لا يريدون أن يراهم الآخرون مَرضى".

قوات أمنية تقوم بتعقيم الشوارع والأسواق في مدينة البصرة/ رويترز

وأضاف: "بالنسبة للكثيرين، من العار للأنثى أن تقول إنها تعاني هذا المرض أو أي مرضٍ آخر، حتّى وإن كان السرطان أو مرضاً عقلياً، وتفتقر المنظومة الصحية في البلاد إلى ثقة الكثيرين". 

إن  الوصمة وهالة الإثم المحيطتين بالفيروس قويّتان، لدرجة أن أسر الذين ماتوا لأسباب أخرى يعارضون وجود جثامين أحبّائهم في المشرحة نفسها، أو حتّى ساحة الدفن التي يرقد فيها أولئك الذين قتلهم الفيروس.

عادات وتقاليد

على النقيض من العديد من الدول الغربية؛ التي اعترف فيها مشاهير بإصابتهم بالمرض، وحتّى إيران المجاورة، التي أعلن ساسة بارزون فيها أنهم أصيبوا بفيروس كورونا المستجد، لم يعترف بالعدوى بين الساسة والبارزين سوى حالة واحدة فحسب.

وترى شيرين حمدي، أستاذة علم الإنسان في جامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين، التي عملت على نطاق واسع في مجتمعات الشرق الأوسط، أن بعض المخاوف المحيطة بالمرض نابعة من الطقوس التي يتبعها الناس في حالات الوفاة. 

إذ قالت: "إنك لن تودّ أن تُرغم على الحجز الصحي، ولن تودّ أن تُرغم على دخول المستشفى لأن تلك الروابط الاجتماعية والأسرية قويّة للغاية، إنك ترغب في الموت بين أسرتك".

وأضافت: "إن أسوأ شيء في العالم ليس هو الموت، بل أن تموت بعيداً عن أسرتك ومجتمعك، وألّا يكون لك سلطان على ما يُفعل بحثمانك بعد الموت".

وتخشى السلطات من أن غسل جثث الأشخاص المتوفين جراء فيروس كورونا، ربما يزيد الوضع سوءاً، وقد تؤدي إلى نشر الفيروس.

الحجر الصحي يمثّل إهانة للبعض

يُمثّل فرض الحجر الصحي على المصابين إهانة مضاعفة في العديد من المجتمعات العراقية. أولاً، يضمن فرض الحجر الصحي على الشخص المصاب أنَّ كل شخص في الجوار سيعرف بشأن مرضه. ثانياً، إذا كان المصاب ذكراً بالغاً فهذا يعني أنَّه لم يعد قادراً على حماية زوجته أو أطفاله، أو أشقائه الأصغر سناً في حال كان الأخ الأكبر، ومن ثمَّ لا يستطيع أداء دوره المنوط به في العائلة.

تمنع العائلات الأكثر تقليدية في بعض الأحيان أقاربها الإناث من إجراء اختبار فيروس كورونا، خوفاً من أنَّه في حال ظهرت نتائجهن إيجابية سَيُنقلن إلى حجر صحى بعيداً عن عائلاتهن، وقد يتعرضن لخطر التحرش الجنسي.

في هذا الصدد، قالت الطبيبة منى الخفاجي، أخصائية الأشعة في أحد المراكز الخاصة ببغداد: "ليس من المقبول ابتعاد الأنثى عن أسرتها في هذا المجتمع".

وذكرت منى حالة مريضة تبلغ من العمر 32 عاماً مصابة بالتليف، مما يزيد من خطر تعرضها لمضاعفات خطيرة جراء فيروس كورونا. عندما أصبحت تلك المرأة تعاني من صعوبة في التنفس، أوصتها الطبيبة بإجراء اختبار فيروس كورونا، لكن والدها وإخوانها رفضوا ذلك، وأصروا على رأيهم حتى عندما ساءت حالتها.

تجدر الإشارة إلى أنَّ العراق ليس البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي يعاني من وصمة عار تلاحق المصابين بالفيروس. يعود نفور المصريين من الحجر الصحي إلى أوائل القرن العشرين تقريباً، عندما اجتاح وباء الكوليرا والسل البلاد، ولم يستطع بعض المعزولين في الحجر الصحي النجاة من الموت.

ظهرت مخاوف مماثلة في أفغانستان، حيث هاجم الناس العاملين في مجال الرعاية الصحية وفرّوا من نوافذ المستشفيات هرباً من الحجر الصحي. في الشهر الماضي، هاجم ما يقرب من 40 مريضاً عاملي الرعاية الصحية في أحد مستشفيات ولاية هرات الأفغانية، وهربوا من الحجر الصحي هناك.

حلول قد تولّد مشاكل أخرى

وفي محاولة للتغلّب على وصمة العار المحيطة بالفيروس وتحديد حجم نطاق الوباء بدقة، لجأت وزارة الصحة العراقية في الآونة الأخيرة إلى إجراء اختبارات عشوائية. ومع ذلك، أسفر هذا النهج عن مجموعة جديدة من المشاكل.

أولاً، قد يتعرض بعض الأشخاص الأصحاء للوصم الاجتماعي كذباً. ولتفادي تلك المشكلة، كلّفت الحكومة العراقية أفراداً من الأمن الوطني المسلحين بمرافقة العاملين الصحيين. لكن وجود قوات أمنية يُعتبر أمراً مقلقاً للغاية، بالنظر إلى الماضي العنيف الذي عاشه العراق. هذا بدوره جعل بعض الناس يختبئون داخل منازلهم.

قال الدكتور محمد وهيب، أخصائي أمراض الجهاز التنفسي في مؤسسة "مدينة الطب" في بغداد: "العمل صعب للغاية في هذه الثقافة لأنَّ كل ما نقوم به يثير مشكلة. فإذا أرسلنا سيارة إسعاف لنقل المريض، يشعر الناس حينها بالاستياء لأنَّ الجيران سيرونها".

وأضاف وهيب: "يحدث نفس الشيء أو أسوأ إذا أرسلنا أفراد من الأمن القومي. إذ يشعر الناس بالخوف والرهبة".

تقول وزارة الصحة إنَّ الاستعانة بأفراد الأمن هو السبيل الوحيد للتغلب على صعوبات إقناع الناس بالذهاب إلى الحجر الصحي. ومع ذلك، يرى الأطباء إنَّه لا داعي للقلق من مشاركة أفراد الأمن، على الأقل عندما تكون مهمة الفرق الصحية مقتصرة على جمع العينات فقط.

الناس يغلقون أبوابهم

أبرز اليوم الثاني من الاختبارات العشوائية المشاكل المحلية المتكررة في مدينة الصدر، وهي حي فقير مترامي الأطراف في شرق بغداد، المنازل فيه عبارة عن مزيج من الطوب وألواح الصفيح المعدنية المموجة، مع القمامة المنتشرة في الشوارع، التي معظمها غير معبّدة.

نظرت امرأة مُسنّة، ترتدي عباءة سوداء طويلة، من فتحة بوابة منزلها لمعرفة مَن يطرق الباب. وعندما نظرت إلى الشارع، أغلقت البوابة سريعاً لأنَّها شاهدت أكثر من 40 شخصاً -يرتدون أثواباً طبية وأقنعة وجه أو بدلات وقائية كاملة، يرافقهم كاميرتين أو ثلاث كاميرات تلفزيونية، وضباط من الشرطة المجتمعية، بالإضافة إلى شباب ينتمون إلى ميليشيا رجل الدين العراقي، مقتدى الصدر، وعدد قليل من الشيوخ المحليين.

طرق الدكتور باسم عبود، المسؤول عن الإشراف على المنطقة في وزارة الصحة، باب منزل تلك المرأة المُسنّة دون جدوى.. قال عبود: "الناس في مدينة الصدر مُتشكّكين في وزارة الصحة"، مضيفاً إنَّه "في حال اعتقد الناس أنَّني قادم مع الحكومة، سيغلقون الباب في وجهي. لكن إذا ما رأوني طبيباً، سيأتون إليّ للمساعدة".

تحميل المزيد