تسير خطة الحكومة المصرية نحو خصخصة التعليم الأساسي والجامعي بخطوات ثابتة، ومثلما أقدمت على إنشاء الجامعات الأهلية التي حددتها بمصروفات تضاهي نظيراتها من الجامعات الخاصة، فإنها تسير بالوتيرة ذاتها في التعليم الأساسي الذي يستوعب أكثر من 25 مليون طالب في المراحل المختلفة ودشنت مشروع مدارس مصر المتميزة وهي هادفة للربح بالتعاون مع القطاع الخاص على حساب إنشاء المدارس الحكومية المجانية.
بدأ وزير التربية والتعليم الجديد، رضا حجازي، الذي تولى منصبه قبل شهر تقريباً، نشاطه بافتتاح أولى مدارس مشروع "مدارس مصر المتميزة" بمحافظة السويس، وهو المشروع الذي تشارك فيه الوزارة كطرف أساسي في عملية الاستثمار بالتعليم إلى جانب القطاع الخاص، وتقضي بدفع مصروفات دراسية تتجاوز 3000 جنيه في العام الواحد لكل طالب، بما يمهد للانتقال نحو مزيد من تشييد المدارس التي يغلب عليها طابع المدارس الخاصة، دون مراعاة للطبقات الفقيرة وحتى المتوسطة.
مخالفة الدستور
وعلمت "عربي بوست" من مصادر داخل وزارة التربية والتعليم في مصر أن هناك توجهاً للتوسع في هذا المشروع عبر بناء 3243 مدرسة في 1150 موقعاً على مستوى الجمهورية، ما يعني أن المدارس الجديدة ستعمل بنظام الفترتين (الصباحية والمسائية)، ما سيكون له تأثيرات سلبية على معدلات تحصيل الطلاب.
وتتوسع الوزارة في إنشاء تلك المدارس في الوقت الذي تحتاج فيه لبناء 9 آلاف مدرسة حكومية بإجمالي 250 ألف فصل دراسي لسد العجز في المدارس الحكومية، ما يبرهن على توسعها في افتتاح المدارس ذات طبيعة المصروفات على حساب المدارس المجانية.
ويؤكد مصدر مطلع بوزارة التربية والتعليم، رفض ذكر اسمه، أن الوزارة اختارت الطريق الأسهل للتعامل مع العجز المتزايد في أعداد الفصول والمدارس بحجة عدم القدرة على توفير 130 مليار جنيه قيمة إنشاء المدارس الحكومية المجانية، ولجأت إلى حيل أخرى تستطيع من خلالها سد جزء من العجز وعدم تحمل نفقات لا تتماشى مع ميزانيتها السنوية، وسعت خلال السنوات الثلاث الماضية لجذب عدد من رجال الأعمال وإقناعهم بالمشاركة في مشروع "مدارس مصر المتميزة".
القطاع الخاص الرابح الأكبر بدعم الحكومة
ويوضح أن الشراكة بين الوزارة والقطاع الخاص تقوم على أن توفر الحكومة الأراضي المطلوبة لبناء المدارس، على أن يتولى القطاع الخاص مهمة الإنشاءات والتشغيل، لتصبح الأرض ملكاً لرجال الأعمال أو الشركات الخاصة بعد 20 عاماً من التشغيل، وخلال تلك المدة يتقاسم الطرفان الأرباح، قبل أن تتحول المدرسة من "رسمية" ذات مصروفات زهيدة إلى خاصة يتحكم فيها صاحب الأرض في المصروفات المقررة عليها.
تمهد الخطوة لتخلي الدولة عن مهمتها الأساسية في بناء وتشغيل المدارس لصالح القطاع الخاص، الذي سيكون مستفيداً من تلك الشراكة التي تمنحه أرباحاً سنوية ضئيلة إلى حد ما، لكنه يصبح أمام مقر دراسي متكامل قد يحقق له أرباحاً طائلة حال كانت لديه الرغبة في بيعه أو تحويله إلى مدرسة خاصة بمصروفات مرتفعة، حسب ما يقررها.
ويضيف المصدر ذاته أن وزارة التربية والتعليم هي الأخرى تحقق مكاسب مادية من وراء المشروع؛ لأنها ستحصل على عوائد أكثر من 3 آلاف مدرسة في غضون السنوات الخمس المقبلة المقررة للانتهاء من المرحلة الأولى للمشروع، ولدى الحكومة خطة للاستفادة المالية من أكبر قدر من المدارس المفتتحة حديثاً، والتي تتوسع فيها خلال السنوات المقبلة بهدف تحقيق أرباح تقول إنها ستوظفها لبناء مدارس حكومية مجانية.
تروج الوزارة للمشروع الجديد بالتطرق لكون المدارس التي تقول إنها "متميزة" مزودة ببنية تكنولوجية وفراغات لممارسة الأنشطة، وتقول إنها تهدف لإعداد جيل قادر على المعرفة، وكأن باقي مدارسها لا تحقق الأهداف ذاتها، وتتحدث الوزارة عن أنها قامت بتشييد المدارس الجديدة عبر تطوير الواجهات الخارجية ومراعاة الصحة النفسية للطلاب، ما ينعكس إيجابياً على الأداء التعليمي، وإضافة ملاعب لم تكن موجودة من قبل مثل التنس وبادل التنس وملاعب متعددة الأغراض.
فساد الأبنية التعليمية
ويشير مصدر مطلع بهيئة الأبنية التعليمية، التي تتولى مهمة إنشاء المدارس الحكومية في مصر وتشرف كذلك على إنشاء المدارس الخاصة والرسمية إلى أن الميزانية السنوية التي تخصصها الحكومة للهيئة لا تتجاوز 8 مليارات جنيه، في حين أن الوصول للكثافة المثالية داخل الفصول وهي (30 إلى 35) طالباً في الفصل الواحد بحاجة إلى 130 مليار جنيه.
والأكثر من ذلك أن تلك النسبة لا يتم توجيهها بشكل كامل لبناء مدارس جديدة، ويخصص الثلث فقط لذلك الغرض، أي ما يقل عن 3 مليارات جنيه سنوياً، والثلث الآخر يتجه إلى توسعة المدارس وبناء ملحقات لها، بما يوفر أماكن جديدة لاستيعاب الطلاب في المناطق مرتفعة الكثافات، والثالث إلى الإحلال والتجديد والصيانة السنوية.
المصدر ذاته يشير إلى أن هناك مشكلة أخرى تتمثل في إيجاد الأراضي المناسبة للبناء، لكن يبقى ذلك حجة غير منطقية؛ لأن الدولة استطاعت أن تجد أماكن لبناء ما يقرب من 3 آلاف مدرسة ضمن "مشروع مدارس مصر المتميزة"، كما أن هناك نمواً مضطرباً في بناء المدارس الخاصة والدولية، ما يشير إلى وجود أراضٍ كافية، لكن الأزمة تكمن في عدم وجود إرادة سياسية.
وسجّلت المدارس الخاصة نمواً كبيراً خلال السنوات الماضية، يمثّل تقريباً ضعفَي النمو في المدارس الحكومية، حيث بلغ معدل نموها قرابة 4.4% من عام 2014 وحتى عام 2019، وفق تقرير مؤسسة "كوليرز إنترناشيونال" المتخصصة في الملف التعليمي.
أشار التقرير إلى أن عدد الطلاب المسجّلين بالمدارس الدولية والخاصة في مرحلة التعليم الأساسي، زادَ خلال السنوات الخمس الماضية بنسبة 6.3% مقارنة بـ3.6% في القطاع الحكومي، متوقعاً أنه ستكون هناك حاجة إلى ما يقارب 2.1 مليون مقعد جديد في مدارس القطاع الخاص بمصر بحلول عام 2030، منها حوالي مليون مقعد تقريباً في القاهرة وحدها.
نمو المدارس الخاصة
وتشير إحصاءات وزارة التربية والتعليم إلى أنها لم تشيد سوى 3 آلاف مدرسة حكومية في الفترة ما بين 2016 وحتى 2021، في حين أنه كان لديها خطة تتضمن إنشاء 10 آلاف مدرسة على مدار 10 سنوات بدءاً من عام 2017، ولم ترى الخطة النور عقب إقالة وزير التربية والتعليم الأسبق محمود أبو النصر، وارتفع عدد المدارس الحكومية خلال 5 سنوات من 45 ألفا و279 مدرسة حكومية إلى 48 ألفاً و580 مدرسة حكومية العام الماضي.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن ما يقرب من 2 ونصف مليون طالب يشغلون مقاعد المدارس الخاصة التي تشكل 15% من إجمالي المدارس الحكومية، بينما يتكدس في التعليم الحكومي المجاني ذي المصروفات الزهيدة ما يقرب من 22 مليون طالب، وهو ما يوضح الفارق الكبير بين كثافات المدارس الحكومية التي تسجل في الكثافات المرتفعة إلى 120 طالباً في الفصل الواحد، وبين المدارس الخاصة ذات المصروفات والتي تضطر إليها بعض الأسر لتسجيلها نسب كثافات لا تتجاوز 30 طالباً في الفصل الواحد.
2000 مدرسة آيلة للسقوط
سبق هذه الخطوات، تحركات استباقية انتهجتها وزارة التربية والتعليم منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة قبل 8 سنوات، للتوسع في إنشاء مدارس حكومية بمصروفات بالشراكة مع جهات مانحة وهيئات خاصة، وهو ما أسفر عن وجود المدارس اليابانية التي تضاهي مصروفاتها المدارس الخاصة، وتصل إلى 15 ألف جنيه سنوياً، في حين أنها مقدمة بمنحة يابانية لتطوير التعليم، وكذلك مدارس النيل الدولية، وتدرس مناهج دولية وتصل مصروفاتها أيضًا إلى 15 ألف جنيه، إلى جانب المدارس الحكومية الدولية، وكذلك المدارس التكنولوجية التطبيقية، وجميعها بمصروفات دراسية تحت إدارة وإشراف الحكومة.
ويشير أحد أعضاء نقابة المعلمين المصرية إلى أن سياسة الحكومة المصرية في التمادي بتجاهل المدارس المجانية قد ينذر بكارثة خلال العامين المقبلين؛ لأن هناك أكثر من 2000 مبنى مدرسي آيل للسقوط، وهناك مبانٍ أخرى تحاصرها القمامة ومياه الصرف الصحي ولا يتوفر بها الحد الأدنى من الخدمات المطلوبة لانتظام اليوم الدراسي.
وبدلاً من أن تبحث عن حلول عاجلة لتلك المباني تتجه للتعاون مع القطاع الخاص لتحقيق مكاسب مادية، ودون أن يكون لديها رقابة على المخصصات المالية التي تذهب لهيئة الأبنية التعليمية، وفي أحيان كثيرة يتم استرجاع ما يتبقى منها إلى خزانة وزارة المالية المصرية وتفويت الفرصة لصرفها على تطوير المباني المتهالكة، بحسب ما يؤكد المصدر ذاته.