شتاء 1901 أشرف عالم الآثار السويسري غوستاف جيكيه على أعمال تنقيب في سوسة عاصمة الدولة العيلامية (إيران حالياً) فاكتشف العمال مسلة سوداء كبيرة مغطاة بالكتابة المسمارية يعلوها نحت بارز، وهي مدونة قوانين نُشرت في القرن 18 قبل الميلاد من قبل الملك البابلي حمورابي.
وصُممت مسلة حمورابي على شكل إصبع السبابة لتكون كالقسم وعلامة تحذير؛ نظراً لكونها وثيقة قانونية، وُصنعت من حجر الديوريت الأسود، ويبلغ طولها 225 سنتيمتراً، وقطرها 60 سم، أما عدد قوانينها فنحو 282 مادة.
ويعتلي مسلة حمورابي شخصان اثنان، أحدها يجلس على ما يبدو أنه عرش وهو في تقدير المؤرخين شمش، "إله الشمس" لدى البابليين، وآخر واقف يصغي بإمعان، وهو الملك البابلي حمورابي.
وكان حمورابي ملكاً بابلياً حكم في القرن 18 قبل الميلاد، بعد أن وحد فتوحاته في ظل حكومة مركزية في بابل، فكرّس قواته لحماية حدوده وتحقيق الازدهار الداخلي لإمبراطوريته، وأشرف على تنمية قطاعات الملاحة والري والزراعة وتحصيل الضرائب وبناء العديد من المعابد.
مسلة حمورابي.. من بابل إلى إيران
عُثر على مسلة حمورابي في مدينة سوسة، عاصمة عيلام الواقعة اليوم بولاية خوزستان جنوب غرب إيران، أثناء حفريات البعثة التنقيبية الفرنسية (1901-1902)، وهي موجودة حالياً في متحف اللوفر الفرنسي.
ويعود سبب وجودها في عيلام (إيران) لكون ملك العيلاميين شتراك ناخونته، غزا بلاد بابل في القرن 12 قبل الميلاد ونهب كل ما استطاع حمله إلى عيلام، ومن ذلك مسلة حمورابي، فحاول أن يمحو بعض القوانين منها ويزيل اسم الملك حمورابي ويستبدله باسمه لكنه تراجع.
وكان سبب تراجع ملك العيلاميين شتراك ناخونته يعود إلى أن الملك حمورابي أنهى نحث مسلته بسلسلة من اللعنات موجهة إلى كل من تسول له نفسه إزالة اسمه أو تشويه المسلة والمس بها وبقوانينها.
غير أن رواية أخرى تذكر أن الملك العيلامي استطاع أن يتلف سبعة أعمدة من القوانين، لكن العلماء والمؤرخين استطاعوا معرفة الأعمدة الممسوحة بفضل نسخ مكسورة أخرى مشابهة للمسلة تضم نفس موادها في مواقع متعددة من مدن العراق.
وبهذا يتضح أن مسلة حمورابي كانت منسوخة عدة نسخ وموزعة على المدن العراقية آنذاك، وقد تكون نسخة في دوائر الدولة للرجوع إليها أثناء إصدار الأحكام وفض النزاعات بين الناس والمواطنين.
ولا تحتوي مسلة حمورابي على أرقام، ولكن بعض الباحثين في علوم الآثار ذكروا أن العلماء المحدثين قاموا بتقسيم المواد القانونية بناءً على مضمون النص، فاعتبروا كلمة ( شُمّ) التي تعني (إذ) بداية مادة قانونية، وأعطوا للمواد تسلسلاً من خلال المنهجية نفسها واتُّفِق على أن يكون عدد المواد 282 مادة.
الطريق إلى اللوفر
خلال الحفريات التي أجراها جاك دي مورجان نهاية القرن 19 في الدولة العيلامية (إيران حالياً) اكتشف مجموعة من القطع الأثرية، التي كان ينوي بمجرد انتهاء الحملة الثانية، عرضها في فرنسا في معرض Grand Palais شهر مايو سنة 1902.
تم استقدام مسلة حمورابي إلى فرنسا في إطار قانون مشاركة الآثار، إذ في مطلع القرنين 19 و20، كان نظام المشاركة الذي يؤطره القانون المصري أحد المنافذ التشريعية لتزويد المتاحف الأوروبية بمجموعة من القطع الأثرية النفيسة.
أخذ المنقبون الفرنسيون مسلة حمورابي إلى متحف اللوفر، حيث تُعد اليوم إحدى القطع المركزية في قسم الآثار الشرقية، في حين نشر القس الدومينيكاني الأب جان فنسنت شيل، الذي شارك في اكتشافها، الترجمة الأولى لمضمونها في وقت مبكر من عام 1902.
يُرجح المؤرخون أن يكون قانون حمورابي قد نُقش على لوحات أخرى في بابل، ولكن لم يتم العثور عليها، إلا أنه يمكن سد بعض الفجوات الموجودة في المسلة المعروضة في متحف اللوفر من خلال نحو 40 نسخة من مقتطفات أخذت من المدونة.
مسلة حمورابي.. نص قانوني فريد
يذكر عامر سليمان، المؤرخ العراقي المتخصص في التاريخ، في كتاب القانون في العراق القديم أن قانون حمورابي لم يعد بحاجة إلى تعريف، ويعتبر أكمل وأنظم قانون مدون مكتشف في العالم حتى الآن.
وعلى الرغم من أن بعض القوانين العراقية القديمة قد جردت قانون حمورابي من صفة الأسبقية في الصدور إلا أنه ظل المحور الأساس لأي دراسة تاريخية قانونية في العراق القديم باعتباره القانون الوحيد الذي وصلنا بصيغته الأصلية وباعتباره أكمل وأنظم قانون مكتشف من جهة أخرى.
ولم يكن اكتشاف قانون حمورابي والتعرف عليه عام بين سنتي 1901-1902 من قبل البعثة الفرنسية في إيران أمراً غير متوقع لدى الباحثين والمعنيين بدراسة النصوص المسمارية وبصورة خاصة القانونية منها.
فقد مهدت السنوات العشر السابقة لاكتشافه للتكهن المستند إلى بعض الحقائق بوجود قانون شرع في عهد الملك حمورابي أشهر ملوك العهد البابلي القديم وسادس حكام سلالة بابل الأولى.
ومع ذلك فقد تمكن العلماء من إكمال ما يقرب من نصف حجم النقص الموجود على مسلة حمورابي، ولعل أهم النسخ المكتشفة حديثاً، تلك التي يعود تاريخها إلى أواخر العهد البابلي القديم والتي قام بدراستها العالم فنكلشتاين مؤخراً.
غير أن ما ذكره حمورابي في مقدمة قوانينه عن الإنجازات التي كان قد حققها سواء عسكرية كانت أم عمرانية يرجح فرضية أن القوانين صدرت في السنوات الأخيرة من الحكم، وقد حددت السنة الـ 40 من حكمه على أنها السنة التي أصدر فيها حمورابي قوانينه.