لا يتوقف العمل في ورشة خياط الجلباب المغربي النادي بنهيندى في مدينة وزان شمال غربي البلاد، فمع انخفاض درجات الحرارة يكثر الإقبال على الجلباب الصوفي أو "الجلابة" كما يطلق عليها المغاربة.
يعمل بنهيندى في ورشته التي أنشأها في تسعينيات القرن الماضي في حي الحدادين، في خياطة أنواع مختلفة من "الجلابات" أغلبها من نوع "الحبة" و "النمرية" و"الشخمة"، فهي الأكثر طلباً كونها تتناسب مع أجواء فصل الخريف والشتاء.
ويحرص هذا الصانع التقليدي على تنويع منتجاته من أجل تلبية رغبات جميع الأذواق والفئات العمرية والمناسبات.
يقول بنهيندى لموقع "عربي بوست" إن الشباب يفضلون الجلباب بتصميم عصري، بينما يميل كبار السن للجلباب التقليدي الأصيل كما توارثهُ المغاربة عن أجدادهم.
يخيط بنهيندى في ورشته الجلابيب الصوفية وفق تصاميم أصيلة وعصرية، ويعتمد على أقمشة مختلفة، لكن "الخرقة الوزانية" هي الأكثر طلباً من زبائنه داخل المدينة وخارجها.
ويميز هذا القماش مدينة وزان، ويُجسد ارتباط ساكنة "دار الضمانة" كما يطلق عليها بالهوية المحلية وباللباس التقليدي الأصيل.
الثوب الوزاني
تتم صناعة الثوب الوزاني أو كما يطلق عليه بالعامية المغربية "الخرقة الوزانية" محلياً بالاعتماد على صوف الخرفان، إذ تنظف النساء هذا الصوف بالماء والكبريت حتى يصبح لونه أبيضَ.
يغزلن النساء الصوف بواسطة آلة تسمى "الناعورة" حتى يتحول إلى كتلة من الخيوط، فيصنع منها حرفيو "الدرازة" أقمشة مختلفة الألوان والزركشة.
يقول النادي إن ما يميز الخرقة الوزانية عن غيرها أنها مصنوعة بالاعتماد على مواد طبيعية وليس اصطناعية كما في بعض المناطق الأخرى، لذلك حظي هذا النوع من الأقمشة بشهرة على الصعيد الوطني، فكل من يقصد المدينة لا يفوته شراء جلباب صوفي أصيل، كما أن ساكنة المدينة مرتبطون بها باعتبارها جزءاً من تراثهم المحلي.
وكانت وزارة الثقافة قد أطلقت دراسة هذا العام حول الجلابة الوزانية الأصيلة من أجل ترشيحها للتصنيف العالمي لليونيسكو كتراث لامادي.
الجلباب المغربي يساير الموضة
يعمل الحرفيون على مسايرة الموضة والاستجابة لتنوُع الأذواق، لذلك أضافوا لمسات عصرية على الجلباب الصوفي.
ويتفنن بنهيندى في إضفاء لمسته الخاصة على عمله، وابتكار أزياء بتصاميم جذابة تستجيب لميول الشباب وأذواقهم.
يقول بنهيندى لـ"عربي بوست" إن الشباب يميلون إلى الجمع بين الأصالة والمعاصرة، لذلك يقبلون على اقتناء الجلابة الصوفية على شكل معطف عصري أو سترة، يتناسب مع مقاس الجسم سواء لحضور المناسبات أو لارتدائها في الحياة اليومية مع سراويل الجينز.
ومع إقبال هذه الفئة على ارتداء الجلباب الصوفي بتصاميم عصرية، يقول المتحدث إن الروح عادت بقوة إلى مهنة الدرازة بعد أن كانت في فترة سابقة تعاني حالة من الكساد.
الجلباب دواء البرد
خارج أوقات العمل، لا يُرى عصام بنشمسي (40 سنة) إلا بالجلباب الصوفي، إذ اشترى قماشاً في إحدى زياراته لمدينة سيدي قاسم، ثم قصد خياطاً رجالياً ليخيط له "جلابة" صوفية على مقاسه.
يفضل عصام في تحركاته في هذا الفصل البارد ارتداء الجلباب المغربي على المعطف الأوروبي، فهو بالنسبة له أفضل وسيلة تحميه من قر الشتاء في العاصمة.
يقول لعربي بوست "عندما أرتدي الجلباب فوق ملابسي العادية فإنني أكون محمياً من رأسي إلى قدمي من لسعات البرد، بالنظر لكون الجلباب الصوفي التقليدي فضفاضاً وله غطاء رأس "القُب"، فهذا اللباس التقليدي في نظره أفضل اختيار في الأيام الباردة ويجعله متحرراً من الملابس العصرية.
وتتميز كل منطقة في المغرب بجلباب يميزها، وضع فيه الصناع التقليديون لمساتهم المستلهمة من خصوصيات المنطقة وتراثها وهويتها المحلية، سواء في الخامات أو التصميم أو الخياطة أو نوعية القماش.
وتعرض في المحلات التجارية في المدن الكبرى تشكيلة متنوعة من الجلابيب تعكس هذا التنوع والغنى، فإلى جانب الجلابة الوزانية، هناك الجلابة الرودانية نسبة إلى تارودانت، والجلابة الفاسية، والشاونية والمراكشية وغيرها حسب المناطق.
للجلباب تاريخ
يُعرف كتاب "معلمة المغرب" الجلابة أو الجلابية بوصفها عباءة واسعة عريضة تتألف من ثلاثة أجزاء رئيسية، يندمج بعضها في بعض بواسطة الخياطة اليدوية، بالإضافة إلى غطاء الرأس ويسمى "القُب"، وغطاء اليدين يُعرّف بالأكمام، وغطاء البدن ويدعى "الكسدة".
كان الجلباب في بداية أمره لباساً خاصاً بالذكور، ثم انتقل استعماله إلى عالم النساء، ويصنع من أقمشة الصوف الدافئة، خاصة الوبر في الفصول الباردة، ومن قماش "المليفة" الخفيف أو القطن أو الكتان في الفصول المعتدلة.
ويشير لغز مغربي شائع إلى الجلباب بالقول: "حاجيتك على اللي تبدأ بالجيم والجيم صنعوها الفهام، ودارو لها سبع فام (أفواه) بحال (مثل) جهنم".
ويقصد بسبع أفواه أن له سبع فتحات "فتحة القُب، والعنق، ومدخل اليد اليمنى واليسرى، وفتحة في الجانب الأيسر والأيمن، وفتحة الأسفل".
وقد كان الجلباب في بداية أمره واسعاً فضفاضاً، ثم أصبح فيما بعد أكثر اقتراباً من الجسم دون أن يحدد تفاصيله أو يحصرها.
وتذكر كل المصادر التاريخية دون استثناء أن رداء "الجلابة" بشكله المعروف اليوم لم يكن متداولاً بين الناس قبل القرن التاسع عشر، ويؤكد البعض أن انتشاره بين عموم الناس لم يبدأ إلا في نهاية القرن المذكور.
وحسب كتاب "معلمة المغرب" فقد حل ارتداؤُه تدريجياً محل لباس يُسمى "الكسا"، وكان يوضع على اللباس الداخلي كرداء خارجي، والذي بدأ يتراجع وحّل الجلباب شيئاً فشيئاً محل "الكسا" بعد أن كان أمره لا يتعدى أوساط المخزن وهم رجال السلطة، والفئات الثرية والميسورة.
وباستمرار التطور أقصي "الكسا" من التداول، وعوضه "الجلابة" الذي أصبح يلبس فوق الملابس الداخلية إما مع السلهام أو بدونه.
وما كاد ينتهي النصف الأول من القرن العشرين حتى خرج الكسا من التداول إلا في حالات نادرة، ولم يحافظ على استمراره كرداء يلبس تحت السلهام إلا في الحفلات الرسمية خاصة لدى أوساط المخزن.
وخلال مرحلة الحماية الفرنسية، أصبح الجلباب رمزاً أساسياً من رموز الهندام المغربي، لذلك استعملته الحركة الوطنية في معركة معاكسة الاستعمار كوسيلة من وسائل المقاومة وصيانة الهوية الوطنية والدفاع عن الذات.