بدأ المجلس العسكري المؤقت في السودان اتخاذ خطوات تحضيرية لفض اعتصام القيادة في مؤشرات تبدو الآن مؤكدة أنه لن يسلم إدارة البلاد لسلطة مدنية نزولاً عند الرغبة الشعبية الجارفة وتحقيقاً للمطلب الأوحد لجموع الشعب السوداني("مدنية")، مما يطرح السؤال مرة أخرى: كيف سيكون رد القوى المدنية وهل هناك سيناريو تتحقق فيه مطالب المدنيين دون انزلاق البلاد لمواجهات دامية؟
شهدت الساعات الأولى من صباح الجمعة 31 مايو/أيار بياناً تلفزيونياً صادراً عن المجلس العسكري المؤقت قال فيه إن "ميدان الاعتصام أصبح خطراً على البلاد والثوار".
تزامن البيان مع إعلان قناة الجزيرة القطرية أن السلطات السودانية قررت سحب تراخيص العمل لمراسلي شبكتها، "اعتباراً من الآن"، وقال ضباط الأمن إن القرار اتَّخذه المجلس العسكري الانتقالي، لكنهم لم يُسلِّموا مديرَ مكتب الجزيرة أي قرار مكتوب.
وقالت شبكة الجزيرة الإخبارية، إن أجهزة الأمن السودانية أبلغت مدير مكتب الجزيرة قرار المجلس العسكري الانتقالي إغلاق مكتب شبكة الجزيرة في الخرطوم، والتحفظ على الأجهزة والمقتنيات بعد حصرها وتسليمها للسلطات.
مع الساعات الأولى من صباح اليوم الجمعة بدأ تدفق عشرات الآلاف من المتظاهرين على وسط العاصمة الخرطوم استجابة لدعوة قوى الحرية والتغيير لتصعيد الضغوط على المجلس العسكري لتسليم السلطة للمدنيين، بعد ما يقرب من شهرين من عزل الجيش لعمر البشير الذي انطلقت الاحتجاجات الشعبية ضد حكمه منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ماذا يعني البيان وما هي خلفياته؟
بيان المجلس العسكري شهد اتهام قائد المنطقة العسكرية المركزية بالخرطوم اللواء بحر أحمد بحر عناصر منفلتة بمهاجمة مركبة تابعة لقوات الدعم السريع والاستيلاء عليها قرب موقع الاعتصام.
اللافت هنا هو أن البيان صدر بعد اجتماع نائب رئيس المجلس العسكري الفريق ركن محمد حمدان دقلو "حميدتي" مع قادة القوات النظامية والأجهزة الأمنية، الخميس، الأوضاع الأمنية في البلاد خلال الفترة الماضية، و"التدابير والترتيبات" التي سيتم اتخاذها خلال الفترة المقبلة.
وبحث الاجتماع الأوضاع الأمنية في البلاد خلال الفترة الماضية، والتدابير والترتيبات التي سيتم اتخاذها خلال الفترة المقبلة "من أجل تعزيز الاستقرار وحفظ الأمن في البلاد".
القوى المدنية تتهم قوات الدعم السريع بمحاولة تقويض الانتقال إلى الديمقراطية، وهي تهمة تنفيها القوات.
وذكر شاهد عيان لرويترز أن المحتجين الذين كانوا قد تدفقوا على موقع الاحتجاج رددوا هتافات ضد قوات الدعم السريع، وهي قوة شبه عسكرية يقودها "حميدتي".
ورددت الحشود هتاف "قوات مسلحة بس والدعم يطلع برا"، في إشارة إلى قوات الدعم السريع، ووقف البعض أمام شاحنات عسكرية تستخدمها القوة التي تسيطر على العاصمة.
الرجل الذي يريد أن يصبح رئيساً
دور "حميدتي" في قيادة الثورة المضادة في السودان وطموحاته في أن يصبح رئيساً للبلاد لفت الأنظار منذ لحظة إعلان عزل البشير حين أعلن استقالته من المجلس العسكري بقيادة عوف بن عوض وزير الدفاع، ليعود بعدها نائباً للمجلس الحالي.
وبحسب صحيفة الغارديان البريطانية، يقول مبعوثون غربيون وناشطون مُعارضون في الخرطوم إن قائد قوات التدخل السريع، الذي ينتمي إلى عائلة من تجار الإبل في محافظةٍ نائية وتسرَّب من التعليم حين كان في المدرسة الابتدائية، يأمل أن يصبح رئيساً، وأخبر شخصٌ معارض، طلب عدم ذكر اسمه خوفاً من الانتقام، الصحيفة: "لقد خطَّط حميدتي ليصبح الرجل الأول في السودان، لديه طموح غير محدود".
ويقول بعض المحللين إن حميدتي مدعوم من جانب تحالف غير رسمي يضم مؤيدين متنوعين، كما يراه البعض حليفاً ضد الحركة الإسلامية التي دبرت انقلابَ عامِ 1989، الذي أوصل البشير إلى السلطة وعزَّز نظامه.
التقرير الذي نشرته الغارديان الأربعاء 29 مايو/أيار بعنوان "حميدتي الذي يدير الأمور في السودان" ربما لم يأتِ بجديد بالنسبة لغالبية السودانيين فهذا ما يعرفونه منذ لحظة الإعلان عن إبعاد البشير، فالرجل يخبر الدبلوماسيين الأجانب بأنَّ الإطاحة بالبشير كانت فكرته هو، كما أنه تولَّى مركز الصدارة في التفاوض مع المدنيين.
العصيان المدني أهم الأوراق؟
قوى الحرية والتغيير لا تملك سوى ورقة الاستمرار في الاحتجاج السلمي والتصعيد من خلال الدعوة للعصيان المدني، وهي أوراق لا يمكن الاستهانة بها في ظل الوعي الشعبي والاستفادة من تجارب الربيع العربي الأولى في 2011، وخصوصاً ما حدث في مصر من انقلاب العسكريين على نتائج الانتخابات والسيطرة على السلطة بشكل صارم.
الخطوات التي يتخذها المجلس العسكري توضح أن الأمور تخطت مرحلة التفاوض وحان وقت الأساليب الخشنة، وأهمها سيكون محاولات فض الاعتصام بعد أن أصبح خطراً على البلاد والثوار، وكثرة الحديث عن وجود عناصر منفلتة وسط المعتصمين (أي النسخة السودانية من الطرف الثالث أو المندسين من تراث الثورة المصرية).
هذه الحقائق مجتمعة تجعل الصورة على الأرض تدعو للتفاؤل الحذر، حيث أن لجوء المجلس العسكري لاستعمال القوة لفض الاعتصام سيؤدي لإسالة الدماء ومع الإصرار الشعبي الواضح على عدم التراجع عن الانتقال للحكم المدني بعد عقود من الحكم العسكري الكارثي، ليس من المنتظر أن يؤدي استعمال القوة المسلحة لتراجع الاحتجاجات أو فض الاعتصام دون خسائر في أرواح المدنيين المتمسكين بسلمية اعتصامهم، وعندها سينتقل الضغط شعبياً ودولياً على المجلس العسكري الذي من المؤكد أن جميع أفراده ليسوا "حميدتي" الطامح إلى الوصول لكرسي الرئاسة.