في خضم جائحة كورونا التي غزت العالم، وكانت بالنسبة للإيطاليين هي الأسوأ بسبب ارتفاع معدلات الوفيات لتصبح الأعلى في العالم، ربما امتدح كثيرون على منصات التواصل الاجتماعي الأنباء التي تحدثت عن دعم العصابات الإجرامية في إيطاليا للفقراء خلال الأزمة، لكنّ مسؤولين إيطاليين وخبراء حذروا من تدخل المافيا في دعم فقراء البلاد، وتقديم مساعدات للعائلات المتضررة من الإغلاق والوباء، محذرين من استغلال العصابات لهذه المجتمعات الفقيرة لصالح أعمال المافيا، فكيف ذلك؟
لماذا تساعد المافيا في إيطاليا الفقراء؟
الصحفي الإيطالي المتخصص بشؤون المافيا روبرتو سافيانو، حذر من أن المنظمات الإجرامية في إيطاليا توزع منتجات غذائية على أكثر المواطنين فقراً، وتساهم في منح قروض مجانية لهم للحصول على تعاطفهم. وقال مؤلف كتاب "غومورا" الذي يدور حول مافيا نابولي، والذي أصبح رأسه مطلوباً للمافيا منذ سنوات، إن مجموعات المافيا تسعى أيضاً إلى الهيمنة على الأعمال التي تعاني من صعوبات، فيما تأمل إيطاليا في الحصول على تمويل أوروبي للتعامل مع الأزمة الاقتصادية.
وأوضح سافيانو في حديث مع صحفيين الخميس، أن "المافيا لا تنتظر سوى فرصة كهذه، لأن الشركات التي ستكون من ضحايا الأزمة ستجد نفسها مع شركاء جدد مرتبطين بهذه المنظمات الإجرامية".
بالإضافة إلى توفير المواد الغذائية للفقراء في نابولي، المدينة الكبيرة في جنوب إيطاليا، ألغى المقرضون الفوائد على الديون بناء على أوامر من عصابة "كامورا" بحسب سافيانو.
وقال سافيانو الذي يعيش في نيويورك ووضع تحت حماية الشرطة: "غرض هذه العصابات من تقديم المساعدات هو الحصول على خدمات في المقابل"، موضحاً أن الخدمات هذه يمكن أن تكون أيضاً "أصواتاً في انتخابات".
استغلال الأزمة الاقتصادية لتقوية النفوذ
وكان المدعي العام الوطني لمكافحة المافيا في إيطاليا، فيديريكو كافييرو دي راؤو، قد قال في تصريحات إذاعية، الأسبوع الماضي، إن تفشي فيروس كورونا بقوة في البلاد لم يصرف انتباه السلطات عن تحركات المافيا التي تحاول استغلال الأزمة لتقوية نفوذها وزيادة نشاطاتها وإظهار نفسها كمنقذ.
وأضاف كافييرو دي راؤو: "حيثما يكون هناك ضيق اجتماعي وصعوبات تفكر المافيا بالتغلغل"، مبيناً أن "عائلات المافيات الكبيرة مثل كامورا وندرانغيتا، تسعى قبل كل شيء أن تحظى بقبول اجتماعي، ففي بعض الأحيان تنظم أشكالاً من الاحتجاج، لكن في معظم الأحيان تقدم الخدمات التي تحتاج إليها الفئات الأكثر فقراً في المجتمع، وتمنح العطايا ثم تطلب استردادها مع الفائدة".
مشيراً أنه "في ظل حالات الطوارئ الراهنة يكون مستوى حذرنا عند أقصى حدوده إزاء هذا النوع من العطايا الظاهرية، التي تحاول المافيا تقديمها للفقراء"، مبيناً أن "الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً ليست هي الأكثر عرضة للخطر فقط، بل وكذلك الأعمال التجارية أيضاً".
كيف ستؤثر المافيا على الأعمال التجارية بعد انتهاء الأزمة؟
يقول المسؤول القضائي دي راؤو: "تخيلوا في غضون بضعة أشهر، عندما ستعود الشركات إلى السوق، فإن لم تتدخل الدولة بدعم قوي لها فستجد شركات كثيرة نفسها محاطةً بالصعوبات، وإذا لم تتدخل الدولة بقوة اقتصادية لإعطاء قوة دفع لهذه المؤسسات فمن المؤكد أن المافيا ستتدخل لتصور نفسها كمنقذ لهذه الشركات من الأزمات الجدية التي تهددها".
وكشف المدعي العام الوطني، أن "هناك رسائل ومقاطع فيديو لرجال الكاموراي في مقاطعة كامبانيا (جنوب)، وهم يقدمون المعكرونة والمؤن للناس لإثبات قدرتهم على دعم الشرائح الاجتماعية الضعيفة في زمن كورونا"، في حين تعجز الدولة عن ذلك.
ومع انتشار فيروس كورونا في المناطق الشمالية من إيطاليا أكثر من غيرها، أُصيب سكان الجنوب بحالة من الإحباط والغضب، إذ لم يتقاضَ الناس أجورَهم لأول مرةٍ الشهر الماضي، بالتزامن مع حلول موعد دفع الإيجار وسداد أقساط الرهن العقاري. كما أُغلِقَت المصانع، وتخسر الشركات يومياً، فضلاً عن أنّ نحو 3.7 مليون شخص ممن يعملون في الاقتصاد الأسود غير المُوثّق تُرِكوا دون غطاء، في ظل عدم أهليتهم للحصول حتى على المعونة الرسمية الضعيفة.
فيما قال عمدة باليرمو، ليولوكا أورلاندو: "علينا أن نتحرك سريعاً، وبسرعةٍ أكبر من المُعتاد، لأنّ اليأس قد يتحول إلى عنف".
المافيا متضررة من كورونا ولكنها تريد تحويلها لصالحها
وكانت تقارير سابقة قد أشارت إلى أن جائحة كورونا ألحقت أضراراً بالغة بالمافيات والمنظمات الإجرامية الموجودة في إيطاليا، فالإجراءات الصارمة التي اتخذتها السلطات الإيطالية لتطبيق الحجر الصحي ووقف الأعمال التجارية، أدت إلى تقليل مكاسب المنظمات الإجرامية، مثل جماعة المافيا التي ظهرت في جزيرة صقلية، ومنظمة ندرانجيتا المرتكزة في كالابريا، وهي جماعات تعمل في الاتجار بالمخدرات وغيرها من البضائع المهرَّبة على سفن الشحن.
وصحيحٌ أن تلك المنظمات لا تزال تُجري عمليات شحن المواد المخدرة، لكنها تواجه صعوبة في توزيعها بمجرد وصولها إلى إيطاليا. في هذا السياق، قالت آنّا سيرجي، المتخصصة في علم الجريمة في جامعة إسكس البريطانية: "لا تزال أنواع معينة من المخدرات يجري شحنها، لكن المشكلة في كيفية تصريفها".
كذلك توقع خبراء آخرون في علم الجريمة، مثل فريدريكو فاريزي الأستاذ في جامعة أكسفورد، أن تستمر معاناة المنظمات الإجرامية في ظل انكماش الاقتصاد في إيطاليا، وقال: "لا أظن أنَّ تلك الجماعات تملك كل هذا القدر من المال في متناول يدها. فكلما استمرت في عملها زادت المصاعب التي تواجهها".
لا يزال يوجد احتمالٌ بأن تستفيد هذه الجماعات من الوضع الراهن؛ إذا ما أقرضت الأموال للمؤسسات الصغيرة التي لا تستطيع دفع رواتب موظفيها خلال فترة الحجر. تقول أنّا: "ما يقلقني هو القروض بفوائد ضخمة (المراباة). سيكون رجال الأعمال في ضائقةٍ حقيقيةٍ ويعجزون عن دفع رواتب الموظفين، لذا سيصبح سهلاً عليهم التعامل مع المُرابين".
من جهته، أثار تقرير نشرته صحيفة "دي فيلت" الألمانية غضباً واسعاً في إيطاليا، حذرت فيه الصحيفة من أن "المافيا في إيطاليا لا تنتظر سوى تدفق أموال من بروكسل"، أي من المفوضية الأوروبية، محذرة أوروبا من منح أموال "بلا حدود وبلا مراقبة" لإيطاليا، فيما يتعلق بأزمة فيروس كورونا.
ورداً على ذلك، وصف وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو هذا التعليق بـ"المشين" و"غير المقبول"، مطالباً الحكومة الألمانية بالاعتذار عن هذا المقال والنأي بنفسها عنه. فيما هاجم سياسيون ونواب إيطاليون الصحيفة الألمانية، داعين لاعتذار رسمي ألماني عنه، موضحين أن التقرير جعل الإيطاليين يظهرون كأنهم جميعاً أعضاء في المافيا.