أظهر السقوط المدوّي لنظام بشار الأسد في سوريا مزيداً من الأسرار عن الفروع الأمنية شديدة القسوة في البلاد، وذلك مع نشر وثائق تم استخراجها من عدد من الفروع، منها وثائق تظهر اعتقال النظام لفلسطينيين وإخفاءهم، وملاحقة آخرين منهم بتهم "الارتباط بحركة حماس"، فيما لا يزال آلاف الفلسطينيين مختفين بحسب ما جمعه "عربي بوست" من بيانات وتوثيقات.
الوثائق تبيّن تناقضاً كبيراً في التصريحات السابقة للنظام عن دعمه للفلسطينيين والمقاومة، وتقدّم صورة سوداوية عما كان يتعرّض له الفلسطينيون في سوريا، لا سيّما خلال سنوات الثورة التي بدأت منتصف مارس/آذار 2011، وأفضت في النهاية إلى إسقاط نظام الأسد يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
الوثائق المنشورة تتبع فروع مخابرات متعددة، أبرزها فرع الأمن العسكري 235، أو ما يُعرف بـ"فرع فلسطين"، والذي تصفه "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" بأنه "من أشد فروع المخابرات العسكرية قسوة".
النظام اعتبر حركة حماس "خائنة"
من الوثائق التي انتشرت على شبكة الإنترنت من "فرع فلسطين"، وتحقق "عربي بوست" من صحتها، وثيقة يعود تاريخها إلى عام 2022، وتتضمن خطاباً من الفرع الأمني إلى النيابة العامة في "محكمة الإرهاب"، يتحدث عن معتقل فلسطيني اسمه علاء صلاح الدين الأيوبي.
يطالب الفرع من النيابة العامة تجريم المعتقل بـ"جرم الارتباط بحركة حماس والنشاط لصالحها"، وتصف الوثيقة الأمنية الحركة الفلسطينية بأنها "خائنة".
وثيقة سرية مسربة من أجهزة المخابرات السورية في فرع فلسطين الأمني بدمشق، يصف فيها نظام الأسد المخلوع سجناء حركة حمـ ـاس بالإرهـ.ـابيين.#يني_شفق #سوريا #فلسطين #سوريا_حرة pic.twitter.com/YxGLs0iaia
— يني شفق العربية (@YeniSafakArabic) December 12, 2024
يعود السبب في هذا التوصيف إلى أن حركة "حماس" رفضت، مع بدء الثورة، طلب النظام استخدام قدراتها وسلاحها في سوريا ضد السوريين المعارضين للنظام، وتسبب موقفها هذا في التضييق عليها، قبل أن تضطر الحركة إلى إغلاق مقارها ومغادرة الأراضي السورية عام 2012.
وعلى الرغم من أن الحركة أرسلت وفداً في عام 2022 إلى دمشق والتقى خلالها بالأسد، إلا أن موقف النظام لم يتغير تجاه الحركة.
فايز أبو عيد، مدير "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا"، التي ترصد الانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون في سوريا، قال لـ"عربي بوست"، إنهم وثّقوا اعتقال النظام لما لا يقل عن 50 شخصاً "بتهمة الانتماء إلى حركة حماس" منذ 2011 وحتى تاريخ سقوط النظام.
وأشار أبو عيد أيضاً إلى أنهم وثّقوا اعتقال النظام لآخرين من حركات فلسطينية أخرى متواجدة في سوريا.
وحصل "عربي بوست" من "مجموعة العمل" على نسخ من وثائق تم استخراجها من الفروع الأمنية، بينها وثيقة من الفرع 216، تتضمن أوامر من الفرع بمراقبة عدد من الفلسطينيين واعتقالهم فور العثور عليهم، وتعود الوثائق المنشورة إلى عام 2019، وكانت تصف الفلسطينيين المطلوبين بأنهم "إرهابيون"، وفق تعبيرها.
في هذه الوثيقة، يطلب الفرع الأمني 216 وضع مواطن فلسطيني اسمه عز الدين محمد عوض "تحت المراقبة السرية والدقيقة"، وتسرد الوثيقة أيضاً أسماء 5 فلسطينيين آخرين تصفهم بـ"الإرهابيين"، وتتضمن أمراً باعتقالهم جميعاً فور مشاهدتهم.
تتضمن وثائق أخرى طلباً بإجراء "دراسة أمنية شاملة ومفصلة" عن أسماء 5 فلسطينيين، وتشير إلى الاشتباه بصلاتهم بما وصفته "مجموعات إرهابية مسلحة"، دون توضيح مزيد من التفاصيل.
آلاف الفلسطينيين المختفين في سوريا
وكحال عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين الذين لم يتم العثور عليهم حتى الآن، لا تزال عائلات فلسطينية في سوريا تبحث عن مصير أبنائها المختفين بعد اعتقالهم في سجون النظام المخلوع.
وبحسب ما أكده مدير "مجموعة العمل"، أبو عيد لـ"عربي بوست"، فإن العدد الكلي الذي وثقته المجموعة للمختفين قسرياً من الفلسطينيين في سوريا هو 3040 شخصاً، وقال إن هناك 49 طفلاً لا يُعرف عن مصيرهم شيء حتى الآن.
وعلى الرغم من أن عدد المختفين بالآلاف، إلا أن أبو عيد أكد أن "هذا العدد قليل جداً لأن هناك عائلات كانت تخشى الإبلاغ عن اعتقال أبنائها، إضافة إلى تكتم النظام على الأسماء، وهؤلاء لا يُعرف عن مصيرهم شيء، وهم في عداد الموتى".
في حين بلغ عدد الفلسطينيين الذين قضوا تحت التعذيب في معتقلات نظام الأسد 643 منذ عام 2011 وحتى سقوط النظام، بينهم 37 امرأة.
ويؤكد أبو عيد أنه تم التعرف على 77 فلسطينياً من خلال "صور قيصر" التي سربها عسكري سوري سابق. وأظهر جزء من "صور قيصر" (وعددها 55 ألفاً) جثامين معتقلين تمت تصفيتهم والتنكيل بجثامينهم. وعلى إثر نشر جزء من الصور عام 2014، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على نظام الأسد أصبحت تُعرف بـ"عقوبات قيصر".
ومع تحرير فصائل المعارضة للمعتقلين من السجون، بلغ عدد الفلسطينيين الذين أُفرج عنهم 48 شخصاً، بينهم 19 رجلاً كانوا معتقلين في سجن صيدنايا، و19 في سجن حلب.
ومن بين المفرج عنهم أيضاً 8 فلسطينيين لم يكونوا من الذين عاشوا بشكل كامل في سوريا. وهؤلاء من طولكرم، وجنين، ولبنان، والأردن، ومنهم من اعتقله النظام منذ الأعوام 1977، و1981، و1982.
ومنذ عام 2011 وحتى سقوط النظام، وثقت "مجموعة العمل" أعداد الضحايا الفلسطينيين في سوريا، وتضم الحصيلة 533 امرأة، و135 لاجئاً فلسطينياً أُعدموا ميدانياً، بينهم 16 أُعدموا على يد قوات النظام في حي التضامن بدمشق.
اعتقال أجانب ولاجئين
وحصل "عربي بوست" على نسخة من وثيقة حصلت عليها "مجموعة العمل"، صادرة عن فرع المخابرات الجوية، وتظهر اعتقال النظام لعرب غير سوريين من جنسيات لبنانية، وفلسطينية، وأردنية، ووجه النظام لهم تهماً متعددة.
اطلعنا أيضاً على وثائق أخرى تظهر اعتقال نظام الأسد السابق لفلسطينيين من مواليد مدينتي صفد والخليل، وقد وُجهت لهم اتهامات متعلقة بـ"الإرهاب".
إلى جانب فرع المخابرات الجوية، كان "فرع فلسطين" يتولى هو الآخر مسؤولية اعتقال الفلسطينيين والأجانب، بحسب ما أكدته نور الخطيب لـ"عربي بوست"، وهي مسؤولة ملف المعتقلين في "الشبكة السورية لحقوق الإنسان".
كان "فرع فلسطين" قد أُنشئ منذ البداية بهدف مراقبة المنظمات الفلسطينية واللاجئين الفلسطينيين في الأراضي السورية. وقالت الخطيب إن "جزءاً كبيراً من صور قيصر" تعود إلى معتقلين كانوا مسجونين في هذا الفرع الأمني.
ويعتقل "فرع فلسطين" الفلسطينيين والسوريين على حد سواء. وأشارت الخطيب إلى أنه في السنوات الأخيرة أصبح الفرع يعتقل الأجانب واللاجئين الفلسطينيين الذين عادوا إلى سوريا، بما في ذلك أولئك الذين يمتلكون جنسيات أخرى.
وأكدت الخطيب أن "الشبكة السورية" وثقت ما لا يقل عن اختفاء 189 شخصاً، بينهم 9 سيدات و12 طفلاً من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في سوريا، كانوا معتقلين في فرع فلسطين بمدينة دمشق منذ مارس/آذار 2011 وحتى يوم سقوط حكم الأسد.
وعلى الرغم من أن الفصائل العسكرية التي أطاحت بالأسد قد فتحت السجون والفروع الأمنية المعروفة، إلا أنه لا يزال هناك عشرات الآلاف من المعتقلين لم يتم العثور عليهم. وتقول الشبكة السورية إن "النظام قتل أكثر من 85 ألف مختفٍ قسرياً تحت التعذيب".