تزداد القبضة الأمنية في مصر يوماً بعد يوم، خصوصاً ما يتعلق بآليات مراقبة المواطنين. فقد نجحت الأجهزة الأمنية المصرية خلال السنوات الماضية في تنفيذ ما يعرف في القاموس الأمني بـ"تحزيم الشارع"، كما وصف مصدر أمني لـ"عربي بوست".
هذا المصطلح الذي يشير إلى عمليات المراقبة الواسعة ظهر بعدما نشرت الحكومة المصرية كاميرات مراقبة جديدة في العديد من شوارع العاصمة المصرية والمحافظات الأخرى.
ربما لا يبدو هذا الأمر مفاجئاً، بل وقد يراه البعض طبيعياً مثلما تقوم به كثير من دول العالم بالفعل، لكن ما لايعرفه كثير من المصريين أن هناك بعض الكاميرات المزودة بتقنيات حديثة تتعلق بالتعرف على الوجوه، تشبه تلك الموجودة في الصين.
"عربي بوست" استطاع الوصول إلى تفاصيل المنظومة الأمنية الجديدة المرتبطة بكاميرات المراقبة وتقنيات التعرف على الوجوه الموجودة حالياً في مصر وأماكن توزيعها وكيفية عملها.
كيف تعمل كاميرات المراقبة الجديدة؟
كشف مصدر أمني مطلع بوزارة الداخلية المصرية عن كيفية عمل تلك الكاميرات، إذ كان هو أحد ضباط الأمن الذين حصلوا على دورة تدريبية للتعامل مع تلك التقنية الحديثة المدمجة في الكاميرات الخاصة بالتعرف على الوجوه.
وأوضح أن تلك الكاميرات تتميز بكفاءة عالية وسرعة، فهي قادرة على الكشف عن الأشخاص المطلوبين في غضون ثوانٍ.
فيها، يستعين نظام التعرف على الوجه بخوارزميات متطورة تقوم بمقارنة الصور الملتقطة عبر كاميرات المراقبة في الشوارع والتجمعات والساحات العامة والمعابر الحدودية، والتي تصل لبرنامج التعرف على الوجوه الذي يحتوي على تلك الصور المسجلة مسبقاً في قاعدة بيانات مصلحة الأمن العام والأمن الوطني والأحوال المدنية، وهي القاعدة التي توفر كل البيانات والصور الخاصة بالأشخاص المطلوبين أمنياً وسياسياً.
وبالتالي، يمكن لبرنامج الكشف عن الوجوه المرتبط بنظام الكاميرات الحديثة كشف هؤلاء المطلوبين تلقائياً من خلال مقارنة صورهم ومقاساتهم الجسدية بصور وفيديوهات مسجلة مسبقاً، أو صور وفيديوهات معينة تم تغذية البرنامج بها، بدقة عالية.
وتعمل التقنية باستعمال خوارزميات الذكاء الصناعي لمحاولة الوصول لأقرب شبه ممكن، ويتم البحث وفق مناطق مميزة في الوجه مثل طول الذقن والجبهة وعمق العينين، وهي معايير تختلف من إنسان لآخر.
ويوضح المصدر أن تلك الكاميرات تتمتع بتقنية التعرف على الأشخاص في الصور الرقمية، وتمتلك خاصية الرؤية الليلية، ولا تتأثر بسوء الطقس، كما أنها ضد الكسر.
كاميرات مراقبة من فرنسا وألمانيا
وذكر المصدر الأمني- الذي فضل عدم التصريح باسمه لحساسية منصبه- أن الكاميرات الجديدة (CCTV) تم استيراد بعضها من فرنسا عام 2017 في صفقة لم يعلن عن قيمتها حتى الآن، رغم مرور 5 سنوات على إتمامها.
لكن ما هو مؤكد أن الصفقة تمت عن طريق حكومة أبوظبي التي تعاقدت مع شركة فرنسية شهيرة في مجال كاميرات وأنظمة المراقبة تدعى Amesys، والتي غيّرت اسمها لاحقاً إلى Nexa Technologies، للحصول على الكاميرات المتقدمة ثم أهدتها للحكومة المصرية.
وأوضح المصدر أن عدداً من الكاميرات تم استيراده من ألمانيا عام 2019.
التمويل من صندوق "تحيا مصر" أو عبر "دول صديقة"
لا يعرف المصدر الأمني حتى الآن قيمة الصفقة، لكنه أشار لوجود ترجيحات داخل الوزارة تشير إلى أن قيمتها بلغت 10 ملايين دولار.
توجهنا إلى وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لعلنا نحصل على إجابة واضحة ومؤكدة. ذكر لنا مصدر مطلع بالوزارة أنه يستحيل عملياً الوصول إلى قيمة صفقات استيراد كاميرات المراقبة الجديدة.
وفسر الأمر بالقول إن عملية الاستيراد لا تتم من خلال الطرق المعتادة عن طريق لجان من وزارة الاتصالات ورئاسة الحكومة وعمل مناقصات وفتح مظاريف وما إلى ذلك من سبل اعتادت الجهات الحكومية اللجوء إليها عند استيراد معدات من الخارج.
صفقات الكاميرات هذه تتم بمعرفة قيادات عليا في الدولة، وبالتالي لا تتاح تفاصيلها إلا لهؤلاء القيادات، وغالباً ما يتم تمويل تلك الصفقات من خلال صندوق "تحيا مصر" الذي لا يعرف أحد تفاصيله وحركة الأموال فيه سوى أشخاص معدودين متصلين برئيس الجمهورية مباشرة.
وأحياناً، يتم تمويل الصفقة من خلال دول صديقة، مثلما فعلت الإمارات مرتين.
وقال المصدر إنه يستطيع التأكيد أنه عرف بعقد 5 صفقات منذ عام 2013 وحتى الآن.
كاميرات المراقبة المتطورة بدأت منذ 2013
حاولنا في "عربي بوست" تتبع قصة كاميرات المراقبة هذه من بدايتها. فقال لنا مصدر بوزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، في اتصال هاتفي، إن فكرة تركيب كاميرات مراقبة متصلة بالشبكة المركزية لمصلحة الأمن العام للكشف عن وجوه المطلوبين أمنياً وكذلك المدرجين على قوائم الإرهاب والمعارض السياسيين، ظهرت قبل تولّي الرئيس السيسي مهامه.
فقد تمت أول صفقة لتوريد هذه النوعية من الكاميرات في خريف عام 2013، عقب أشهر قليلة من إنهاء حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي في 30 يونيو/حزيران من ذلك العام.
تمت الصفقة من خلال دولة الإمارات التي أمّنت تمويلها بهدف "تحزيم" محاولات السياسيين والثوار وأنصار جماعة الإخوان المسلمين، ومراقبتهم والقبض عليهم، على حد وصف المصدر.
وقد تم تركيب الكاميرات المستوردة آنذاك في المحطات الرئيسية لمترو الأنفاق، التي كانت- بحسب التقارير الأمنية وقتها- الأكثر استهدافاً للقيام بأية أعمال تخريبية من قِبَل المعارضين للنظام.
توقع الأزمات قبل ظهورها أبرز مهام التقنية الجديدة
احتلت مدينة القاهرة المركز 67 عالمياً بين 150 مدينة في عدد كاميرات المراقبة بواقع 2.18 كاميرا لكل ألف شخص، طبقاً لدراسة أجرتها شركة "كومباريتك" للأبحاث.
وبلغ إجمالي عدد الكاميرات المثبتة في أرجاء العاصمة المصرية نحو 46 ألفاً و552 كاميرا. وأشارت الدراسة إلى وجود علاقة بين عدد كاميرات المراقبة وانخفاض معدلات الجريمة داخل المجتمعات والحفاظ على السلامة العامة.
مسؤول في إحدى الجهات المتخصصة التابعة لوزارة الداخلية المصرية كشف لـ "عربي بوست" أن التوجيهات التي صدرت بشأن أهمية نظام الكاميرات المتطورة تتلخص في عبارة واحدة هي "ضرورة السيطرة عن بُعد على كل الميادين المهمة وفي الطرق المؤدية إلى المطارات ورصد الحالة الأمنية في البلاد على مدار 24 ساعة، خوفاً من تغلغل المخربين في العمق المصري وتنفيذ عمليات إرهابية"، على حد تعبيره.
وأضاف أن من أهم أولويات تطبيق ذلك النظام توقع الأزمات قبل ظهورها، ثم التعامل بشكل سريع وفعال مع أي أزمة فور وقوعها، فضلاً عن ربط المركز بكافة الجهات المرتبطة بقواعد بيانات الوزارة، حتى يتم تقديم تصور إلى متخذ القرار قبل حدوث الأزمة.
كما يتم استخدام كاميرات المراقبة الجديدة الخاصة بإدارات المرور لمتابعة الحالة الأمنية، وتحقيق رؤية مباشرة لموقع الحدث بهدف الوقوف على الإجراءات اللازمة لتسهيل عمل القوات ميدانياً، في حالات إدارة الأزمة، مثل "التحويلات" و"الإخلاء" و"العزل".
وأشار في هذا السياق إلى أن نظام الملصق الإلكتروني كان فعالاً في تطبيق التقنية الجديدة كونه يوفر معلومات وافرة عن السيارة ومالكها ويسهل تتبعها، خصوصاً أن الكاميرات المستخدمة مزودة بأشعة فوق الحمراء لرصد السيارات والأوزان، ويتم رصد الشخصيات داخل السيارات وعرض البيانات المتاحة عنهم فورياً.
والسؤال: هل ساعدت الكاميرات المتطورة في القبض على مطلوبين أمنياً بالفعل؟
يجيب المسؤول بوزارة الداخلية على هذا السؤال بالإيجاب، مضيفاً أن التقنية الجديدة سهلت عمل رجال الشرطة، وتم بالفعل ضبط أكثر من تنظيم إرهابي يستهدف منشآت الدولة خصوصاً في الفترة التي يطلق عليها بين رجال الأمن "هوجة محمد علي" (يقصد المقاول المصري الهارب في إسبانيا محمد علي الذي دعا المصريين للتظاهر ضد نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صيف عام 2019، واستجاب آلاف لدعوته عبر التظاهر في شهر سبتمبر/أيلول من ذلك العام في ميدان عبد المنعم رياض الملاصق لميدان التحرير وعشرات الميادين في محافظات مصرية مختلفة).
لكن المسؤول عاد ليعترف بأن الوزارة وأجهزة الأمن تعطي الأولوية في استخدام التقنية المتطورة لضبط الإرهابيين والمطلوبين سياسياً أكثر من المجرمين المعتادين.
أين تنتشر هذه الكاميرات؟
وحول أماكن انتشار تلك الكاميرات، قال المسؤول إنها منتشرة على عدد كبير من المحاور والطرق الرئيسية في محافظتي القاهرة والإسكندرية.
هذا إضافة إلى شبه جزيرة سيناء التي تنشط فيها العمليات الإرهابية. وأخيراً، تنتشر الكاميرات المتطورة في كل المدن الجديدة التي يبلغ عددها 12 مدينة، وهي مدينة المنصورة الجديدة، مدينة بني مزار الجديدة، تجمع الوراق الجديدة، مدينة حدائق أكتوبر، مدينة أكتوبر الجديدة، امتداد مدينة الشيخ زايد، صواري الإسكندرية، مدينة سفنكس الجديدة، مدينة النوبارية الجديدة، مدينة الفشن الجديدة، مدينة العلمين الجديدة، مدينة رشيد الجديدة.
وعلم "عربي بوست" من مصادر أمنية أن هناك كاميرات في شارع صلاح سالم وطريق المطار وطريق العلمين والمحاور الرئيسية الجديدة، كمحور المشير ومحور 26 يوليو وطريق السويس وشارع التسعين بالقاهرة الجديدة وكورنيش النيل.
بالإضافة إلى الطريق الدائري والمحطات الرئيسية لمترو الأنفاق والميادين الرئيسية، والأماكن المحيطة بالسفارات.
وقامت أجهزة الأمن بمحافظة الإسكندرية بتركيب أكثر من 220 كاميرا مراقبة جديدة بعضها مزود بتقنية التعرف على الأشخاص المطلوبين أمنياً وكلها على اتصال بغرفة عمليات مركزية لرصد ومتابعة الأوضاع الأمنية باستمرار فى الشوارع والميادين.
الجهات الرسمية حائرة حول الإعلان عن التقنية الجديدة
الغريب في الأمر هو أن الجهات الرسمية في مصر حائرة بين التباهي بامتلاك الدولة لكاميرات المراقبة المتطورة المتصلة بشبكة معلومات مصلحة الأمن العام والتي يمكنها التعرف على وجوه المطلوبين أمنياً في لحظات عبر رصدهم وسط الزحام أو داخل سياراتهم، وبين إنكار امتلاك هذه التقنية.
عدم التصريح بامتلاك التقنية الجديدة يأتي ربما تحاشياً من تأليب منظمات حقوق الإنسان ضد الحكومة التي وجهت لها الكثير من الانتقادات حول التضييق على المواطنين ورصد تحركاتهم واتصالاتهم.
هذه الحيرة ظهرت في تصريحات أدلى بها قبل عامين تقريباً أحمد عبد الهادي، المتحدث باسم الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق، من إنه ستتم ملاحقة المطلوبين أمنياً عبر منظومة مراقبة جديدة، تضم كاميرات في خطوط المترو الثلاثة تتمتع بتقنية التحديد والتحقق من وجوه الأشخاص المطلوبين أمنياً.
وأضاف عبد الهادي أن الكاميرات الرقمية الجديدة يمكنها التعرف على الوجوه المخزنة بقاعدة بيانات مصلحة الأمن العام، ومصلحة الأحوال المدنية، ومن ثم تعطي إخطاراً بتواجد الأشخاص المطلوبين والمسجلين بقاعدة بيانات مصلحة الأمن العامة بمجرد ظهورهم على الكاميرات.
لكن عندما حاولت المواقع المستقلة التواصل معه للحديث بتفصيل أكثر عن هذا الأمر، رفض بدعوى أنه في إجازة، مثلما رفض محمد عز، المتحدث باسم وزارة النقل والمواصلات، التحدث أو توضيح التفاصيل مطالباً من اتصل به بالعودة لمن تحدث عن الموضوع منذ البداية ليعطيه مزيداً من التفاصيل.
تقليد دبي
على الجانب الآخر، قلل باحث بأحد مراكز الدراسات السياسية الخاصة في مصر في تصريحات لـ "عربي بوست"، من القيمة المضافة التي تمنحها تقنية الكاميرات الجديدة للشرطة في ضبط المطلوبين سواء أمنياً أو سياسياً.
وأوضح أن الدراسات الغربية تشير إلى أن نسب خفض معدلات الجريمة وضبط المطلوبين في أغلب الدول التي تطبق تلك التقنية لم ترتفع بشكل لافت، لكن تلك الدراسات أجمعت على أن الهدف الحقيقي من نشر تلك الكاميرات هو بث الخوف والحذر في نفوس المطلوبين لدى الجهات الأمنية مما يدفعهم لتحجيم نشاطهم وتحركاتهم، وهو ما يقود في النهاية إلى أن يسود الهدوء.
وأضاف قائلاً إن استعانة مصر بتقنية الكاميرات المرتبطة بشبكة معلومات الأمن العام خطوة جديدة من الخطوات التي أقدم عليها الرئيس المصري منذ توليه مهام منصبه للسير على طريق الدول الاستعراضية، على حد وصفه، وعلى رأسها دبي التي يبدو أن السيسي منبهر للغاية بتلك الإمارة.
فقد سعى الرئيس المصري في أكثر من مرة لمضاهاة ما تفعله دبي وحاكمها محمد بن راشد، فقام ببناء البرج الأيقوني ليكون الأعلى في إفريقيا، وبنى أكبر مسجد وأضخم كنيسة، وهكذا.
واستدل الباحث على وجهة نظره بأمرين؛ أولهما أن نظام الكاميرات الجديدة تم اقتراحه وتمويله في بادئ الأمر من حكومة الإمارات قبل أن يقرر السيسي التوسع فيها بتمويل مصري.
أما الأمر الثاني فهو ما أعلنته هيئة الطرق والمواصلات في الإمارات قبل فترة عن تركيب كاميرات مراقبة في جميع مركبات الأجرة التابعة لها والبالغ عددها 10 آلاف و684 مركبة، وتعمل الكاميرات، من خلال أجهزة الاستشعار بشكل فوري عند صعود الراكب إلى مركبة الأجرة، مشيراً إلى أن التقارير تؤكد وجود 10 آلاف كاميرا للمراقبة في شوارع دبي، لا تفلت من أنظارها حركة أي شخص في شوارع المدينة، تضاف إليها 3 آلاف كاميرا في المطار وحده.
وكان مصدر مصري رفيع المستوى قد كشف، في تصريحات صحفية قبل عامين، عن تعاقد الحكومة المصرية مع شركات ألمانية وروسية لتغطية جميع أنحاء القاهرة بكاميرات مراقبة متطورة لتأمين مداخل ومخارج العاصمة على غرار الإمارات، على أن تكون البداية في القاهرة والإسكندرية.