هل شاهدتَ فيلم الفرح؟ إذا لم تكن شاهدته فهو فيلم مصري يحكي قصة الشاب زينهم، الذي يضطر لإقامة حفل زفاف واستئجار عروسين ليستردَّ ما دفعه من نقود كمجاملات في الأفراح بعدما ضاقت به الحال، يريد زينهم أن يسدد دينه ويشتري سيارة أجرة. وتتواصل الأحداث الدرامية لتشرح تفاصيل إنسانية تحدث داخل ما تُسمى بـ"أفراح النقطة".
والنقطة من أشهر التقاليد في الأفراح والمناسبات الشعبية المصرية؛ حيث يتسابق المدعوون لتقديم النقود إلى العريس والعروس، يظل العريس يجمع النقود لتكون عوناً له، ويُنفق منها خلال الفترة الأولى من حياته الجديدة، بعد أن يكون قد أنفق أغلب مدخراته استعداداً للزواج.
في السنوات الأخيرة تحوّلت النقطة إلى مشروع استثماري ووسيلة لجمع المال عن طريق التحايل، وعلى طريقة فيلم "الفرح" يجري تنظيم حفلات أعراس وهمية لجمع مبلغ من المال.
ورغم مشاهدتها تتكرر أمامنا باستمرار تظل الكثير من الأحداث والفعاليات الاجتماعية مجهولة الأصل بالنسبة لنا، لا نعرف من أين أتت، وكيف تطوّرت، ومتى أصبحت جزءاً أو مكوِّناً أساسياً من المجتمع، ومن حياة الناس اليومية.. ومن الأحداث أو الفعاليات التي تحفل بالكثير من التساؤلات عن جذورها، وعن تطورها إلى شكلها الحالي؛ نظراً لطبيعتها الغريبة، فماذا يدور في هذه الأفراح؟
كيف بدأت هذه الظاهرة
اعتاد المصريون منح العروسين بعض المال من باب تقديم الدعم لهما في بداية حياتهما الزوجية، وضمان تغطيتهما مالياً في الفترة الأولى من الزواج، التي عادة ما يقضيانها مرتاحين في بيت الزوجية الجديد، وتسمى هذه الأموال الممنوحة للعروسين باسم "النُّقطة"، وظلَّت "النقطة" إلى الآن طقساً ثابتاً في جميع الأعراس المصرية، تُعبّر عن قيمة التكافل الاجتماعي بين المصريين، وبدأت في التسلل كذلك إلى بعض المناسبات الأخرى مثل: احتفالات سبوع المواليد، والولادة، وغيرها من المناسبات.
و"أفراح النقطة" بشكلها الحالي استعارة اجتماعية -إذا صح التعبير- لنقطة الأعراس المصرية الاعتيادية، حيث تحولت فيها النقطة من مبالغ مالية تُهدى على هامش مناسبةٍ ما، كالزواج أو الإنجاب مثلاً إلى هدف بحد ذاتها، تُقام من أجله مناسبة خاصة مستقلة، فيجمع "صاحب الفرح" الناس للسهر والاحتفال بهدف تحصيل النقطة منهم، ويتكرر هذا الحدث باستمرار في الأيام اللاحقة من أشخاص مختلفين، لتدور "النقطة" على آخرين!
احتفالات حتى الصباح
الاحتفال هو قلب أفراح النقطة والعنصر المركزي فيها، فرغم أن الهدف الرئيسي من إقامة هذه الأفراح هو تحصيل النقطة؛ يظل قضاء ليلة سعيدة بالسهر والاحتفال مع الراقصات وترديد الأغاني هو ما يدفع الكثيرين من جمهور أفراح النقطة لحضورها أو المشاركة فيها، ويظهر هذا بوضوح مع بعض المتطفلين على هذه الأفراح، الذين لا تشغلهم النقطة بالطبع، بقدر ما يشغلهم قضاء وقت لطيف في حضرة الراقصات والمشاريب.
يجمع أصحاب الفرح مبالغ كبيرة قد تصل لـ300 ألف جنيه مصري، وفي بعض الأحيان قد تصل إلى مليون، وكلما زادت وجاهة صاحب الفرح ومكانته واتّسعت دائرة علاقاته زاد مبلغ النقطة.
في السابق كان الشارع هو الحاضن الرئيسي لأفراح النقطة، وكان ذلك يسمح بزيادة حجم المشاركة فيها، ولا يحصر جمهورها في فئة أو مجموعة معينة، لكن ولأن مظاهر الاحتفال في أفراح النقطة تتطلب تخطي بعض الحواجز والوقوع في بعض المحظورات، كتدخين الممنوعات مثلاً؛ أصبحت هذه الأفراح هدفاً للجهات والأجهزة الأمنية الرسمية في كثير من الأحيان، ومع تزايُد مضايقات هذه الأجهزة والجهات انتقلت أفراح النقطة من الشوارع العامة والحارات إلى الساحات والقاعات والفيللات، التي تقع في دائرة الملكيات الخاصة.
شخصيات عامة وأعضاء برلمان من بين الحضور
لا يقتصر حضور أفراح النقطة على فئة أو شريحة اجتماعية محددة، كما أن أهداف الحاضرين لهذه الأفراح تختلف، فالبعض يحضر لكونه جزءاً من مسار تدوير النقطة، والبعض يحضر فقط للمشاهدة والاستمتاع، والبعض يحضر بصفته كبيراً للمنطقة أو للحي، وغير ذلك، في النهاية لا تتعجب حين تلتفت إلى يمينك فترى شخصية عامة أو مسؤولاً رفيع المستوى أو عضواً بمجلس النواب، ثم تلتفت إلى يسارك لترى سائقي التكاتك وسيارات الأجرة، فأفراح النقطة تتسع للجميع!
وفي موقع استراتيجي، شديد الوضوح، يجلس المسؤول عن تجميع النقطة خلف طاولة صغيرة، فوقها دفتره الضخم، الذي يسجل فيه أسماء دافعي النقطة، وقيمة ما دفعه كل منهم، ليعد هذا السجل أو الدفتر مرجعاً للأفراح اللاحقة، وتُعبّر القيمة المدفوعة عن قيمة صاحبها بطريقة ما، فكلما زادت القيمة المدفوعة زادت القيمة الأدبية أو الاعتبارية أو الوجاهة الاجتماعية لصاحبها بين الحضور، وفي سبيل نيل هذه المكانة أو الوجاهة قد تجد أحدهم يبادر إلى دفع مبلغٍ ما من المال كنقطة خارج السجل أو الدفتر، مبالغةً في إظهار الكرم والاستغناء، وعدم الاكتراث بتسجيل أو تحديد مدفوعاته في الفرح!
باعة جائلون ومشاهد مدهشة
أفراح النقطة مليئة بالمشاهد اللافتة للانتباه: كعشوائية الصعود إلى المسرح، الراقصات الشعبيات، وسلوكهن الجريء اللامبالي، ولباسهن المكشوف، راقص التنورة الغائب عن الوعي تماماً من فرط الشراب، والباعة الجائلين الذين يجدون في هذه التجمعات فرصة للتكسب لأكل العيش، والشحاذين، الأطفال الذين يحضرون بصحبة أهلهم ثم ينسجمون مع الأجواء تماماً.
تجد أيضاً الإضاءات ذات الألوان الكثيرة والمتنافرة في بعض الأحيان، الفرقة الغنائية التي توفر للراقصات وللحاضرين كذلك الإيقاعات الصاخبة اللازمة للرقص والانسجام، حامل الميكروفون أو النباطشي، الذي يتلو على مسامع الحاضرين أسماء وألقاب جميع الوافدين الجدد إلى الفرح، في ترحيب واحتفاء كبيرين، وتابِعه الأمين الذي يردد خلفه كل كلمة يقولها طوال الفرح، كما لو كان صدىً لصوته، مصور الفيديو الذي يوثق الحدث بتفاصيله… مشاهد مدهشة في حدث مدهش.
يرددون أذكاراً ويقرأون الفاتحة
العاطفة الدينية جزء لا يتجزأ من وجدان المصريين، على اختلاف ممارساتهم وأفكارهم ودرجة التزامهم بتعاليم الدين، هذه هي الحقيقة الوحيدة التي يمكنها تفسير مشهد قراءة الحضور للفاتحة في بداية الفرح، وكثرة ترديدهم للذكر والصلاة على النبي، طلباً للبركة، ولنجاح المقصد، ونيل المطلوب!
أو أن أفراح النقطة لها قوانينها وقيمها وأخلاقياتها الخاصة، التي لا ينافي بعضها بعضاً، هذا أيضاً ما يمكننا به تفسير خجل أحد الحاضرين من رد الشحاذ دون أعطية، فمنحه على الفور -بدافع الكرم- سيجاراً من الحشيش وكأساً من البيرة إجابة لمسألته، في تلقائية وعفوية واضحتين!
مظهر جديد للتكافل الاجتماعي، أو حيلة اقتصادية للتربح، أو ذريعة للتجمع والاحتفال بالغناء والرقص وتناول الشراب، أو طريقة لاستعراض الوجاهة الاجتماعية والنفوذ… يمكنك النظر إليها من الزاوية التي تريد، لكن في النهاية تظل أفراح النقطة ظاهرةً مُرَكَّبة، تعكس الكثير من المعاني، وتنطوي على الكثير من الأسرار.