جاءت الخطوة الأمريكية لحجب المعونة العسكرية عن مصر لتؤكد أن إدارة بايدن لم تعد مقتنعة بالإجراءات التي أقدمت عليها الحكومة المصرية خلال الأشهر الماضية، وحاولت من خلالها الترويج لتحسين سجلها الحقوقي.
وأفرجت مصر عن حوالي 1000 من معتقلي الرأي في الفترة الأخيرة، لكن أمريكا مستمرة في الضغط على القاهرة، في توقيت سياسي حساس، قبل أيام من استضافة مدينة شرم الشيخ المصرية قمة المناخ "كوب 27".
وحجبت الولايات المتحدة بشكل متقطع 205 ملايين دولار من إجمالي 300 مليون دولار من المساعدات العسكرية الموضوعة تحت تصرّف الكونغرس، الذي وضع شروطاً تضمنت إحراز تقدم واضح ومستمر في إطلاق سراح السجناء السياسيين.
إفراجات القاهرة لم تقنع واشنطن
لم يكن إفراج القاهرة عن مئات المعتقلين خلال الأشهر الماضية كافياً لإقناع السيناتور الأمريكي باتريك ليهي، رئيس لجنة المخصصات بمجلس الشيوخ، ولا حتى باقي النواب، بأن هناك تطوراً إيجابياً في السجل الحقوقي المصري.
وتتحدث تقارير حقوقية عن وجود آلاف المساجين على ذمة قضايا سياسية، ولم تتم محاكمتهم منذ سنوات، بالإضافة إلى اعتقال مئات الأشخاص الآخرين بدلاً من الذين أفرجت عنهم، وبدا أن أمريكا أدركت أن القاهرة تُراوغ.
يقول مسؤول حكومي مصري لـ"عربي بوست"، إن قرار حجب المساعدات أحدَثَ حالةً من الغضب في دوائر مصرية عديدة؛ لأن الخارجية الأمريكية وعدت بالإفراج عن 170 مليون دولار، بعد أن حجبت الشهر الماضي 130 مليون دولار.
وأضاف المصدر نفسه أن الحكومة المصرية تلقت ردوداً إيجابية من الخارجية الأمريكية، بعد إفراج لجنة العفو الرئاسي عمّا يقرب من 1000 سجين في مصر في الفترة الأخيرة.
الاعتراضات الأمريكية، حسب المصدر نفسه، جاءت قبل أيام فقط من اتخاذ قرار حجب 75 مليون دولار جديدة، وطالبت بالإفراج عن عدد من المعتقلين، أبرزهم أحمد دومة، وعلاء عبد الفتاح، وزياد العليمي، الذي أُفرج عنه بالفعل.
وأشار المصدر، الذي تحدَّث لـ"عربي بوست"، أن هناك انفتاحاً مصرياً على إمكانية الاستجابة للمطالب التي قدَّمتها واشنطن، لكن في مواعيد تُحدِّدها القاهرة، دون الاستجابة الفورية التي انتظرتها الولايات المتحدة.
أدوات ضغط مصرية
كشف مصدر "عربي بوست" أن مصر لديها قناعة بأن الولايات المتحدة ليس بإمكانها خسارة القاهرة كحليف استراتيجي مهم في المنطقة، وأن مصر كانت حاضرة بفاعلية في الأزمات التي أحاطت بالقضية الفلسطينية.
وأضاف المتحدث أن مصر جنَّبت غزة خلال العامين الأخيرين دخول الحرب مرتين مع إسرائيل، إلى جانب تحكمها في قناة السويس، باعتبارها أهم ممرات الشحن بالعالم، في ظل أوضاع عالمية غير مستقرة.
وكانت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، كشفت خلال زيارتها للقاهرة أنها "أجرت نقاشاً صريحاً مع المسؤولين المصريين حول تعليق الأموال، وعلاقتها بحقوق الإنسان".
وأضافت المتحدثة أن الأمر متعلق بمعتقلين بارزين هم موضع الاهتمام، ليس فقط في واشنطن، ولكن في جميع أنحاء أوروبا، إلى جانب قضية أكبر تتعلق بالحبس الاحتياطي في مصر.
ويمكن فهم العفو عن عضو مجلس النواب المصري السابق زياد العليمي في هذا السياق، وبدا من الواضح أن القاهرة لا تخشى فحسب التأثيرات السياسية لقرارات حجب المعونة، لكنها أيضاً أضحت أمام مخاوف حقيقية من عدم نجاح قمة المناخ.
ولم تتلقَّ مصر وعوداً صريحة بمشاركة الرئيس الأمريكي جو بايدن في القمة، إذ رفضت المسؤولة الأمريكية التطرق للأمر خلال زياراتها للقاهرة، ما جرى فهمه على أن أمريكا مازالت تنتظر مزيداً من الإجراءات من القاهرة.
غياب بايدن عن قمة المناخ
كشف مسؤول أمني مصري أن الهوة تتسع بين القاهرة وواشنطن قبل أيام من قمة المناخ، وأن إدارة بايدن تضغط على النظام المصري، ليس فقط على مستوى تحسين السجل الحقوقي، لكن الأمر يتعلق بمواقف القاهرة من الحرب الروسية.
وقال المصدر لـ"عربي بوست"، إن "هناك ضغوطات عديدة تعرضت لها الدبلوماسية المصرية خلال الشهرين الماضيين، لتغيير موقفها الذي وُصف بـ"محايد"، من الحرب الروسية الأوكرانية".
وأضاف المتحدث أن مساعدة وزير الخارجية الأمريكي في الشرق الأوسط تحركت للدفع بالقاهرة نحو التصويت لصالح مشروع قرار يُدين الاستفتاءات الروسية لضم الأراضي الأوكرانية في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأكد المصدر نفسه أن القاهرة كانت ستمتنع عن التصويت، كما أن أمريكا هددت باتخاذ إجراءات عقابية ضدها، إذا استقبلت شحنات نفط روسية بموانئها المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
كما احتجّت أمريكا، حسب المصدر الذي تحدث لـ"عربي بوست"، على استقبال القاهرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل ثلاثة أشهر.
واشنطن، حسب المصدر نفسه، لا تستريح لبطء الإفراجات الحالية عن سجناء الرأي، ودائماً ما تتحدث عن وجود آلاف المعتقلين الذين لم يرتكبوا جرائم عنف، وتستند في ذلك إلى تقارير حقوقية عديدة.
فيما تردّ القاهرة بأنها تقوم بدراسة الحالات التي تستحق الإفراج، وما زالت في طريقها نحو إطلاق سراح أكبر عدد من سجناء الرأي، وفي النهاية ليس هناك قناعة أمريكية بما يؤكده المسؤولون المصريون؛ ما يجعل هناك فجوة بين الطرفين.
مخاوف مصرية من دعم أمريكا للمعارضين
يعتقد سياسي مصري تحدث لـ"عربي بوست" أن تأثيرات حجب المساعدات الأمريكية على مصر ليست في القيمة المالية المقتطعة، والتي تشكل ما يقرب من 15% من قيمة المساعدات العسكرية التي تبلغ ملياراً و300 مليون دولار سنوياً.
لكن مصر، حسب المصدر، متخوفة من كون أمريكا ترسل إشارة إلى المعارضين بالداخل الذين يستعدون لأي احتجاجات مستقبلية بأنها تدعم مطالبهم، الأمر الذي سيُساهم في وجود بيئة مواتية للتظاهر.
وقبل أن يحجب الكونغرس الأمريكي جزءاً جديداً من مساعداته لمصر، تحدَّثت العديد من التقارير الحقوقية عن التعذيب في السجون، والاعتقال العشوائي للمزيد من المعارضين وغير المعارضين.
بالإضافة إلى أن مصر- يقول مصدر "عربي بوست"- تنتهج سياسة "تدوير" الاعتقال، أي إعادة إدراج عدد من الذين يحصلون على البراءة أو إخلاء السبيل في قضايا جديدة، وهي مخالفة قانونية متكرّرة وشائعة يتعرّض لها معارضون سياسيون في مصر.
ورصدت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، امتناع 50 شخصاً عن المثول أمام قاضي التحقيقات، خوفاً من تدويرهم على ذمّة قضايا جديدة، تزامناً مع ظهور طريقة جديدة تُدعى "المحاضر المجمّعة"، ابتكرتها ودأبت على تنفيذها جهات أمنية بمعاونة النيابة العامة في الفترة الأخيرة.
وكذلك رصدت "كوميتي فور جستس"، وهي جمعية دولية مستقلة للدفاع عن حقوق الإنسان مقرها في جنيف، 950 انتهاكاً متنوعاً: 53 حالة إخفاء قسري، و7 وقائع تعذيب داخل السجون ومقارّ الاحتجاز، و22 سوء أوضاع احتجاز، و10 حالات حرمان عمدي من الرعاية الصحية (داخل سجون شهيرة كمجمع طرة والقناطر للنساء ووادي النطرون)، و16 وفاة داخل مقارّ الاحتجاز.
المعونة ورقة الضغط بيد أمريكا
يقول مسؤول أمني إن أمريكا تأخذ من قضية حقوق الإنسان ورقة لتقليص معونتها الموجهة للإنفاق العسكري في مصر، كما أنها تضغط لدفع مقابل الأسلحة الأمريكية، بالإضافة إلى تحجيم الانفتاح المصري على قوى عديدة لإبرام صفقات معها، وفي مقدمتها روسيا والصين.
ولا يعتقد المصدر ذاته، الذي تحدث لـ"عربي بوست" بأن الإفراج عن مزيد من المعتقلين سيكون في صالح تخفيف الضغوطات الأمريكية، ويرى أنه كلما قدمت بلاده تنازلت في الملف الحقوقي ضُغط عليها بصورة أكبر.
وكشف المتحدث أن القاهرة لديها خطة للإفراج عن آلاف المعتقلين على مراحل مختلفة خلال العام المقبل، رغبةً منها في إحداث انفراج داخلي للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية، ولإتاحة هامش من الحرية قبل انتخابات الرئاسة في 2024.
ويوضح مصدر حقوقي أن العلاقات بين مصر الولايات المتحدة شأن لا يعني المنظمات الحقوقية، والمهم أن حالة حقوق الإنسان لم تشهد تطوراً ملحوظاً بعد ما يقرب من 4 أشهر على إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي.
وأشار المتحدث في حديثه مع "عربي بوست" إلى غياب أي إرادة سياسية لتحسين حالة حقوق الإنسان، وما يحدث على أرض الواقع يشير لوجود إجراءات شكلية، لمحاولة إيهام الداخل والخارج بأن هناك تحسناً.
وقال المتحدث: "مازال هناك حبس مطول بحق آلاف السجناء، ومازال التضييق على المنظمات الحقوقية المستقلة، كما أن قضية التمويل الأجنبي للمنظمات الحقوقية المفتوحة منذ العام 2011 لم يتم إغلاقها بعد، ومازال المتهمون فيها ممنوعين من السفر، ومجمدة أموالهم، كما أن إغلاق عدد من السجون وتغيير اسمها جاء بالتوازي مع إنشاء أخرى جديدة".
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”