مع اقتراب المؤتمر الدولي بشأن ليبيا الذي تستضيفه الحكومة الألمانية في برلين، جاء خبر توقيع اتفاقيات تخص الحدود البحرية بين تركيا والحكومة الليبية المعترف بها دولياً ردود أفعال متباينة، فما هي خلفيات توقيع تلك الاتفاقيات؟ وماذا يريد كل طرف من ورائها؟ وما سر اعتراض الآخرين؟
موقع شبكة الإذاعة الألمانية دويتش فيله نشر تقريراً عن القصة بعنوان: "اتفاق الحدود البحرية بين تركيا وليبيا يثير توترات في البحر المتوسط"، ألقى فيه الضوء على موقف الأطراف المختلفة قبيل انعقاد مؤتمر برلين.
ما سر التوقيت وملابساته؟
أثار اتفاقان وُقِّعا بين تركيا والحكومة المُعتَرَف بها دولياً في ليبيا بشأن الحدود البحرية والتعاون العسكري غضب جيرانهما الإقليميين، الأمر الذي يُصعِّد التوتر في البحر المتوسط حول موارد الطاقة ويُعزِّز حليف تركيا في البلد الشمال إفريقي قبيل انعقاد مؤتمر برلين بشأن الصراع في المنطقة.
يأتي توقيت الاتفاقين في خضم لحظة بالصراع الليبي يبدو فيها حليف تركيا ورئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية المدعومة من الأمم المتحدة، فايز السراج، بحاجة للدعم من أجل التصدي للهجوم المستمر الذي تشنه قوات شرق ليبيا التابعة لخليفة حفتر، أو "الجيش الوطني الليبي"، منذ 8 أشهر على طرابلس.
غرَّد فخر الدين ألتون، مسؤول الإعلام للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هذا الأسبوع بأنَّ الاتفاق العسكري من شأنه "تحسين الوضع الأمني للشعب الليبي". لكنَّ تفاصيل مذكرتي التفاهم اللتين وُقِّعتا الأربعاء 27 نوفمبر/تشرين الثاني لم تصدرا حتى الآن.
وقالت صحيفة Daily Sabah الموالية للحكومة التركية إنَّ حدود البلاد البحرية مع "جارتها" باتت الآن تمتد من ساحل جنوب غربي تركيا إلى ساحل درنة-طبرق الليبي، وهي الفكرة التي رفضها وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس باعتبارها "توشك أن تكون فكرة سخيفة"؛ لأنَّها "تتجاهل أمراً شديد الوضوح"، أي جزيرة كريت، وانتقدت مصر أيضاً الاتفاق، واصِفةً إياه بـ "غير الشرعي".
النزاع بشأن قبرص
لطالما جادلت اليونان وتركيا بشأن الطرف الأحق باحتياطيات النفط والغاز قبالة قبرص، واشتد الصراع في الأشهر الأخيرة، بعدما بدأت تركيا عمليات تنقيب أدَّت إلى اتهامات من قبرص بـ "التنمر" وعقوبات من الاتحاد الأوروبي.
وتركيا ليست دولة مُوقِّعة على معاهدة الأمم المتحدة لعام 1982 والتي تُنظِّم الحدود البحرية، ولا تعترف كذلك بجمهورية قبرص الجنوبية واتفاقياتها المتعلقة بمنطقتها الاقتصادية الخاصة المُبرَمة مع مصر ولبنان وإسرائيل.
وتقول تركيا إنَّها تعمل في المياه الموجودة بجرفها القاري أو المناطق التي توجد بها حقوق جمهورية شمال قبرص التركية المُعلَنة من طرف واحد.
تنافس إقليمي
تُظهِر بيانات البنك الدولي اتجاهاً متصاعداً في واردات تركيا من الطاقة، التي شكَّلت 75% من احتياجاتها من الطاقة عام 2015، وترى تركيا أنَّ تأمين حصتها في التنافس المتنامي على البحر المتوسط أمرٌ حيوي.
قال بشير عبدالفتاح، الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بمصر، لموقع Deutsche Welle الألماني: "تريد تركيا وقف النزيف في الطاقة وتطوير مصادر للنفط والغاز. فوفقاً لاتفاقية عام 1982، تمتد حدودها البحرية إلى 12 ميلاً بحرياً فقط، وهذه المنطقة لا تضم أي آبار نفط أو غاز".
وفي حين قالت أثينا إنَّ مذكرتي التفاهم الجديدتين "لن يكون لهما أثر قانوني"، رفضتهما القاهرة على أساس أنَّ حكومة السراج الليبية لا تملك السلطة للتحرك بصورة أحادية بدون دعم البرلمان. وهذا الوضع مستحيل دون وجود حكومة ليبية موحدة.
وألقت مصر بدعمها خلف القوات الشرقية التابعة لحفتر، وتتسم العلاقات المصرية – التركية بالعدائية منذ دعمت تركيا الإخوان المسلمين في مصر حين أُطيح بالقيادي البارز فيها، الرئيس محمد مرسي، من الحكم عام 2013.
ترتيب الأوراق
لكن يبدو أنَّ اتفاقي هذا الأسبوع أيضاً يمثلان محاولة للمناورة للحصول على نصيب في حال التوصل إلى تسوية نهائية للحرب الأهلية الليبية، على أن تتمثل الجائزة في التمتع بنفوذ في عقود إعادة الإعمار في صناعة النفط الليبية.
وقال عبدالفتاح إنَّه في حين يسيطر حفتر حالياً على معظم حقول النفط، تعتقد تركيا أنَّ الموقف سيكون مختلفاً تماماً بعد التوصل إلى تسوية سياسية، وأضاف: "إذا ما استطاعت تركيا توقيع اتفاقات رسمية مع الحكومة المعترف بها دولياً، يمكنها حينئذ ضمان حصة في النفط الليبي".
إعادة الإعمار
ولابد أنَّ تركيا وحكومة الوفاق الوطني كذلك انتبهتا حين ذهب وفدٌ من المصرف المركزي في شرق ليبيا، غير المُعتَرَف به دولياً، إلى اليونان في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لتوقيع عقدٍ لخطة كبرى في بنغازي ضمن جهود الإعمار في ثاني أكبر مدن ليبيا.
قال تيم إيتون، الخبير في الاقتصاد السياسي الليبي بمعهد تشاثام هاوس البريطاني: "أتصور أنَّ حكومة الوفاق لم يكن لديها الكثير من الهواجس بشأن تراجع موقف اليونان تجاهها (بعد مذكرتي التفاهم الجديدتين)، بالنظر إلى تواصلها المباشر مع فرعٍ غير مُعتَرَف به لمصرف ليبيا المركزي، ولاسيما بالنظر إلى وضعية اليونان باعتبارها دولة عضو بالاتحاد الأوروبي".
وأضاف: "هناك بالتأكيد دافع اقتصادي وراء مثل هذا التواصل؛ لأنَّ بعض هذه العقود مربحة للغاية، وليس كل شيء متعلق بالنفط والغاز. في هذه الحالة، يبدو أنَّ حكومة الوفاق تدعم المطالب التركية بالسيادة في مجالٍ واحد لزيادة قدرتها على شراء الأسلحة منها".
حفتر يصعد من هجماته على طرابلس
يأتي توقيت تجدد الدعم العسكري التركي في ظل تعرُّض حكومة الوفاق لضربات جوية متزايدة في طرابلس، وقال إيتون إنَّه في حين امتثلت تركيا سابقاً لطلبات الفاعلين الخارجيين بتقليص إمدادات الأسلحة لكلا الطرفين بغرض تحسين فرص الحوار، فإنَّ حكومة الوفاق ربما لم يعجبها ذلك الالتزام من جانب أنقرة على أساس أن الداعمين لحفتر لم يمتثلوا.
وأضاف إيتون: "لدينا بعض عدم التناسق؛ إذ يُطلَب من حكومة الوفاق تقديم تنازلات استعداداً لتسوية سياسية. لكن في رأي حكومة الوفاق، لا يُطلَب من المعتدي في هذه الجولة الأخيرة من الصراع، أي حفتر، تقديم تنازلات فعلاً وهو مستمر في تكثيف الهجمات على طرابلس".
بالإضافة إلى ذلك، أثارت التقارير المتزايدة بشأن وجود مرتزقة من شركة "فاغنر" الروسية، يقلبون الموازين لصالح حفتر، مخاوف واشنطن من تنامي النفوذ الروسي في المنطقة، ما أدى إلى تكهُّنات بمنح الولايات المتحدة الضوء الأخضر لإبرام الاتفاق مع تركيا عبر حلف شمال الأطلسي "الناتو".
قلق أمريكي من الوجود الروسي
قال عبدالفتاح: "أمريكا مستاءة جداً من تمركز روسيا في شرق المتوسط، سواء كان ذلك في سوريا أو ليبيا"، وأضاف أنَّه في حين تناور تركيا بعلاقاتها الاستراتيجية مع أوروبا وروسيا والناتو من خلال صفقات الأسلحة ومشروعات الطاقة، فإنَّه "يمكن الاستفادة من البلاد للمساعدة هنا، لكنَّ هذا ينطوي بالضرورة على حقوق أو مكاسب استراتيجية لتركيا".
مؤتمر برلين والفرصة الضيقة
ومن المعترف به على نطاق واسع أنَّ المؤتمر القادم بشأن ليبيا في برلين، والرامي لتخفيض التصعيد، أمامه مسار ضيق ووعِر، وذلك في ظل انقسام الفاعلين الدوليين المختلفين بليبيا في مجلس الأمن الدولي. والاتفاقان الأخيران قد لا يؤديان إلا لجعل تحقيق مهمة إنهاء العنف في المنطقة أكثر صعوبة.
ولم يكن الحظر الحالي المفروض من جانب الأمم المتحدة على نقل الأسلحة إلى ليبيا ذا أثرٍ كبير.
فقال إيتون: "إذا خرج مؤتمر برلين بإعلانٍ لوقف إطلاق النار، لكن دون أن يدعمه أحدٌ فعلاً، فماذا ستكون النتيجة في حال انتهاكه؟ هناك بالفعل قرارات تعزز حظر السلاح، لكنَّ هذا لم يعنِ أنَّ أحداً حاول تطبيقها فعلاً".