تستغلّ حركة استيطانية إسرائيلية حديثة النشأة التواجدَ العسكريَّ المتصاعدَ لجيش الاحتلال في جنوب سوريا، والواقعَ الأمنيَّ الهشَّ هناك، ساعيةً إلى إقامة بؤر استيطانية داخل أراضٍ سورية، من خلال تنفيذ اقتحامات متكرّرة للحدود على مرأى من الجيش الإسرائيلي، فيما يكشف تتبّعُ نشاط الحركة أنها تتلقى دعماً من شخصيات يمينية متطرفة داعمةٍ تقود أو تشارك في مشاريع استيطانية مشابهة، تستهدف جنوب لبنان وقطاع غزة.
"عربي بوست" رصد في هذا الاستقصاء نشاط الحركة الاستيطانية التي تُطلق على نفسها اسم "رواد باشان"، وتتبع نشاطها الإعلامي، وشبكة داعميها، والمزاعم التي تروجها لتبرير اقتحامها للأراضي السورية، ومن خلال الاستعانة بصور الأقمار الصناعية تم تحديد المواقع التي وصل إليها المستوطنون داخل سوريا، قبل أن يعيدهم الجيش الإسرائيلي إلى الأراضي المحتلة.
ويُبيّن تحليل خطاب "روّاد باشان" أن تحركاتها المتزامنة مع مشاريع استيطانية تقودها حركات يمينية أخرى في جنوب لبنان وقطاع غزة تندرج ضمن رؤية أوسع للتعامل مع المناطق الحدودية غير المستقرة المحيطة بإسرائيل، بوصفها مساحات مفتوحة قابلة لإعادة تعريف الحدود عبر بوابة الاستيطان.
ترتكز هذه الرؤية على معادلة متشابهة، تبدأ باستغلال النفوذ العسكري الإسرائيلي في المناطق الحدودية ما يتيح اقتحام الحدود من المستوطنين، ثم الدفع باتجاه المطالبة بإقامة مستوطنات دائمة.
نشأة "رواد باشان"
بدأت حركة "روّاد باشان" نشاطها في أبريل/ نيسان 2025، كحركة استيطانية ناشئة لم تُسجَّل رسمياً داخل إسرائيل بعد، وتضم مستوطنين ينتمون إلى مستوطنات في الجولان والضفة الغربية، وتطرح الحركة منذ انطلاقها مشروعاً واضحَ المعالم، يتمثل في إقامة مستوطنات إسرائيلية في جنوب سوريا، ضمن ما تسميه "إقليم باشان".
يعود مصطلح "باشان" إلى تسمية وردت في الكتاب المقدس لدى اليهود، والذي يُشير إلى منطقة جغرافية واسعة شرق نهر الأردن وجنوب غرب سوريا، وتعني كلمة "باشان" الأرض المستوية أو الممهدة، المعروفة بتربتها الخصبة.
تزامن ظهور "روّاد باشان" مع تصاعد ملحوظ في وتيرة التوغلات العسكرية الإسرائيلية داخل جنوب سوريا، وتجاوز هذا التوغّل حدود المنطقة العازلة الفاصلة بين الأراضي السورية والجولان المحتل، وفي هذا السياق تدعو الحركة بشكل واضح إلى استغلال الوجود العسكري الإسرائيلي والتوسع الميداني القائم، باعتباره "فرصة مواتية" لإطلاق مشروع استيطاني داخل الأراضي السورية.
يكشف رصد النشاط الرقمي للحركة عن اعتمادها على قنوات تواصل ونشر متعددة، من بينها مجموعة على تطبيق "واتساب" تستخدمها من أجل التنسيق وتبادل النقاشات المتعلقة باقتحام الحدود السورية، وتنظيم المشاركة فيها.
تعرض الحركة عبر هذه المجموعة تصورها للاستيطان بوضوح، معتبرة أن "الاستيطان في كامل الباشان يُعد امتداداً طبيعياً للاستيطان في الجولان"، وأنه، بحسب زعمها، "سيسهم في استقرار المنطقة وتعزيز أمن إسرائيل".
تستخدم الحركة مجموعتها على "واتساب" كأداة أيضاً للحشد وجمع الدعم، إذ خصصت رقماً هاتفياً للتواصل مع الراغبين في المشاركة بأنشطتها، ووجّهت رسائل مباشرة إلى الإسرائيليين دعتهم فيها إلى الانضمام إليها، تحت شعار "معاً نحول رؤية الاستيطان في الباشان إلى واقع"، كما أنشأت رابطاً مخصصاً لتلقي الدعم المالي، بهدف تمويل أنشطتها المرتبطة باقتحام الحدود السورية.

وعلى منصات التواصل الاجتماعي لدى الحركة صفحتان على "فيسبوك" لتغطية أنشطتها، وتروّج الصفحتان التبريراتِ نفسها التي تعتمدها الحكومة الإسرائيلية من أجل التدخل في سوريا، من خلال اللعب على وتر الأقليات.
في أحد المنشورات، نشرت صفحة داعمة لـ"روّاد باشان" صورةً لما قالت إنه نطاق جغرافي يضم ممراً يؤدي إلى "جبل باشان"، في إشارة إلى جبل العرب في محافظة السويداء السورية. وهي تسمية اعتمدها حكمت الهجري، أحد مشايخ الطائفة الدرزية، في سياق إظهار تقاربه مع إسرائيل التي يتلقى منها دعماً.
وأرفقت الصفحة الصورة بمنشور قالت فيه إن "الممرّ إلى جبل الباشان" يهدف إلى ربط المنطقة، التي تُعد موطناً لغالبية الدروز، بـ"دولة إسرائيل"، بزعم توفير الحماية لهم.

وبالتوازي مع تحركاتها الميدانية، تسعى "روّاد باشان" إلى نقل مشروعها الاستيطاني من حيّز المبادرات غير الرسمية إلى المستوى السياسي داخل إسرائيل، فمن خلال موقع إسرائيلي مخصص لتقديم العرائض الإلكترونية أنشأت الحركة عريضة تطالب فيها المجلسَ الوزاريَّ الإسرائيليَّ بالمصادقة على الاستيطان في جنوب سوريا.
تُظهر صيغة العريضة، التي وقّع عليها حتى الآن 214 شخصاً، جانباً مركزياً من رؤية الحركة، إذ أشادت بالتدخل الإسرائيلي المباشر في سوريا عقب ساعات من سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، واعتبرت أن الاستيطان المدني هو المفتاح لإحكام السيطرة العسكرية الإسرائيلية داخل سوريا.
انطلاقاً من ذلك، دعت الحركة الوزراء الإسرائيليين إلى منح الضوء الأخضر للمستوطنين الراغبين بالاستيطان في جنوب سوريا، ما يسمح بترجمة المشروع الاستيطاني من طموح أيديولوجي إلى قرار سياسي مُعلن، قابل للتنفيذ على الأرض.

اقتحام "رواد باشان" للأراضي السورية
منذ بدء نشاطها وحتى تاريخ 29 ديسمبر/ كانون الأول 2025، اقتحم منتسبون لـ"رواد باشان" الحدودَ السورية 3 مرات، في إحداها شارك أطفال في الاقتحام من أجل إقامة بؤرة استيطانية داخل الأراضي السورية، بالقرب من السياج الحدودي.
يُظهر تحليل المواد البصرية التي نشرتها الحركة، من صور ومقاطع فيديو، أن هذه الاقتحامات لم تكن عشوائية من حيث اختيار المواقع. فقد تكرّر الدخول إلى الأراضي السورية عبر المنطقة المقابلة لمستوطنة "ألوني هبشان" في الجولان السوري المحتل، ما يشير إلى اختيار نقاط عبور محددة تتيح سرعة الحركة، وسهولة التوثيق البصري للاقتحام، ثم الانسحاب خلال وقت قصير.
في المقابل، يزعم الجيش الإسرائيلي أنه لا يطّلع على عمليات اقتحام المستوطنين للحدود إلا بعد وصولهم إلى داخل الأراضي السورية، رغم الرقابة العسكرية المشددة التي يفرضها على الحدود مع سوريا على مدار الساعة.
وتتبع عمليات الاقتحام نمطاً متكرراً تعتمده الحركة، يبدأ بتجاوز السياج الحدودي أو قطعه، ثم الدخول المحدود زمنياً إلى العمق السوري، ورفع لافتات أو أعلام ذات دلالات استيطانية، وفي بعض الحالات يعمد المستوطنون إلى وضع ما يصفونه بـ"حجر أساس" رمزي لإقامة بؤرة استيطانية، قبل أن يتدخل الجيش الإسرائيلي لإعادتهم إلى الأراضي المحتلة.
وعقب كل عملية اقتحام، يجري توظيف ما حدث إعلامياً بشكل شبه فوري، عبر نشر المواد المصوّرة وإرفاقها بدعوات للحشد، والتحريض على تنفيذ اقتحامات مماثلة في مراحل لاحقة.
وتتبع "عربي بوست" تفاصيل عمليات الاقتحام الـ3 للحدود من قبل "رواد باشان"، وحدد بصور الأقمار الصناعية المواقع التي وصل إليها المستوطنون.
وقعت عملية الاقتحام الأولى في أغسطس/ آب 2025، بعدما عبرت مجموعة من الإسرائيليين برفقة أطفالهم الحدود ودخلوا إلى الأراضي السورية، في محاولة لإقامة ما أسموه مستوطنة "نويه هبشان".
وحدث الاقتحام الثاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، إذ اقتحم نحو 13 مستوطناً الحدود إلى سوريا في موقعين، الأول في منطقة جبل الشيخ التي استولت إسرائيل عليه عقب سقوط نظام الأسد، والثاني قرب قرية "بئر العجم" التابعة إدارياً لمحافظة القنيطرة.
استخدم المستوطنون مناشير كهربائية لقطع السياج الحدودي، ثم دخلوا إلى الأراضي السورية بمركباتهم، وتزعم الرواية الإسرائيلية الرسمية بأن جيش الاحتلال لم يلحظ نشاط المستوطنين إلا بعد وصولهم إلى الأراضي السورية.
ويُظهر تحديد الموقع الذي دخله المستوطنون في هذا الاقتحام أنهم وصلوا إلى وسط قرية "بئر العجم"، في مساحة تبعد عن السياج الحدودي نحو كيلومتر واحد، ما يعكس مستوى التوغل الذي بلغته العملية.


أما الاقتحام الثالث للحدود، فوقع في ديسمبر/ كانون الأول 2025، حيث عاد عدد من المستوطنين إلى التوغّل داخل الأراضي السورية، ونشرت الحركة صورةً لأحد المستوطنين الذين تمكنوا من عبور الحدود، ما أتاح تحديد الموقع الذي التُقطت فيه الصورة.
ظهر المستوطن على بعد نحو 500 متر عن قرية بئر العجم، التي تبعد عن السياج الحدودي مع إسرائيل نحو كيلومتر داخل المنطقة العازلة، وسبق أن شهدت بلدة بئر العجم عمليات اقتحام متكررة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.

كذلك ظهرت مجموعة من المستوطنين في فيديو، وهم يقومون بتصوير أنفسهم داخل الأراضي السورية في الموقع نفسه لظهور المستوطن بالقرب من بلدة بئر العجم، وكان عدد من الجنود الإسرائيليين يكتفون بمشاهدتهم قبل إعادتهم إلى داخل الأراضي المحتلة.

يميني متطرف وراء "رواد باشان"
يقف خلف نشاط حركة "روّاد باشان" اليميني المتطرف الداعم للاستيطان عاموس عزاريا، وهو أكاديمي يُدرّس في جامعة أريئيل، المُقامة داخل إحدى المستوطنات في الضفة الغربية.
يُعدّ عزاريا من بين الشخصيات البارزة في إسرائيل الداعمة لمشاريع الاستيطان خارج حدود الأراضي المحتلة، ويرى بأنّ الاستيطان يمنح ذريعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي للتواجد في المناطق الحدودية للدول المجاورة.
لدى عاموس تصريحات متطرفة جداً، فخلال مقابلة له نشرها موقع "كان" الإسرائيلي، قال عاموس إنه يحلم بـ"تهويد غزة وجنوب لبنان" حتى ولو كان الثمن آلاف القتلى من الفلسطينيين.
وكان عزاريا من بين الإسرائيليين الذين شاركوا في اقتحام الأراضي السورية برفقة مستوطنين آخرين في أغسطس/ آب 2025، ويُظهر تتبّع نشاطه الاستيطاني وجود ارتباط مباشر له بحركة استيطانية أخرى تُعرف باسم "يوري تسافون" (استيقظ يا شمال)، والتي تسعى لإقامة مستوطنات إسرائيلية في جنوب لبنان.
وتحظى حركة "يوري تسافون" بتسجيل رسمي في إسرائيل، وأظهرت بيانات تسجيلها التي اطلعنا عليها أنها تأسست بتاريخ 26 ديسمبر 2024، ومسجّلة بالرقم: 580806883.

تدعم حركة "يوري تسافون" بشكل واضح تحركات حركة "رواد باشان" في سوريا، إذ سارعت، عقب اقتحام المستوطنين للأراضي السورية في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2025، إلى إعلان تأييدها للتحرك و"مباركة" عملية اختراق الحدود.
كذلك روّجت حركة "انهض يا شمال" لمؤتمر عقدته حركة "روّاد باشان"، دعت من خلاله إلى ما اعتبرته "استغلال الفرصة"، في إشارة إلى التواجد العسكري الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، من أجل إقامة مستوطنات فيما تسميه "منطقة باشان".

يرتبط عزاريا، الذي يقود حركة "رواد باشان"، بعلاقات مع شخصيات استيطانية متطرفة جداً في إسرائيل، ويقدّم دعماً لها، فمثلاً دعم عاموس، في مارس/ آذار 2025، ترشيح الإسرائيلية دانييلا فايس إلى جائزة نوبل.
تُعد فايس من أبرز الوجوه الإسرائيلية الداعمة للاستيطان، إذ أسهمت في تأسيس عدد من المستوطنات، كما تُعد من المؤسسين لحركة "نحالا" الاستيطانية واسعة النشاط، التي تدعو إلى إعادة الاستيطان في قطاع غزة، وبسبب مواقفها المتطرفة فرضت بريطانيا عليها عقوبات في مايو/ أيار 2025، متهمة إياها بالتحريض على العنف ضد الفلسطينيين.
كذلك تحظى حركة "رواد باشان" بدعم واضح من شخصيات إسرائيلية يمينية متطرفة داعمة للاستيطان، فخلال مؤتمر عقدته الحركة في القدس في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، شاركت شخصيات متطرفة في المؤتمر، من بينهم:
موشيه فيجلين: يميني متطرف، وعضو سابق في الكنيست الإسرائيلي ضمن حزب "الليكود" الذي يقوده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لديه العديد من الدعوات لتوسيع الاستيطان الإسرائيلي، إلى جانب تصريحات يدعو فيها إلى مسح غزة وقصفها على غرار ما حدث في "هيروشيما".
باروخ مارزل: ناشط إسرائيلي يميني متطرف، ويُعرف بمواقفه الداعية إلى "التطهير العرقي" للفلسطينيين ومواجهاته العنيفة مع السكان الفلسطينيين.
يسرائيل أريئيل: حاخام إسرائيلي متطرف، مؤسس "معهد الهيكل"، الذي يطمح إلى بناء "الهيكل الثالث" في القدس، وهو معبد يهودي مزعوم يُعتقد أنه سيُبنى في المستقبل في القدس، في الموقع المعروف يهودياً باسم جبل الهيكل، وهو نفسه موقع الحرم القدسي الشريف.
يُعد نشاط "رواد باشان" امتداداً لتطور مشهد التواجد العسكري الإسرائيلي منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، إذ استغلت تل أبيب هشاشة الوضع الأمني الناجمة عن الانهيار المفاجئ للنظام، ووسّعت من حضورها العسكري في جنوب سوريا، عبر إقامة قواعد عسكرية.
ولا تزال إسرائيل، حتى اليوم، تواصل توسيع هذه القواعد وتعزيز انتشارها العسكري في المنطقة، بالتوازي مع تنفيذ عمليات توغّل متكررة داخل القرى والبلدات السورية. وفي بعض الحالات شملت هذه العمليات تنفيذ اعتقالات، كما أسفرت أحياناً عن سقوط ضحايا مدنيين، كما حدث في قرية بيت جن نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، حين أدى هجوم جوي ومدفعي إسرائيلي إلى استشهاد ما لا يقل عن 13 شخصاً، بينهم نساء وأطفال.
وتقول إسرائيل إنها تريد منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري تمتد على مساحة عشرات الكيلومترات، كما أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين المتكررة تؤكد أنه لا نية لتل أبيب في المستقبل القريب الخروج من المناطق التي دخلتها في سوريا عقب سقوط نظام بشار الأسد.