أصبحت ليبيا ساحة لصراعات قوى إقليمية ودولية، وأصبح حل الأزمة في يد عدد من العواصم البعيدة، فهل تنشب حرب في المنطقة بسبب ليبيا؟
من بعيد، تبدو ليبيا مجرد ساحة لعب محطَّمة تخلّت عنها الفرق الكبرى، حسب وصف تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية.
فهي بلدٌ منقسم تحكمه ميليشيات متنافسة، وتُديره حكومتان، ومجلسان تشريعيان، ومصرفان مركزيان، وعشرات الميليشيات.
ولكن هذا الانقسام هو انعكاس ليبيا ساحة لصراعات قوى إقليمية ودولية.
ليبيا ساحة لصراعات قوى إقليمية ودولية تجري وراء الكنز المدفون
لكن واقع الأمر هو أنّ ليبيا مدفون تحتها كنز ذو أهمية استراتيجية ومالية، واحتياطي يُعَدُّ من الأكبر في العالم. ومثلها مثل أي ساحة خالية، جذبت ليبيا الجهات الفاعلة الدولية للحضور، واستغلال مواردها.
وخريطة التدخل الأجنبي في ليبيا تُحيّر المراقب حتى تدور رأسه، ففي شرق البلاد قوات من الإمارات، ومساعدات قادمة من السعودية ومصر لدعم اللواء خليفة حفتر، الذي يقود ما يدعى بـ "الجيش الوطني الليبي"، وهو ليس الجيش الوطني للبلاد.
وعلى الناحية الأخرى تبرز في مواجهتهم تركيا وقطر، اللتان تدعمان الحكومة المعترف بها دولياً برئاسة فايز السرّاج، لكن حكومته لا تحظى بدعم المجلس التشريعي.
فرنسا وإيطاليا تتواجهان وبوتين يلعب على الجانبين
وهناك روسيا التي تلعب على كلا الجانبين. وقد أرسلت (على نحوٍ غير رسمي) قوات المرتزقة التابعة لها، المعروفة باسم "مجموعة فاغنر"، التي سبق لها المشاركة في عمليات عسكرية في سوريا، وتشارك حالياً في العديد من البلدان الإفريقية، وهي الآن تدعم وتساند قوات حفتر.
وانضمّت فرنسا إلى مجموعة الدول التي تدعم الجنرال المتمرد، في حين أنّ إيطاليا تدعم حكومة السرّاج المعترف بها. وكما فعلت في سوريا، امتنعت الولايات المتحدة حتى الآن عن أيّ تدخل، وتمسكت بموقف المراقب الخارجي مستعدةً لتقديم المشورة والمساعدة الدبلوماسية، دون أي حسم لحل الأزمة الليبية.
ولا تخفى المصالح التي تحفز كل بلد من هذه البلدان للتدخل على أحد. فروسيا التي تسعى إلى توسيع رقعة نفوذها في الشرق الأوسط لتمتد إلى شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، قد نجحت بالفعل في ترسيخ نفسها بقوة في سوريا، وهي الآن تنظر إلى ليبيا بوصفها قاعدةً استراتيجية محتملة يمكن أن تضمن لها موطئ قدم أقوى في البحر الأبيض المتوسط، بعد قاعدتها في ميناء طرطوس السوري.
ولأنه لا يمكن لأحد التنبؤ بكيفية انتهاء الأزمة الليبية أو لصالح من، فإن روسيا اختارت التعاون مع الجانبين.
وهكذا إذا انتهى الأمر بحكومة طرابلس المعترف بها منتصرة، فستحوز روسيا مكانةً مهمة في البلاد.
لكن في الوقت نفسه إذا نجح حفتر في الإطاحة بالحكومة أو إذا وافق على أن يصبح شريكاً في أي حكومة يجري تشكيلها، فسيصبح بإمكان روسيا تنفيذ الاتفاقيات التي جرى توقيعها قبل سنوات مع الديكتاتور الليبي الراحل معمر القذافي، وهي صفقات تقدر بمليارات الدولارات. إذ في مقابل المساعدات العسكرية والاقتصادية التي تقدمها روسيا إلى حفتر، تعهّد قائد ما يعرف بقوات الجيش الوطني الليبي بإحياء هذه الاتفاقيات.
وتركيا تقول إن اتفاقها مع طرابلس يتوافق مع القانون الدولي
أما تركيا، التي وقّعت اتفاقاً عسكرياً واقتصادياً مع الحكومة الليبية في نوفمبر/تشرين الثاني، فتسعى إلى تحقيق عدة أهداف. إذ يتضمن الاتفاق اتفاقية ترسيم للحدود البحرية بين البلدين، موسعاً على نحو كبير من مساحة المياه التابعة لها في البحر الأبيض المتوسط، حيث يمكن لتركيا التنقيب عن النفط.
هذا الاتفاق، الذي صدّق عليه البرلمان التركي في عجالة هذا الشهر، قد يحرم اليونان والقبارصة اليونانيين من مساحات شاسعة من مناطق التنقيب عن النفط والغاز، ويُجبر مصر وإسرائيل على التفاوض مع تركيا، فيما يتعلق بتركيب خطوط أنابيب الغاز الطبيعي وتوصيله إلى أوروبا.
وتقول تركيا إن مصر واليونان وقبرص اليونانية تحاول ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز دون مراعاة حقوقها أو حقوق قبرص التركية، كما تؤكد أن اتفاقيتها مع ليبيا تتوافق مع القانون الدولي، وهي امتداد لمفاوضات سابقة مع زعيم ليبيا السابق معمر القذافي.
وتعارض إسرائيل واليونان، بالإضافة إلى دول أخرى من الاتحاد الأوروبي، الاتفاقية، على اعتبار أنّها خطوة تنتهك القانون الدولي وتستبطن نيةً عدائية تستهدف الإضرار بمصالحهم.
ومع ذلك فحتى الآن، وبخلاف بيانات الإدانة والانتقادات، فإن أياً من تلك الدول لا يبدو أنّه يخطط لاتخاذ إجراء قوي ضد الاتفاقية أو ضد تركيا وليبيا.
ورغم اعتراض أوروبا فإنها لا تجرؤ على إغضاب أنقرة
وتُعَدُّ العلاقات مع تركيا مهمة لأوروبا، لأنّ تركيا تتحكم في تدفق اللاجئين من سوريا باتجاه دول الاتحاد الأوروبي، وكثيراً ما تهدد أنقرة الاتحاد الأوروبي بفتح الباب أمام اللاجئين المتجهين إلى الغرب. وقد أخذت اليونان تبذل جهودها لحشد الأردن والسعودية والإمارات ومصر وإسرائيل للتحالف ضد الاتفاق، حتى إنها طردت السفير الليبي في أثينا.
أما وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، فعلّق بالقول: "ليست لدى إسرائيل رغبة، وليست لدى تركيا رغبة في مواجهةٍ مع إسرائيل".
وعلى الرغم من أنّ تركيا لديها مساحة لممارسة دور الجار المشاكس ضد خصومها في الشرق الأوسط، وفي مواجهة الانتقادات الأوروبية، فإنّ الواقع هو أنّ مشكلتها الرئيسية هي في الحقيقة مع روسيا.
فهناك تعاون وثيق بين البلدين، وازدهار في العلاقات التجارية بينهما. وتوشك المشتريات العسكرية التركية من روسيا على الوصول إلى مليارات الدولارات، ويرجع ذلك إلى شرائها أنظمة الصواريخ الروسية المضادة للطائرات "إس-400".
وقد يتضاعف هذا الرقم إذا قررت تركيا شراء طائرات السوخوي الروسية الجديدة بدلاً من طائرات إف-35 الأمريكية، والتي علّقت الإدارة الأمريكية بيعها لأنقرة بسبب شراء أنقرة لأنظمة الصواريخ الروسية.
موسكو وأنقرة صداقة مستجدة تهددها المصالح المتضاربة
لكن تركيا وروسيا لديهما مصالح متضاربة في ليبيا. فكلا البلدين لا يسعى فقط إلى الحصول على تراخيص استخراج وإنتاج النفط والغاز من الحقول الليبية، بل قد ينتهي بهما المطاف متنافسين مباشرين على النفوذ في بلدان حوض البحر المتوسط.
كما أن التنافس بين البلدين في ليبيا هو امتداد للتنافس في سوريا، إذ تدعم تركيا ثورات الربيع العربي والحركات الإسلامية التي تحقق عادة نتائج قوية في انتخابات بالمنطقة، مقابل عداء روسي تقليدي للحركات الإسلامية ودعم روسي للأنظمة الاستبدادية، ولاسيما العسكرية.
كما تريد تركيا تحييد منافسيها العرب –مصر والسعودية والإمارات- في الساحة الليبية، وتسعى إلى تعزيز تحالفها مع قطر على حسابهم.
والصراع بين الدول العربية الثلاث من ناحية وبين أنقرة والدوحة من ناحية هو امتداد لصراع أكبر بالمنطقة، تحارب فيه الإمارات والسعودية ومصر حركات الربيع العربي المطالبة بالديمقراطية، خاصة إذ لعب فيها الإسلاميون دوراً محورياً مقابل دعم تركي قطري لهذه الحركات.
وفي هذا الإطار تشير تقارير من طرابلس وتركيا وقطر إلى أنّ تركيا لا تقدم فقط الدعم الدبلوماسي للحكومة الليبية، بل تُموّل أيضاً الميليشيات الإسلامية التي تعتمد عليها الحكومة المعترف بها دولياً.
حفتر يقاتل الحكومة التي حاربت داعش بمقاتلين سلفيين متطرفين
أما الشخصيات المعارضة لذلك التحالف، ومن ضمنها اللواء حفتر، فتزعم خشيتها من أنّ تركيا وقطر تريدان إقامة دولة إسلامية في ليبيا.
وهم يرون أنّ اللواء حفتر فقط هو من يستطيع الحيلولة دون حدوث ذلك رغم أن السلفيين المدخليين هم من أبرز عناصر قوات حفتر.
ويسهل على نحو كبير إثارة مخاوف الغرب من احتمالات استيلاء جماعات إسلامية متشددة على الحكم في ليبيا والترويج لذلك.
ولكن التهديد الحقيقي للأجزاء المنقسمة في ليبيا يأتي في الواقع من ميليشيات حفتر، والتي تضم آلافاً من المتطوعين الذين أتوا من السودان، ويقاتلون إلى جانبه على هيئة قوات من المرتزقة، علاوة على الميليشيات القبلية التي تعترف بحكومة طرابلس.
كما أن القوات الموالية للحكومة الشرعية في طرابلس هي التي تصدت لداعش وطردت التنظيم المتطرف من مدينة سرت.
هل ينفذ أردوغان تهديده بإرسال قوات إلى ليبيا؟
وتتيح تفاهمات تركيا مع الحكومة الليبية، إضافةً إلى الاعتراف الدبلوماسي بالحكومة، إرسال قوات عسكرية من أي حجم لمساعدة الحكومة في السيطرة على البلاد.
وقال أردوغان عدة مرات هذا الأسبوع إنّه مستعدٌ لإرسال قوات عسكرية إذا طلبت الحكومة الليبية ذلك.
وإذا صدقنا التقارير الواردة من ليبيا، فإنّ تركيا لا تنتظر دعوة. إذ يتواجد مدربون ومعدات تركية في ليبيا لمساعدة الميليشيات الموالية للحكومة الشرعية.
ويقول أردوغان إنّ تركيا مستعدة أيضاً لإرسال مساعدات جوية وبحرية إذا اقتضت الظروف ذلك.
هذه التصريحات موجهة بالأساس إلى الدول العربية التي تدعم حفتر، ولكنها موجهة أيضاً إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتلمح إلى أنّه ما دام اندلع صراع عسكري بين القوات الحكومية وقوات حفتر، فإنّ مقاتلي الميليشيات الروسية هم أيضاً عرضة للإصابة.
ولا تتجاهل روسيا هذا الخطر، فقد سبق أن أعلنت صراحةً معارضتها التدخل العسكري التركي في ليبيا.
روسيا ترد على تركيا في سوريا
وربما كانت الاعتداءات الروسية المتجددة على مدينة إدلب السورية، والتي دفعت آلافاً من المدنيين السوريين المذعورين إلى الفرار باتجاه الحدود التركية، تقصد إلى إرسال إشارات إلى أردوغان بأنه يهزّ وضعاً هشاً وسريع التقلب بالفعل بهذا التدخل.
أي أن ليبيا نقطة تقاطع صراعين، الصراع الروسي الإيراني مع الحركات الإسلامية خاصة المعتدلة مثل الإخوان المسلمين وتركيا وقطر الداعمتين للثورة السورية (مع عدم مشاركة إيران في الصراع الليبي)، أما الصراع الثاني فهو بين أنقرة والدوحة المؤيدتين للربيع العربي، وبين الإمارات والسعودية ونظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي المعادين للديمقراطية والإسلاميين، وهو الصراع الذي دار في مصر وحالياً في السودان وبصورة أقل حتى في تونس.
وهكذا تجد ليبيا نفسها حبيسة وسط مباراة مصارعة بين قوى وبلدان متنافسة، غير أنّها لا تستطيع أن تتجاوز دور الساحة المستضيفة للصراع.
وتبدو مساعي الوساطة التي بذلها مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة، والمحادثات متعددة الأطراف التي يجريها ممثلون عن الولايات المتحدة مع حفتر والحكومة الليبية، أشبه بثرثرةٍ فارغة أكثر من كونها سبيلاً واقعياً لحلٍّ دبلوماسي.
إذ كما هو الحال في سوريا، يبدو أنّ الحل سيجري التوافق عليه وإملاؤه في موسكو وأنقرة والعاصمة القطرية الدوحة، وليس في طرابلس أو بنغازي أو ليبيا محل الصراع نفسه.
وفي غضون ذلك، لا أحد –باستثناء المدنيين الليبيين- يشعر بأيّ إلحاح للوصول إلى خط النهاية في ذلك الصراع.