بدأت حملات الدعاية والتسويق إلى الجامعات الأهلية المصرية التي أنشأتها الحكومة قبل عامين في الانتشار، وأخذت تتوسع هذا العام مع رغبتها في بدء الدراسة في 12 جامعة جديدة بالمحافظات والأقاليم المختلفة، وتقول الحكومة إنها غير هادفة للربح، لكن مصروفاتها التي تعادل مصروفات بعض الجامعات الخاصة تشير لكونها أحد المشروعات الاستثمارية التي تهيل مزيداً من الأتربة على التعليم الجامعي الحكومي المجاني.
وتثير الجامعات الجديدة تساؤلات عديدة حول تمويلها الذي بلغ 40 مليار جنيه بحسب تقديرات حكومية للمرحلة الأولى من إنشائها فقط؟، وما إذا كانت تلك المبالغ قد ذهبت في إطارها السليم، أم أنها تفاقم أزمات التعليم الجامعي وانفصاله عن سوق العمل؟ ولماذا لا تخصص الحكومة جزءاً من تلك الأموال لتحسين أوضاع الجامعات الحكومية التي تعاني تدهوراً غير مسبوق في الخدمة التعليمية التي تقدمها؟
وتأتي المفارقة هنا من أن الحكومة أنفقت هذه المبالغ على الجامعات الجديدة، في حين تفتقر جامعات قائمة بالفعل إلى معامل وأدوات دراسية، أبرزها كلية طب الأسنان جامعة دمنهور، وهي جامعة حكومية (دون مصروفات)، وهو ما قاد في النهاية لأن يتعلم الطلاب على أسنان الجاموس في واقعة شهيرة وصلت إلى القضاء العام الماضي، وقرر فيها إعادة دراسة الطلاب للمناهج الدراسية في جامعات أخرى وإغلاق الكلية.
توجيه ميزانيات الجامعات الحكومة لإنشاء الأهلية
وبحسب مصدر مطلع بوزارة التعليم العالي المصرية، قال لـ"عربي بوست" إن هناك توجهاً من السلطة الحاكمة نحو اقتطاع جزء من ميزانيات الجامعات الحكومية وتوجيهها نحو إنشاء الجامعات الأهلية، وهو ما انعكس بشكل مباشر على تردي أوضاعها، وأن الخطة بدأت منذ ما يقرب من أربع سنوات، لكن دون الإفصاح عنها، وتضمنت أن توفر الجامعات الحكومية أراضي لإنشاء أخرى أهلية تابعة لها، على أن تتحمّل الدولة تكاليف البناء التي تقوم بها الهيئة الهندسية التابعة للجيش المصري.
ويوضح المصدر أن الجامعات الأربع التي دخلت الخدمة قبل عامين، وهي (جامعة الملك سلمان الدولية بجنوب سيناء، وجامعة العلمين الدولية بالقرب من الحدود الغربية، وجامعة الجلالة شرق القاهرة والمنصورة الجديدة في غرب الدلتا) بلغت تكلفتها الإجمالية 20 مليار جنيه، ومن المقرر صرف أموال مماثلة لحين الانتهاء من استكمال المعامل والمستشفيات الجامعية التابعة لها.
وتعددت مصادر تمويل تلك الجامعات، بحسب المصدر، الذي يشير إلى استقطاع جزء من ميزانيات الجامعات الحكومية التي سيحصل الطلاب على شهادات معادلة منها، إلى جانب مشاركة جهات خليجية كما الحال بالنسبة لجامعة الملك سلمان بمنحة سعودية من ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، إلى جانب القوات المسلحة التي شاركت بعشرات المليارات لإنشاء الجامعات الأربع الأولى.
الجيش المصري يشارك في تمويل الجامعات الأهلية المصرية
يؤكد المصدر ذاته أن الجامعات الجديدة التي ستدخل الخدمة مع بداية العام الدراسي الجديد تتبع بشكل مباشر إلى جامعات حكومية في المحافظات التي تقع فيها وتختلف وضعيتها إلى حدٍّ ما عن الجامعات الأربع السابقة التي شاركت في تمويلها جهات خارجية، فيما يقتصر تمويل الجديدة على الجامعات الحكومية وعدد من هيئات الجيش المصري، بينها الهيئة الهندسية التي تشرف على عملية البناء.
وتشمل الجامعات الأهلية الجديدة : "أسيوط الأهلية، المنصورة الأهلية، المنيا الأهلية، المنوفية الأهلية، الإسماعيلية الجديدة الأهلية وجامعة حلوان الأهلية، الزقازيق الأهلية، بنها الأهلية، قنا الأهلية، الإسكندرية الأهلية، بني سويف الأهلية، شرق بورسعيد الأهلية".
تُعلن الحكومة أن تلك الجامعات ليست هادفة للربح، وأن أموالها توجَّه لدعم الجامعات الحكومية، وهي أحاديث في ظاهرها تبدو صحيحة، لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك؛ لأن الجامعات الحكومية تتحمل جزءاً من المساهمة في إنشاء الكليات الجديدة في مقابل وعود مقدمة لها بأن تلك الأموال ستعود إليها بعد سنوات قليلة، وأن دراسة الجدوى التي قدمتها وزارة التعليم العالي للجامعات جاءت اعتماداً على أرباح الجامعات الخاصة، بحسب ما أكده المصدر ذاته.
بيزنس جديد للحكومة
يبرهن التوجّه الحالي على أن الحكومة تتعامل مع الجامعات الأهلية كبيزنس يحقق أرباحاً طائلة على المدى البعيد، ويساهم في مزيد من إضعاف جودة الجامعات الحكومية لتكون شبيهة بتجربة المدارس الحكومية التي أضحت طاردة للطلاب، وليس لديها الإمكانات أو المعلمين القادرين على التدريس للطلاب حال ذهبوا إليها، وفي تلك الحالة يكون البديل الأوحد في الدروس الخصوصية أو المدارس الخاصة والدولية، وتسير الجامعات في هذا الطريق بخطى سريعة دون دراسة للتأثيرات السلبية التي تتركها مثل هذه القرارات.
ويتساءل أحد أعضاء هيئات التدريس الجامعي عن الدوافع التي تجعل الحكومة تنفق مليارات الجنيهات على الجامعات الأهلية الجديدة، في حين أنها تستقطع من الميزانيات البحثية بضعة ملايين بحجة توفير النفقات الحكومية، ويعتبر أن ما يحدث في قطاع التعليم الجامعي يقطع الطريق على أي محاولات للتطوير؛ لأن هدف الحكومة الأساسي تحقيق أرباح مالية وليس الارتقاء بالبحث العلمي.
وصدقت الحكومة المصرية قبل نهاية العام الماضي على قرار يقضي بتخفيض وترشيد الإنفاق الحكومي للجهات الداخلة في الموازنة العامة للدولة، وتقليص إنفاق الجامعات الحكومية، بما فيه الإنفاق على المؤتمرات العلمية، أو المساهمة في تكاليف سفر أعضاء هيئات التدريس للمشاركة في مؤتمرات دولية.
يؤشر البناء الشكلي للجامعات الأهلية الجديدة على كونها مشاريع لا تولي اهتماماً بجودة العملية التعليمية بقدر اهتمامها بسرعة الحصول على أموال تعوض فيها المليارات التي صرفتها، وأن جامعة الجلالة على سبيل المثال بدأت الدراسة في كليات الطب دون أن تكون مجهزة، وواجه الطلاب خلال عامهم الأول صعوبات عديدة نتيجة عدم تجهيز المعامل، واضطروا للذهاب إلى جامعات حكومية أخرى لتلقي تدريباتهم العملية، بحسب ما أشار إليه عضو هيئة التدريس المنتدب إليها.
تكرار تجارب الطرق والكباري في الجامعات
ويضيف المصدر لـ"عربي بوست" أن العمل في إنشائها يسير بمنطق الطرق والكباري يتطلب إنجازها توفير الموارد المالية للهيئة الهندسية، سواء كان ذلك من القوات المسلحة أو الجامعات أو المخصصات الحكومية الأخرى ليكون الانتهاء من بنائها في فترة وجيزة، لكنها تبقى بلا خدمات داخلية، وتقوم الخطة على إلحاق الطلاب بالجامعات أولاً، ثم البحث عن استكمال تجهيزاتها، وهو ما أثر سلباً على جذب الطلاب إليها.
ويوضح أن الجامعات الحكومة تئن في الوقت الحالي من ضخامة التكلفة التي تتكبدها دون أن تتأكد من أنها ستجني ثمار ما تدفعه من عدمه؛ لأن البعض منها لا تتوفر لديه الأراضي المتاحة لإقامة الجامعات الجديدة، وتبحث عن مصادر تمويل مختلفة ويتطلب الأمر توفر مبالغ تصل إلى 10 مليارات جنيه، وهي مبالغ طائلة لا تستطيع الجامعات تحملها، وينعكس الأمر على انكماش ميزانياتها التعليمية.
هروب حكومي من إلغاء مجانية التعليم الجامعي
ويقول خبير تعليمي لـ"عربي بوست" إن الحكومة المصرية تلجأ إلى تسمية الجامعات الجديدة بـ"الأهلية" وتنص عليها في الدستور الحالي لكي تهرب من مواجهة المجتمع الذي يعترض على أي محاولات لتحويل التعليم الجامعي من مجاني إلى مدفوع، وأن الوصف الدقيق للجامعات الجديدة أنها جامعات حكومية بمصروفات دراسية، وتستهدف تحقيق الربح، مشيراً إلى أن عدداً من الكليات المجانية في طريقها للإغلاق خلال السنوات المقبلة واستبدالها بنظام البرامج المدفوعة المنتشر بالجامعات، وكذلك الجامعات الأهلية الجديدة.
ويشدد على أن الدولة تقضي بتلك التجربة عن أي عدالة اجتماعية تتحدث عنها؛ لأنها تعمل على بيع الشهادات للطلاب الذين لديهم القدرات المالية للحصول عليها ممن حصلوا على مجاميع منخفضة في مرحلة الثانوية العامة، في مقابل أن الفقراء لن يكون لديهم الفرصة ذاتها، ما يعني أنها تحولت إلى "وسيط" أو "سمسار" وتحقق أهداف الجامعات الخاصة التي تستهدف الربح فقط.
ويلفت إلى أن الحكومة، بدلاً من أن تمارس رقابتها على الجامعات الخاصة وتدفعها نحو الاهتمام بالبرامج التي يتطلبها سوق العمل، تسعى لتقليدها دون أي رقابة عليها من خلال التوسع في إنشاء ما يسمى بـ"كليات القمة" أو كليات المجموعة الطبية، في حين أن كلية الصيدلة على سبيل المثال لم تعد بحاجة إلى خريجين جدد، وبدلاً من تخريج 20 ألف طالب سنوياً لا يحتاجهم سوق العمل، سيتم مضاعفة الرقم مع إنشاء الجامعات الأهلية، لتتفاقم الأزمة بشكل أكبر.
سياسات حكومية تفاقم الانفصال بين التعليم وسوق العمل
ويشدد على أن الحكومة تتوسع في إنشاء برامج وكليات بمسميات مختلفة ذات ارتباط مباشر بكلية التجارة التي تستقبل فيها سنوياً بالجامعات الحكومية أكثر من 50 ألف طالب دون أن يكون لديهم مكان في سوق العمل، ويعملون في مهن عديدة ليست لها علاقة بمجال دراستهم، وكان من الممكن توجيه المليارات لإنشاء معامل وكليات متطورة في الأقسام التكنولوجية الحديثة في حين أنها قامت بتعديل المسميات لتربطها بمصطلح "الذكاء الاصطناعي"؛ لكنها لن تقود في النهاية لتخريج أجيال قادرة على الابتكار في هذا المجال وستتحول أيضاً إلى شهادات تمنحها للطلاب.
والتزمت الجامعات الأهلية الجديدة بالحد الأدنى للقبول بالجامعات الخاصة، كما أن مصروفاتها تضاهي مصروفات عدد من الجامعات الخاصة ذات المصروفات المنخفضة، ويبدو أن السبب في ذلك يتمثل في كونها تسعى لتشجيع المستثمرين في مجال التعليم؛ للانخراط في تمويل الجامعات الجديدة في ظل التوسع نحو ما تطلق عليه الحكومة "الشراكة مع القطاع الخاص".
وبحسب تنسيق هذا العام، فإن الحد الأدنى للقبول بكليات طب الأسنان في الجامعات الأهلية يبلغ 76.8%، مقابل 91.3% بالجامعات الحكومية، و65% لكليات الهندسة، مقارنة مع 83.7% بالجامعات الحكومية، و73% لكليات الصيدلة، مقارنة مع 90% بالجامعات الحكومية.
وتتركز غالبية تخصصات الجامعات الجديدة على الكليات التي تحظى بمعدلات قبول مرتفعة بالجامعات الخاصة وعلى رأسها تخصصات الطب والصيدلة وإدارة الأعمال والهندسة بأقسامها المختلفة، وكذلك الكليات ذات الارتباط المباشر بالبرمجة، مثل الحاسبات والمعلومات والذكاء الاصطناعي والتسويق الرقمي واللغات والترجمة والفنون التطبيقية والإعلام.
قروض من البنوك لتمويل الجامعات
وتسعى الهيئة القومية للجامعات الأهلية، وهي هيئة عامة اقتصادية تتبع وزارة التعليم العالي، أنشأتها الحكومة المصرية العام الماضي لحل مشكلات التمويل، للحصول على قروض من بنوك محلية حكومية للاعتماد على تمويل خطتها الإستراتيجية نحو بناء جامعات أهلية في كافة المحافظات مع حلول عام 2030، على أن تسدد الجامعات تلك القروض على سنوات طويلة تصل إلى 15 عاماً، وسط توقعات بتوجيه تلك القروض إلى الجامعات التي ستدخل الخدمة هذا العام مع قلة معدلات الإنجاز فيها.
تتعامل الجهات الحكومية بمنطق الحاجة الذي يدفع الطلاب نحو دفع مصروفات تصل إلى 100 ألف جنيه، ما يعادل 5000 دولار تقريباً في العام الواحد مقابل الحصول على شهادة، وبالتالي فإن خطتها تتضمن إنشاء الجامعات الجديدة في 27 محافظة مصرية، بعيداً عن العاصمة القاهرة المكتظة بالجامعات الخاصة، لضمان نجاح المشروع الذي يوفر على أسر الطلاب مصروفات التنقلات والإقامة في أماكن بعيدة عن مسكنهم الأساسي.
ويتشكل مجلس إدارة الهيئة برئاسة وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وعضوية كل من: المدير التنفيذي للهيئة وممثل عن وزارات: المالية، التخطيط والتنمية الاقتصادية، الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، أمين مجلس الجامعات الخاصة والأهلية، اثنين من رؤساء الجامعات الحكومية من بين الجامعات التي أنشئت جامعات أهلية، اثنين من رجال الأعمال المهتمين بالتعليم العالي والصناعة.